اختفاء

عكّا

 

في إحدى حارات السامرة، حدث هروب طائش، ولعلّ ذلك خبر يسرّ ذلك الحيّ الخافتة أضواؤه. تخبّطت زوايا الحيّ واشتعلت الغيبة في داخله، ترى، ما سبب اختفاء عبير؟ لم تسلم صورة عبير من ألسنة السامريّين، وظلّت محور الحديث ساعات وأيّامًا، ولم يجدوا نكهة شهيّة للفم سوى هذه القصّة، ولعلّها صحيحة ومباحة للنشر.

وعلى ضفّة رصيف حارة البوابيري روح ساكنة، هامدة، كابتة الحزن وواجمة، لم يلتفت لها جسدٌ سوى طيف صفاء. حاولت صفاء بأقصى خبرتها إرجاع تلك الروح إلى الحياة: "يا جاري! ها هي حال الدنيا، تسكب على الإنسان الحزن، وتجعل الحزن بقعة من الصعب إزالتها، ولعلّ الزمن داء يطيّب روحك الحزينة".

لم تجد تلك الروح شخصًا يسمع أنينها، يدخل إلى رأسها ويغسل تلك الكلمات المحفورة في النفس "صديقي أَرْبَد... لم أجد كلمة تعبّر عن عشرتنا سوى كلمة ‘صديقي‘، أكتب لك هذه الكلمات لتفسير سبب اختفائي. أحيانًا نلجأ إلى التشبّث بخيوط أخرى خوفًا من الهلاك، مع العلم أنّنا كنّا نعيش في بيت دافئ، نملك فيه الجوائز، وكنت أنت دائمًا ترسل إليّ موجات الحبّ، إلّا أنّ هذا الحبّ لم أجد له وسيلة كي أحتويه، أو بكلمات أخرى، أهواؤك لم يكن لها مستقبل عندي، وللأسف استمع قلبي إلى موجات أخرى قادمة من أقصى الشمال، وبها استعبدني قلبي وسحبني إلى هناك. أطلب منك أن تتفهّم موقفي، وأن تكون الأب والأمّ لابنتنا فطمة. وكدت أنسى، تركت لك بجانب هذا الظرف وشاحي الأبيض، اجعله وشاحًا موروثًا، لتبقى روحي عائمة في سماء ابنتي... وعلى روحك السلام".

حلّ الليل، وسكتت ألسنة الجميع، ولا يزال أَرْبَد متصلّبًا في مطرحه، خائفًا من العودة إلى بيته ومواجهة ابنته في الحقيقة. تُرى، هل تعلم عبير صعوبة الموقف الّذي يمرّ به أَرْبَد؟ بالطبع لا؛ فهي الآن جالسة مستمتعة بوجودها مع عشيقها. ومن طرف شبّاك غرفة فطمة، وقفت سناء تنظر وهي غاضبة وغير راضية عن حالة أخيها المتدهورة، "أيا ليت الزمان يعود يومًا... إلى أيّام الطاحونة، أيّام السعادة الغامرة الّتي كانت تملأ العائلة. حسبي الله ونعم الوكيل، منذ دخول عبير حياتنا، انقلبت أحوال بيت آل عبادة رأسًا على عقب. وأصبحنا نرجو أن يمرّ اليوم مرور الكرام".

تغلّب النعاس على عينَي أَرْبَد، وقرّر العودة إلى البيت والنوم.


***


وفي يوم من الأيّام، دخلت فطمة إلى غرفة أبيها أَرْبَد، وسألته عن أحوال أمّها. عند ذاك قال لها: "اسمعي يا ابنتي، كلٌّ منّا لديه هموم ومشاغل تشغله عن حياته الشخصيّة. كذلك أمّك، أمّك الآن غارقة في دوّامة أعمالها، ولا تستطيع أن تكون حاضرة هذه الفترة؛ لذا أطلب منك أن تتحلَّيْ بالصبر".

