رواية "أنيموس": العبثيّة واللّاجدوى عبر تحوّل تيم إلى تيماء

 

الكتابة فنّ يجسّد الكاتب المحترف من خلاله واقعًا يمكن أن يتّسم بالتطرّف أو الانزياح عن المألوف، أو المتداوَل أو المشروع، أو لطرحٍ كبير التعقيد، يحتّم عليه الخوض في زواياه المظلمة حينًا والمشرقة أحيانًا؛ في مخاض يعتصر من خلاله موروثه المعرفيّ والثقافيّ المتراكم، أو تجاربه العمليّة والحياتيّة، وانكشافه على المحيط، والأكثر حرفيّة حين يتوّجها بذروة عمل إبداعيّ، يصبّ من خلاله كلّ ما جاشت به دواخله، أو فاض به فكره، لقارئ يتعطّش لكلّ ما يثير ذائقته، ويتحرّش بخبايا روحه.

 

معركة اجتماعيّة

إنّ رواية "أنيموس" (فضاءات، 2019) للكاتبة صفاء أبو خضرة، ذات بُعد يطرح أسئلة شائكة وجريئة عن حقيقة الوجود الّذي غمستنا الحياة لأجله في أرحام أمّهاتنا، لنُقذَف منها بين تلاطم الأيّام بلا أشرعة، نبحث فيها عن موانئ. رواية انغمست في علبة حبر أسود، سطّرت الكاتبة فوق صفحاتها معركة اجتماعيّة، تلقي بكلّ تخبّطاتها في صور بلاغيّة تفوّقت على مفرداتها، يقف معها القارئ مخمورًا بكلّ تلك الحرفيّة في صقل نصوصها، ورسم ملامح البلاغة بين سطورها، عبّرت معها عن معاناة تيّم/ تيماء، بقولها: "تستنجد أنفاسك في هبّة ندم، تغمض قلبك فيأتيك ذلك الصوت، يحدث أن تشرب زهرة ريق الصبح، تتناثر الأزقّة في الروح فتعلو الحكايات وتهبط، يحدث أن تنفخ الحقيقة صدر الأمل، وتسيل كلعاب غيمة على سفح الحبّ..." [ص 14].

يتداخل ... صوت الراوي متقنّعًا في صوت الذات المذكّر حينًا والمؤنّث حينًا، والمنفصم أحيانًا، ينتظم في نهايتها ليشكّل مجموعة من الأحداث، يؤطّرها فضاء متغيّر من الزمان والمكان، يرتبط وثيقًا بماهيّة الأحداث وطبيعتها وتطوّرها

وتسلّط أبو خضرة الضوء أيضًا بإبداع متقَن على البُعد البيولوجيّ التكوينيّ، وتأثيره في الأدوار النمطيّة للفرد، سواء أذكرًا كان أم أنثى، تلك المستمدّة من بيئته الاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة؛ فقد ظنّ البشر منذ القِدم أنّ أدوار الإنسان في المجتمع، الّتي اقترح السوسيولوجيّون لها مسمّى "الجندر"، تابعة للأصل البيولوجيّ؛ فيكون الدور الاجتماعيّ تمثّلًا متّسقًا مع البُعد البيولوجيّ له، ويكون بذلك معيارًا يقاس به، ولا تجوز مخالفته أو معارضته؛ وهو ما يعني وفق هذا المنظور أنّ الأدوار الّتي يمارسها الرجل والمرأة في المجتمعات أدوار جوهريّة لا عرضيّة، ناتجة عن جنس كلّ واحد منهم، ومن ثَمّ يغدو أيّ تغيّر في هذا تمرّدًا وخروجًا عن الطبيعيّ، يلزم تقويمه وعلاجه.

 

غوص في الشخصيّات

تتشكّل البنية الروائيّة في رواية "أنيموس" من تضافر عناصر روائيّة وُظِّفَت بحرفيّة، ينتشل القارئ نفسه منها كلّما شعر بأنّه على شفا الوقوع في متاهة حبكة روائيّة شديدة الإتقان، بدءًا من عنوانها الّذي يخوض دهاليز النفس البشريّة وعوالمها، الّتي تبحث عن هويّتها في مغاليق الجسد والمجتمع، يتداخل فيها صوت الراوي متقنّعًا في صوت الذات المذكّر حينًا والمؤنّث حينًا، والمنفصم أحيانًا، ينتظم في نهايتها ليشكّل مجموعة من الأحداث، يؤطّرها فضاء متغيّر من الزمان والمكان، يرتبط وثيقًا بماهيّة الأحداث وطبيعتها وتطوّرها. تتبنّى الكاتبة أبو خضرة من خلال هذا الفضاء لغة السرد المُشْبَعَة بالحوار الداخليّ، بكثافة تكشف عن قدرة إبداعيّة في الكشف عمّا يجول في دهاليز اللاوعي لدى شخصيّات الرواية، يرافقه قدر كبير من الصور الشعوريّة الّتي تصف الحالة المراد توصيلها؛ وهذا يجعلك تخوض المشهد بثلاثيّة أبعاده.

