سفّاح لطيف... ومؤمن أيضًا!

تيد باندي

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

لطالما اعتقدنا أنّ المجرمين بحقّ النساء، من متحرّشين ومغتصبين وقتلة، هم بالضرورة أشخاص نتيقّن من أنّهم كذلك بمجرّد النظر إليهم، مظاهر القسوة والشرّ ترتسم على محيّاهم، ومنظرهم الخارجيّ يوحي إلينا بذلك؛ فحتّى بمحكيّتنا الفلسطينيّة/ الشاميّة، عندما نريد أن نصف إنسانًا ما بأنّه شرّير نقول عنه: "شكله قتّال قُتَلَة".

في الأشهر الأخيرة، كغيري من البشر، ونتيجة جائحة كورونا، لزمت شقّتي، ولأوّل مرّة في حياتي تابعت شبكة "نتفلكس". أُصبت بخيبة أمل من العيار الثقيل من الأفلام السينمائيّة المتوفّرة على الشبكة في بلادنا، لكنّ المفاجأة الكبرى كانت المسلسلات الوثائقيّة. وقع اختياري في البداية على مسلسل "حوار مع قاتل: أشرطة تيد باندي الصوتيّة".

خلال الفترة الّتي قضاها باندي في السجن، منتظرًا حكم الإعدام، دخل الصحافيّ ستيفان متشويد إلى السجن، وسجّل اعترافاته على أشرطة، وصلت إلى 100 ساعة صوتيّة مسجّلة...

المسلسل جاء في 4 أجزاء، كلّ حلقة ساعة ونصف الساعة، وهو يحكي قصّة "القاتل المتسلسل" أو السفّاح الّذي قتل 36 امرأة، 35 منهنّ كنّ في سنّ 18 – 23، وواحدة منهنّ في سنّ 14. أمّا جرائم القتل فكانت بين عامَي  1974 و1978، وشملت 6 ولايات أميركيّة مختلفة.

لأوّل مرّة في تاريخ المحاكم الأميركيّة، سمحت المحكمة للصحافة والمصوّرين والجمهور بحضور الجلسات وتصويرها، بل لأوّل مرّة كانت تُنقل ببثّ مباشر للتلفزيون، وخلال الفترة الّتي قضاها باندي في السجن، منتظرًا حكم الإعدام، دخل الصحافيّ ستيفان متشويد إلى السجن، وسجّل اعترافاته على أشرطة، وصلت إلى 100 ساعة صوتيّة مسجّلة.

 

من الكنيسة إلى كرسيّ الإعدام

تيد باندي أو تيادور، شابّ أمريكيّ وسيم وذكيّ ومثقّف، درس علم النفس، وبدأ بدراسة القانون، مسيحيّ كاثوليكيّ فعّال في الكنيسة ونشاطاتها، نفّذ أوّل جريمة قتل له عندما كان يبلغ من العمر 28 عامًا. أُلقي عليه القبض لأوّل مرّة عام 1975، لكنّه لم يُسجن، وبعدها بمدّة أُلقي القبض عليه مجدّدًا، لكنّه استطاع الفرار مرّتين: المرّة الأولى من المحكمة، والثانية من زنزانة عزل انفراديّة. خلال هروبه ارتكب 3 جرائم قتل في حقّ النساء، واعتدى بوحشيّة على طالبات جامعيّات في مساكن الطلبة أثناء نومهنّ.   

اعتقاله كان بمحض الصدفة، على يد شرطيّ شاهد سيّارة تسير ببطء وتتسكّع في الشوارع، فشكّ في الأمر، وعندما اقترب منه وطلب أوراقه الثبوتيّة أعطاه تيد أوراقًا مزيّفة. حين اقتادوه إلى السجن بتهمة سرقة سيّارة وبطاقات اعتماد مصرفيّة، لم تستطع السلطات الأميركيّة تحديد هويّته إلّا بعد أشهر طوال؛ لأنّه كان يتنقّل بين الولايات المختلفة دون حسيب أو رقيب، مستقلًّا طائرات وسفنًا وقطارات وسيّارة مسروقة، وبطاقات هويّة وبطاقات مصرفيّة مختلفة ومتنوّعة. جرت محاكمته في ولاية فلوريدا، وحُكِمَ عليه بالإعدام على كرسيّ كهربائيّ، وقد نُفِّذ حكم الإعدام عام 1989، وقد عُدَّ من أخطر السفّاحين في الولايات المتّحدة، وصاحب الرقم القياسيّ في جرائم القتل الّتي اقترفها.