- أنت تكذب يا أبي! أمّي هجرتنا وذهبت دون عودة. وأنا أعلم أيضًا أنّ أمّي تكرهنا ولا تحبّنا .
-  ما هذه الخرافات يا ابنتي؟

- إنّها ليست خرافات! سمعت العمّة فتحيّة والعمّة فوز تتحدّثان عن هذا الموضوع، وقالتا إنّ أمّي هربت، وتركتني.

- لا يا ابنتي، هذا الكلام لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة، أمّك تحبّك، والدليل على ذلك إبقاؤها وشاحها الأبيض المفضّل لديها ذكرى لك... ها هو! انظري ما أجمل طيّاته!

عندئذٍ تفاجأ أَرْبَد بسقوط رسالة من داخل الوشاح كُتِبَ فيها: "مَنْ كان له في هذه الدنيا طابع يسنده ويبقيه صامدًا... لن يضطرّ إلى الهروب". وهنا أدرك أَرْبَد أنّ عبير غرست في الوحل وتطلب مساندته. وبدأ بالبحث عن ملابسات وأدلّة تساعده على الوصول إليها وإنقاذها، لكنّه عجز عن ذلك؛ لذا طلب المساعدة من أخته سناء، وعندما أخبرها بذلك، غضبت وقالت: "اسمع يا أخي! أنا أعلم أنّ هروب عبير كان بالنسبة إليك صدمة، لكن هذه هي الحقيقة ويجب تقبّلها؛ لذا أطلب منك أن تتخلّص من تلك الترَّهات الّتي تجول في ذهنك الآن".

في تلك اللحظة سمعتهم الحجّة أمّ سالم، والدة عبير، وعند خروج سناء من الغرفة، دخلت إليه وقالت له: "أَرْبَد ابني... بحُكم كبر سنّي وتربيتي لعبير، أنا متأكدة أنّ عبير في مأزق؛ لذا أطلب منك وأرجوك أن تذهب وتبحث عنها، وأنا على يقين من أنّك ستجدها".

-  لا تقلقي، سوف أجد عبير وسأعود برفقتها.

 

***

 

في صباح اليوم التالي، قرّر أَرْبَد بدء مهمّته في البحث عن عبير، وبدأ بتحليل الكلمات المشفّرة الموجودة في الرسالتين. وبعد طول التحليلات استوقفه بعض التعابير، من مثل: "نلجأ إلى التشبّث بخيوط أخرى خوفًا من الهلاك"، و"استمع قلبي إلى موجات أخرى قادمة من أقصى الشمال"، و"وبها استعبدني قلبي وسحبني إلى هناك". واستطاع من خلالها معرفة أنّ عبير أُجْبِرت على الذهاب مع شخص مجهول الهويّة، لكنّه عجز عن معرفة مكانها أو كيفيّة الوصول إليها؛ لذا لم يجد حلًّا سوى اللجوء إلى صديقه حكيم، والمفاجأة كانت ردّة فعل حكيم؛ إذ كانت مختلفة عن ردّة فعل الآخرين، فهو الشخص الوحيد الّذي صدّق كلام أَرْبَد وقرّر مساعدته، وقد قال له: "كلامك عين العقل! لكن ثمّة كلمة استوقفتني ولعلّها استوقفتك أيضًا".

-  ما هي؟

- في الرسالة الثانية كتبت عبير كلمة "طابعًا"، حتمًا هي تقصد بهذه الكلمة شيئًا يدلّنا على أثرها.

- ماذا تقصد؟

-  دعنا نخمّن قصدها في هذه الكلمة... وجدتها! أعتقد أنّ عبير تقصد بالطابع البريد، هل لدى عبير صندوق بريد؟
-  نعم.

-  إذن، هيّا نذهب إليه، ولعلّنا نجد شيئًا يساعدنا على إنقاذها.