ارتبطت أحداث الرواية بمحاور، كان لها الأثر الكبير في رسم خطوطها، بموازاة تطوّر الشخصيّات وفقًا لتطوّر أحداثها، في محاولة لكشف ما يدور خلف الخطوط الحمراء، في معترك البحث عن الذات، خلف قناع الذكورة حينًا والأنوثة أحيانًا، حين قرّر تيم أن يتحوّل إلى تيماء، فكان يعود إلى ماضيه يتنقّل بين قصاصات وصاياه كلّما خشي أن يتوه، فتضيع ذاكرته من جديد.

تغوص بنا أبو خضرة في عالم النفس البشريّة، باحثة عن معنى الحياة، ودلالات ذلك المعنى، بكلّ تناقضاته الوجوديّة، في شخصيّة بطل الرواية أو بطلتها تيم/ تيماء الّذي/ الّتي تفرّدت معها في تصوير مجمل معاناته/ ها؛ لأنّها شخصيّة مضطربة الهويّة

اعتمدت الكاتبة في روايتها توظيف تقنيّة الاسترجاع السرديّ، والعودة إلى زمن انقضى بعد أن كان تيم فاقدًا للوعي لعشر سنوات خلت، لإيجاد ترابط بين أحداث الحاضر ومحاولة ربطها بالماضي؛ وقد تجلّى ذلك حين تساءل/ ت في نفسه/ ها: "هل يمكن الزمن أن يعود إلى الوراء؟ وإن عاد فهل ستتكرّر الأشياء ذاتها؟ ...، ماذا لو عاد الزمن إلى الوراء؟ أكنت سأستبق الأشياء وأخبر أميرة بمصيبتي، أم كنت سأقف حائرًا متردّدًا من جديد؟" [ص 174].

 

صراع المذكّر/ المؤنّث

تغوص بنا أبو خضرة في عالم النفس البشريّة، باحثة عن معنى الحياة، ودلالات ذلك المعنى، بكلّ تناقضاته الوجوديّة، في شخصيّة بطل الرواية أو بطلتها تيم/ تيماء الّذي/ الّتي تفرّدت معها في تصوير مجمل معاناته/ ها؛ لأنّها شخصيّة مضطربة الهويّة، تبحث على امتداد مساحة 186 صفحة عن ذاتها التائهة، بين الذكورة والأنوثة، بين العمى والبصيرة، بين أن تكون أو لا تكون؛ وهو ما وضعها أمام عبثيّة الحياة واللاجدوى فيها، فجعلته/ ها تحت رحمة القلق الوجوديّ، واليأس والشعور بالعجز، والتفكير في الموت والانتحار، والإحباط، والقهر، والوجع، والضياع، والخذلان، والانتكاس، والانفصام، كما عبّر عنها كيركيغارد، الّذي يُعَدّ الأب الروحيّ للوجوديّة، وتُرجم في ما ورد على لسان تيم/ تيماء حين عبّر/ ت عمّا يدور في داخله/ ها من معارك وجوديّة حين قال/ ت: "لكنّ الأسئلة كانت تتناسل في أعماقي بطريقة مدهشة، وتتوالد كأنّها قنبلة عنقوديّة تريد أن تهدم كلّ ما في وسعها هدمه، ولا تترك شيئًا خلفها قابلًا للحياة" [ص 17].

