"زَراوَنْد"... كاميرا مرتجّة تتبع غربانًا وجرابيع

زكريّا محمّد

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"صادقت واحدًا لسنوات طويلة، ولم أفكّر يومًا في أنّ له أمًّا تنتظره في البيت. لم يخطر ببالي حتّى أنّه كان لديه أمّ في يوم من الأيّام.

بل بدا لي أنّه لم يولد من رحم أصلًا، وأنّه وُجِدَ منذ البدء هكذا: حجرًا أصلع تنتشر الطحالب على عارضيه.

وفي صبيحة أحد الأيّام بكى فجأة أمامي أمّه الّتي ماتت أمس. صدمني بكاؤه. البكاء لا يصلح للحجارة، لا يصلح لجذع نخلة محترق على الرصيف.

ثمّ رويدًا رويدًا صرت أنا نفسي أخشى أن أبدو مثله حجرًا أملس بلا جذر.

يحسن بالمرء ألّا يطيل المكوث أكثر ممّا يجب.

يحسن به أن يجمع أشياءه ويمضي قبل أن يصير حجرًا باكيًا". ("زَراوَنْد"، ص 196).

 

بعد "كُشْتِبان" في 2014 و"عَلَنْدى" في 2016، كشف الشاعر الفلسطينيّ زكريّا محمّد هذا العام عن منحوتته الشعريّة الثالثة "زَراوَنْد"، وعرضها لأشعّة الغيم وقطرات الشمس، ليصبح أمامنا ثلاثيّة لن تتكرّر دائمًا في أرض الشعر العربيّة.

نشر زكريّا، المولود في نابلس عام 1951، أكثر من 20 عملًا في الشعر والرواية والميثولوجيا وقصص الأطفال، خلال 40 عامًا هي مسيرته الأدبيّة والبحثيّة الّتي ما زالت مستمرّة. يقول زكريّا: "أمّا الشعر فهو محاولةٌ ما للتراضي مع الزمن"، ويقول: "فالشعر رحلة لا تنتهي". وقد حصل هذا العام على "جائزة محمود درويش للثقافة والإبداع"، وترأّس لجنة "مسابقة القطّان للكاتب الشابّ - فرع الشعر" لعام 2019.

 

لوحات

جاءت مجموعة "زَراوَند" في 260 صفحة من القطع المتوسّط، تضمّنت قرابة 250 نصًّا شعريًّا. لم تتجاوز الأغلبيّة الساحقة من النصوص الصفحة الواحدة، أَقْدَمُها خُطَّ في 2010 وأحدثها خُطَّ في 2020، لكنّ أغلبها وُلِدَ في السنوات الأربع من 2016 إلى 2019، جاء بعضها حاملًا التاريخ نفسه، وجاء كلّها غير مرتّب زمنيًّا. صدرت المجموعة عن "دار الناشر" في رام الله وعمّان، بغلاف للشاعر نفسه، مأخوذ من رسومات مجموعته الشعريّة "أحجار البهت"، في صفحة 49 من المجموعة.

لوحات زكريّا تبدو كأنّها تدمج صورة الحيوان بالنبات بالإنسان، بطريقة مختلفة في كلّ مرّة، ويمكننا أن نقول الشيء ذاته عن قصائده. يقول زكريّا: "وأريد علفًا آخر غير الكلمات. بل أريد حتّى شيئًا غير النجاة ذاتها. فقد نجوت أكثر ممّا ينبغي، وأتعبتني نجاتي".

يظهر في الغلاف شكل أقرب إلى شكل حيوان، على العكس من المجموعتين السابقتين اللتين كان غلافاهما شكلَين أشبهَين بإنسان، ولا بدّ من أنّ لهذا دلالة على وصول الشاعر، وبالتالي شعره، إلى عمق آخر أبعد مع الطبيعة.

على أيّ حال، فإنّ كلّ لوحات زكريّا تبدو كأنّها تدمج صورة الحيوان بالنبات بالإنسان، بطريقة مختلفة في كلّ مرّة، ويمكننا أن نقول الشيء ذاته عن قصائده. يقول زكريّا: "وأريد علفًا آخر غير الكلمات. بل أريد حتّى شيئًا غير النجاة ذاتها. فقد نجوت أكثر ممّا ينبغي، وأتعبتني نجاتي".

يشبه رأس الحيوان الظاهر على الغلاف شكل زهرة الزَّراوَنْد، الّتي اتُّخِذَت عنوانًا للكتاب، غير أنّ الكلمة ذاتها غير مذكورة داخله مطلقًا.