وفعلًا، ذهب كلٌّ من أَرْبَد وحكيم إلى البريد، وهناك فتحا الصندوق، وإذ بهما يتفاجآن بوجود رسالة ثالثة: "من الصعب أحيانًا ترك آثار تدلّ على مراكبنا، فأسوارها شائكة، هزمت نابليون بعظمته"!

- إنّها في عكّا يا أَرْبَد!

- لكنّ عكّا كبيرة وجغرافيّتها معقّدة، كيف سنجدها هناك؟

-  لا أعلم، دعني أقرؤها مرّة أخرى.

- انظر هنا! مكتوب "مراكبنا"، أظنّ أنّها في ميناء عكّا.

انطلق كلٌّ من أَرْبَد وحكيم إلى ميناء عكّا، وباشرا مهمّة البحث عن عبير. لكن تلك المهمّة لم تنجح وباءت بالفشل؛ لذا اتّفقا على إعادة قراءة الرسالة حتّى يجدا سرًّا آخر يكشف عن مكانها، لكنّهما فشلا في ذلك أيضًا، وبدأ اليأس يتسلّل إلى قلبيهما.

- يجب علينا التدقيق مرّة أخرى في الرسالة يا أَرْبَد... علينا ألّا نفوّت كلمة من أيدينا، فكلّ كلمة هي خطوة تساعدنا على الوصول إلى عبير.

- أعطني تلك الرسالة، أعتقد أنّني فهمت قصدها... أعطني قلم رصاص الآن بسرعة، أرجوك!

عندئذٍ، خربش أَرْبَد على ظهر الرسالة، وظهر له لغز جديد يُدعى "زهرة الخريف 88".

- ماذا يعني ذلك الاسم يا حكيم؟

- لا أعلم، لكن دعنا الآن نربط الأفكار الّتي توصّلنا إليها: "سور عكّا"، "ميناء عكّا"، "زهرة الخريف  88"... أفّ! لقد تشتّت ذهني الآن... دعنا نصل إلى هناك، وساعتئذٍ نسأل أحد المارّة.

-  حسنًا!

وأخيرًا، وبعد مرور ثلاثة أيّام من البحث المستمرّ، وعلى غير المتوقّع، ظهر أنّ "زهرة الخريف 88" هو اسم يُطْلَق على أحد مراكب ميناء عكّا، وكان التوصّل إلى ذلك بفضل الريّس حسين، صاحب إحدى السفن في ميناء المدينة، فقرّرا البحث عن المركب.

ومن جهة أخرى، تفاقمت الشائعات حول عبير، الّتي كانت لا تزال محور حديث نساء السامرة! حتّى قيل إنّها "هاربة مع عشيقها، وتاركة خلفها ابنتها المسكينة". حاولت أمّ سالم الدفاع عن ابنتها وتحسين صورتها، لكن دون جدوى، وأصبحت في نظرهم عجوزًا شمطاء تتستّر على ابنتها الخائنة!

وصل أَرْبَد وحكيم أخيرًا إلى ذلك المركب، فوجدا عبير نائمة على الأرض، حاضنة في يدها دليل براءتها من كلّ الشائعات: "أنا كليلى أخاف من مجنوني... لهذا اضطررت إلى أن أجاهد في حياتي في سبيل من أحبّ، وأنا واثقة بصديقي، لكنّ الزمن قطعني وقطعه".

 

 

* قصّة فائزة بجائزة "القصّة القصيرة لطلّاب المدراس - المرحلة الإعداديّة" (2019/ 2020)، الّتي تُنَظّمها جمعيّة الثقافة العربيّة، وهي تُنْشَر ضمن ملفّ خاصّ بالتعاون مع فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة.

للاطّلاع على بيان لجنة التحكيم الخاصّ بالمسابقة، ومسوّغات فوز هذه القصّة.

 

 

أحمد أبو غانم

 

 

 

17 عامًا، الصفّ الثاني عشر، مدرسة أورط العربيّة الشاملة، الرملة.