تعيش الشخصيّة المركزيّة صراعًا داخليًّا، أبدعت أبو خضرة في صقله ببراعة، إلى درجة أن يضيع القارئ بين تفاصيله، وترافقه حالة من التخبّط والغموض المُبهَم، يجتهد معها في ربط الأفكار والأحداث والتصوّرات، في معركة داخليّة يقف/ تقف تيم/ تيماء أمامها في مقارنات لا تتوقّف أمام مشاهد تعرّي فجيعته/ ها، في محاولة لانتشال رفاته/ ها من بين ركام مجتمع لا يرحم، كأن يُحدّث/ تُحدّث ذاته/ ها بالقول: "ضحكاتهم تهدم أحلامي، تمزّقني، أبتلع دموعي، أدسّ رأسي في النافذة حتّى تضيع الضحكات عبر الهواء المتوقّد بوحدتي، طريق العودة إلى المنزل أطول من المسافة الفاصلة بين الحبّ والفجيعة". وتخيّم على مجمل الرواية الانعكاسات الاجتماعيّة والدينيّة والفكريّة الرافضة للتعامل مع حالة التناقض تلك، أو حتّى الاعتراف بوجودها؛ وهذا يدفع بتيم/ بتيماء إلى الشعور بالوحدة والانزواء، بعيدًا عن كلّ ما يعكس عمق الانفصام مع المحيط؛ "فالذهاب والعودة كانا بمنزلة مخاض يوميّ أعاني فيه عسر التقدّم، إلّا أنّ تلك الفترة لم تدم طويلًا، هجرت المدرسة أيضًا" [ص 21].

 

إلى أحضان "داعش"

كان تيم يشعر بأنّ حياته مثل شريط سينمائيّ بُتِر جزء منه، وبقي يجترّ ذاته، شريط يعيده إلى نظريّة المؤامرة الّتي قذفت به إلى عالم مرعب، يكسوه المجهول، إلى أحضان "داعش"، بعد أن ساقته أنوثته الدفينة إلى البحث عن أمين المقاتل في صفوف داعش، الّذي خُدع بظاهر تيم الأنثويّ، فانكشف أمامه زيف تلك الأنوثة، ففرّ هاربًا من خطيئته ليحارب في سوريا، تاركًا تيماء تجترّ ألمها وحدها، فتبعته دون وعي بحثًا عنه، لتنضمّ إلى صفوف النساء المكتسيات بالسواد، أملًا في إيجاد أمين الّذي مات قبل أن تعثر عليه.

عاشت تيماء بعد فقدان أمين عمرًا من الضياع، انتهى في غرفة في مستشفى الجامعة في عمّان، حيث فوجئت باستفاقتها من غيبوبة محاطة بعائلتها وبالحرّاس، تحاول يائسةً استذكار ما مرّت به من أحداث واسترجاعها، كلّما حاول المحقّقون فَهْم ما حدث معها في حضن "داعش"

عاشت تيماء بعد فقدان أمين عمرًا من الضياع، انتهى في غرفة في مستشفى الجامعة في عمّان، حيث فوجئت باستفاقتها من غيبوبة محاطة بعائلتها وبالحرّاس، تحاول يائسةً استذكار ما مرّت به من أحداث واسترجاعها، كلّما حاول المحقّقون فَهْم ما حدث معها في حضن "داعش"، لتتساءل ذلك السؤال المرتبك، بحثًا عن إجابة يمكن أن تُسْقِط عليها بعض الضوء في وسط العتمة، وبعد أن أدّى الانزياح الفطريّ لديها إلى انحراف فكريّ كاد يودي بحياتها، في محاولة اكتشاف ما خلف الخطوط الحمراء، لتقف أمام السؤال الأكبر: "أليست العقائد والشرائع الّتي سُنَّت كي تُخْرِج الإنسان من شريعة الغاب، هي ذاتها ما يجلب الدمار والموت حين تُقرأ من الجهة الأخرى، أو حين يفهمها الآخرون من وجهة نظرهم المشوّهة، الّتي يقبلون فيها كلّ ما يخدم مصالحهم؟" [ص 71]؛ لتصل تيماء بعد مخاضها العسير ذاك إلى نتيجة مفادها أنّ "الوحدة أحيانًا تصبح هي الفضيلة الوحيدة الّتي في وسعنا أن نمارسها، حين ينغمس كلّ شيء حولنا بالرجس" [ص 177].

 

 

فهيمة كتّاني - غنايم

 

 

فهيمة كتّاني - غنايم: محاضرة في أكاديميّة القاسمي – باقة الغربيّة، وباحثة تهتمّ بالشأن الثقافيّ والسياسيّ الفلسطينيّ والعربيّ. تكتب في الأدب والثقافة والسياسة، حاصلة على بكالوريوس علوم الحاسوب والرياضيّات، وماجستير في الاستشارة التربويّة. تحضّر حاليًّا لقبي ماجستير علم الحضارات في جامعة حيفا، ودكتوراه الإدارة التربويّة في جامعة اليرموك.