 

حمل وديع... يصطاد الفاتنات

باندي البارد الأعصاب، الّذي حافظ على أناقة غير معهودة وابتسامة صفراء وحضور طاغٍ، شكّل حالة رعب لسنوات طوال في الشارع الأميركيّ، وخاصّة للفتيات. كان ينتقي ضحاياه بعناية؛ فكلّهن فتيات يافعات جميلات وفاتنات، بعضهنّ طالبات جامعيّات. اتّسم أسلوبه المخادع بنمطيّة معيّنة؛ فكان يوقع هؤلاء النسوة في شباكه بطريقة محكمة غير قابلة للشكّ، يصطادهنّ في الشوارع والدكاكين والملاهي والجامعات، يـأتي إليهنّ كالحمل الوديع بمظهره الأنيق الوسيم وبلطافة وهدوء، يطلب مساعدتهنّ في استعمال كوابل سيّارة لأنّ سيّارته تعطّلت، وأحيانًا يُخْرِج بطاقة شرطيّ، ويدّعي أنّ إحدى سيّارات الضحايا قد سُرِقَت، ويطلب منها الخروج إلى سيّاراتها المركونة لتفقّد محتوياتها، وهناك كان يخطفها ويقتلها ويغتصبها بعد موتها. قطع رؤوس بعض ضحاياه، واحتفظ بها للذكرى!

قطّع باندي أجساد ضحاياه ورماها في الغابة لتنهشها الحيوانات المفترسة؛ بهذه الطريقة كان يخفي جرائمه البشعة، وبمظهره اللطيف الوادع لم يكن محطّ الشكّ قطّ، حتّى اليوم الّذي اقتاد شابّة كانت تتفقّد كتبًا في دكّان إلى سيّارتها، بحجّة أنّه شرطيّ، بعد أن أخرج بطاقة شرطيّ ليقنع الصبيّة بأنّه يؤدّي دوره، ثمّ طلب منها أن ترافقه في سيّارته، من نوع فولسفاجن (خنفسة) لونها بيج، إلى قسم الشرطة، لكي تقدّم شكوى. الفتاة الساذجة ركبت معه، شكّت في الأمر، لكنّها اعتقدت أنّه شرطيّ متخفٍّ، لأنّه لا يقود سيّارة شرطة. كان لطيفًا جدًّا خلال قيادته السيّارة، حتّى توقّف أمام مبنًى لمدرسة بعيدة عن الأحياء السكنيّة، وكان ذلك يوم أحد، فالمدارس في عطلة. وضع بخفّة سلاسل حديد على معصمها، وبدأ يضربها على رأسها. استطاعت مقاومته والإفلات من قبضته، وخرجت تركض مذعورة في الشارع وتصرخ، وهو يركض خلفها يحاول قتلها في الشارع المقفر. بمحض الصدفة مرّت سيّارة، ركضت الفتاة نحوها وطلبت النجدة.

فرّ باندي هاربًا، أمّا الفتاة الّتي نجت بأعجوبة فقدّمت شكوًى في الشرطة، ورسم رسّام محترف "بروفيل" لباندي حسب الوصف الّذي أدلت به الشاهدة. عمليّة البحث عن صاحب سيّارة فولسفاجن لونها بيج كانت مضنية. حسب مقابلة مع إحدى المحقّقات، أُدْرِجَ اسم باندي في القوائم، لكنّ الشبهات استُبْعِدَت عنه نتيجة أفكار نمطيّة كانت سائدة آنذاك عن شخصيّة القاتل؛ فباندي كان متعلّمًا ومثقّفًا ومؤمنًا.

 

مهووسات بالسفّاح!

الصاعق بالنسبة إليّ - إنسانةً أوّلًا وامرأةً نسويّة ثانيًا - كمّ الفتيات الشابّات اللواتي حضرن جلسات المحكمة! هؤلاء الشابّات كنّ في سنّ ضحايا باندي. للوهلة الأولى ظننت أنّ هؤلاء الفتيات حانقات على القاتل ويُرِدْن أن يُعْدَم، لكن تبيّن من خلال اللقاء مع محامية الدفاع عنه الّتي وكّلتها المحكمة - وكانت حينذاك شابّة في بداية طريقها المهنيّ - أنّ الكثيرات من الفتيات كتبن رسائل حبّ وإعجاب، وطلبن من المحامية أن توصلهنّ إلى القاتل، لكنّها رفضت ذلك. الحديث هنا لا يدور عن واحدة أو اثنتين، بل ظاهرة؛ قاعة المحكمة عجّت بالفتيات، بل استُخدمت مقابلات قديمة مع بعضهنّ لتقارير بُثَّت عبر التلفزيون.   

لم تتورّع الفتيات عن إبداء إعجابهنّ بالسفّاح، بل قالت إحداهنّ إنّها مفتونة به. كان الأمر صاعقًا؛ لم أستطع إدراك وتحليل وتقبّل تعاطف نساء مع مغتصب وسفّاح...

لم تتورّع الفتيات عن إبداء إعجابهنّ بالسفّاح، بل قالت إحداهنّ إنّها مفتونة به. كان الأمر صاعقًا؛ لم أستطع إدراك وتحليل وتقبّل تعاطف نساء مع مغتصب وسفّاح بَتَر جثث النساء وشوههنّ، وتلذّذ في تعذيبهنّ. لم أدرك كُنْه هذه الخفايا النفسيّة، صعقتني وأقلقت مضجعي، علامَ يدلّ؟ ولماذا؟ هل بعض النساء يتلذّذ أن يكنّ ضحايا؟ أم نحن النساء ذوّتنا أنّنا ضحايا، ولم يَعُد بمقدورنا أن نتخلّص من شعور الدونيّة، ودور الضحيّة والمرأة المستضعفة الّتي لا حول لها ولا قوّة؟

 

بضمير الغائب

عند دخول الصحافيّ إلى السجن وإجراء المقابلات مع باندي، بهدف نشر المقابلات في كتاب، رفض باندي أن يتحدّث عن الجرائم قطعًا، استطاع بخبث ودهاء أن يسيطر على الحوار، وتحدّث في موضوعات كانت تهمّه هو، تحدّث في الفلسفة والفكر؛ ففهم الصحافيّ أنّ محاولته الحصول على تصريحات منه باءت بالفشل؛ ففكّر في أن يسأله عن رأيه في كلّ جريمة وجريمة، وكيف استطاع المجرم أن يختطف الضحيّة ويقتلها؛ فتحدّث باندي بضمير الغائب بإسهاب، وعن حنكته ودهائه عند ارتكاب الجرائم، وكأنّه لا علاقة له بالموضوع، ووصف بدقّة وتفاصيل صغيرة كلّ جريمة.

حين أنهى الصحافيّ المقابلات وأراد نشرها، توجّه إلى منزل والدة باندي وزوجها، وقد ساندته خلال المحاكم ولم تصدّق أنّ ابنها سفّاح، أسمَعَها بعض اعترافات باندي بضمير الغائب، ثمّ سألها الصحافيّ: "هل ثمّة أسئلة؟"، صمتت قليلًا ثمّ سألته: "مَنْ يريد أن يأكل كعكة تفّاح وبوظة؟"، وقال: "أكلنا كعكة تفّاح وبوظة، وعدنا إلى بيوتنا".

ردّ فعل الأمّ أذهلني، كمّ الإنكار الّذي عاشته، وانفصالها التامّ عن الواقع، وعدم قدرتها على استيعاب الحقيقة المؤلمة في أنّ ابنها سفّاح.

محكمة باندي تبدو غير حقيقيّة، وكأنّك تشاهد مسرحيّة في أحد مسارح برودواي. يبدو أنّ باندي أراد أن يكون نجمًا مشهورًا؛ فتهافت على الصحافة ليلقي تصريحاته الناريّة المدروسة والهادئة والرصينة...

نقطة أخرى استوقفتني، هي قدرة باندي على السيطرة، ليس فقط على ضحاياه، بل على جميع مَنْ حوله؛ مثلًا هو مَنْ أدار الاستجواب في الجلسات، على الرغم من أنّ المحكمة عيّنت له 3 محامين. استجوب الشهود، وتلذّذ خلال استجواب أحد رجال الشرطة. طلب من الشرطيّ أن يصف حالة الجثّة الّتي وجدها بدقّة وتفصيل، مرّات عدّة متتالية كرّر السؤال نفسه، وبدت عليه اللذّة حين وصف الشرطيّ بقع الدم والطعنات بجثّة الفتاة العارية والممزّقة.

 

كارول وروز

المفاجئ أيضًا، وما يثير التوقّف عنده، أنّ خلال جلسات المحاكمة حضرت سيّدة باسم كارول آن بون، تكبره سنًّا، ادّعت أنّها صديقته المقرّبة، ودافعت عنه بشراسة؛ فعرض عليها الزواج في أثناء محاكمته الأخيرة، أمام 250 صحافيًّا كانوا في قاعة المحكمة، وقبلت عرضه الاستعراضيّ بفرح.

محكمة باندي تبدو غير حقيقيّة، وكأنّك تشاهد مسرحيّة في أحد مسارح برودواي. يبدو أنّ باندي أراد أن يكون نجمًا مشهورًا؛ فتهافت على الصحافة ليلقي تصريحاته الناريّة المدروسة والهادئة والرصينة، بل شعر بالفخر بأنّ ثمّة كتابًا يُكْتَب حول شخصيّته، وكم من الرواج سوف يلقى هذا الكتاب! كان ذلك هاجسه وهو في انتظار حكم الإعدام. 

بعد أن تمّت محاكمة باندي، وقد قبع في السجن منتظرًا صدور حكم الإعدام، قدمت كارول لزيارته مرّات عدّة، وحملت منه بعد أن تضاجعا في غرفة يحرسها سجّان غضّ الطرف عن اللقاء الحميميّ. أسفرت هذه المضاجعة عن ولادة طفلة لباندي المحكوم بالإعدام، أسماها روز (وردة).

 

نظام قانونيّ مهترئ

السلسلة الوثائقيّة مصنوعة بشكل رائع ومثير، يشدّ المشاهد ويتركه متيقّظ الحواسّ، متوتّرًا، مترقّبًا، ويقحمك في مساحات حسّيّة وتحليليّة، اعتمادًا على الدمج بين شخصيّة باندي واستعمال أرشيف مذهل من التحقيقات والمحاكم، وإفادات المحقّقين والقضاة وعائلات الضحايا. الطريقة الّتي صُنِعَتْ بها السلسلة اعتمدت على التوليف ما بين الأرشيف الصوتيّ لأرشيف المحاكم وقنوات الأخبار، ومشاهد في الشوارع والمدن، من سنوات السبعينات والثمانينات، والمقابلات الحديثة العهد مع النيابة العامّة، ومع قضاة ومحقّقين...

ما نستطيع استنتاجه من المسلسل أيضًا، أنّ مرتكب الجرائم بحقّ النساء، مهما كان نوعها، يمكن أن يكون كلّ شخص؛ فله وجوه عديدة، يمكن أن يكون المتعلّم، والمثقّف، والوسيم، والجامعيّ، والعامل، والموظّف...

ما يمكن استنتاجه بوضوح من المسلسل، عجز القضاء الأميركيّ عن أن يربط الحقائق، وأن يجمع الأدلّة، وأن يعاقب، وأن يحرس سجينًا خطيرًا، كباندي الّذي فرّ مرّتين وقتل 3 نساء خلال هروبه، والسماح لسفّاح أن يمارس الجنس في السجن، وولادة طفلة بريئة قد تحمل وصمة عار إلى الأبد، كونها ابنة سفّاح في نظر المجتمع.

وتبقى أسئلة حول القانون، كم هو فضفاض وغير عادل، وكيف يمكن التلاعب به من خلال ثغرات تقنيّة، كطريقة الاعتقال "غير القانونيّة"، أو جمع أدلّة من موقع الجريمة، وحرز ملابس وبصمات من موقع الجريمة وحفظها بطرق غير سليمة.

وتبقى شخصيّة القاتل أكثر ما حيّر أجهزة المخابرات الأميركيّة، الّتي استعانت بباندي من خلال لقاءات متكرّرة قبل إعدامه، لفهم شخصيّة السفّاح ومبناه النفسيّ وسلوكيّاته، وبقي كلّ ذلك دون إجابات واضحة.

ما نستطيع استنتاجه من المسلسل أيضًا، أنّ مرتكب الجرائم بحقّ النساء، مهما كان نوعها، يمكن أن يكون كلّ شخص؛ فله وجوه عديدة، يمكن أن يكون المتعلّم، والمثقّف، والوسيم، والجامعيّ، والعامل، والموظّف. لا يمكن تأطير المجرمين بحقّ النساء في قالب معيّن؛ الجميع قد يكون مجرمًا محتملًا!

 

 

سها عرّاف

 

 

كاتبة ومخرجة وصحافيّة فلسطينيّة. كتبت سيناريو وأخرجت عددًا من الأفلام، من ضمنها "نساء حماس" و"فيلا توما"، وقد حصلت على عدّة جوائز عربيّة وعالميّة، أبرزها جائزة أفضل مخرجة امرأة في "مهرجان المرأة الدوليّ للسينما والتلفزيون - لوس أنجلوس" لعام 2014.