 

عثرات التصنيف والتنسيق

نصوص المجموعة، كما نصوص آخر مجموعتين، بلا عناوين، كلّ نصّ موسوم بالتاريخ الّذي وُلِدَ فيه، وهو تاريخ مكوّن من اليوم والشهر والسنة على التوالي، يفصل بين كلٍّ منها شَرْطَة، إلّا في حالات شكّلت أخطاء طباعيّة كان يمكن تفاديها، فكان ثمّة تواريخ، منها ما لمّا يأتِ بعد، ومنها ما لم يكن على الترتيب نفسه، ومنها ما كان ناقصًا. ولم تقتصر الأخطاء الطباعيّة على التواريخ فقط؛ ثمّة نصوص مكرّرة مع تعديل، مثل نصّ مطلعه "لا يوجد موت"، وقد نُشِرَ في مجموعة "كُشْتِبان"، ونصّ "أحسدها أريحا" الّذي نُشِرَ في مجموعة "عَلَنْدى"، ونصّ "لكن ما همّني الليل" الّذي نُشِرَ في المجموعة ذاتها "زَراوَنْد" في تاريخ مختلف، إضافة إلى نصّ مكرّر حرفيًّا "وُلِدْتُ في أريحا" في المجموعة ذاتها أيضًا، ولربّما ثمّة نصوص أخرى مكرّرة لم أستطع ملاحظة أمرها؛ وبهذا فإنّ التاريخ لا يصلح مميّزًا للقصائد من بعضها بعضًا، ولربّما كان من الأفضل أن يرقّم المؤلّف ليسهّل علينا الإشارة إليها متى أردنا.

ويفتقر الكتاب إلى بعض التنسيق؛ فلا ضبط متساويًا للنصّ بين الهوامش، وهذا أدّى إلى عدم وضوح متى تبدأ أو تنتهي جملة شعريّة ما، ثمّ نادرًا ما نجد تحريكًا للكلمات عندما يلزم. أمّا بالنسبة إلى ترويسة الصفحات، فثمّة خطأ طباعيّ في عنوان الكتاب يظهر في قرابة نصف صفحاته، إذ بُدّل مكان أوّل حرفين، فكان "رَزاوَنْد" بدلًا من "زَراوَنْد".

 

يوميّ/ سماويّ

من الصعب أن تشعر بأنّ نصوص المجموعة كلّها في ذات المستوى؛ فثمّة ما هو ملغم بالنور، وثمّة ما هو مليء بالدخان. وأحيانًا أنت مَنْ تكون قد انطفأت عند ما هو نور، أو اشتعلت عند ما هو دخان.

يبدأ زكريّا مجموعته بقصيدة قالبة لموازين الواقع الّذي يأتي منه القارئ عمومًا، ليجهّزه لخوض رحلة مليئة بالخيال. يبدأ بقصيدة تعيد الفاختة فيه الشاعر إلى الواقع، لاغية فيه ما يحاول الشاعر تقديمه لنا. ولا يفوتنا أنّ الشاعر قدّم لنا هذا الطائر متكلّمًا، ثمّ جعله يتحكّم فيه كأنّه لم يأتِ به، وفي هذا توظيف بديع للخيال، يجتاز فيه الشاعر نورنا. ويمضي الشاعر بنا قدمًا إلى ساحات خيال أوسع، مبادلًا النثر والشعر بين أعيننا، كأنّهما كرتان في يد الشاعر. يُسقط الشاعر كرة، لتعود مرّة أخرى فتدرك أنّ عينك هي الّتي سقطت. يقول:

"كتبت لك كثيرًا، لكنّك ما رددت عليّ.

مع ذلك لا أتوقّف عن الكتابة إليك. أنبح مثل كلب لا يجد كلابًا أخرى تردّ على نباحه. أتوجّع مثل شجرة جمّيز طلعت ثمارها كالحصبة على جذعها، لكنّ يدًا لا تمتدّ كي تقطفها".

يبشّر زكريّا قرّاءه الّذين يؤمنون بالشعر بكثير من الخيال وقليل من الملل، ويعدهم بأنّ تفّاحته لن تذبل إن لم يأكلوها في جلسة واحدة. يقول: "يمكن الكلمات أن تجعل المرء عبدًا. وأنا في الحقيقة عبد من عبيد الشعر".

وتعطيك بعض النصوص أحيانًا إحساسًا بأنّها مجرّد يوميّات ممتعة، لكن سرعان ما تعطيك نصوص أخرى إحساسًا بأنّها موضوعة في كتاب سماويّ، ويزيد هذا الإحساس حين يعمد الشاعر - ولا يهمّنا في الشعر إن كان بقصد أو بدون قصد - إلى أن يجعل النصوص تفسّر بعضها بعضًا. ويبشّر زكريّا قرّاءه الّذين يؤمنون بالشعر بكثير من الخيال وقليل من الملل، ويعدهم بأنّ تفّاحته لن تذبل إن لم يأكلوها في جلسة واحدة. يقول: "يمكن الكلمات أن تجعل المرء عبدًا. وأنا في الحقيقة عبد من عبيد الشعر".

 

كاميرا مرتجّة

زكريّا محمّد ليس ابنًا شعريًّا لغيره من الشعراء الكبار، ولربّما من الصعب أن نقول إنّه سيكون له أبناء، ومن الأفضل ألّا ينجب الشعراء أحدًا غير أنفسهم. زكريّا جاء بوصفة سرّيّة، نعرف طعمها وليس سهلًا أن نُتْقَنِ فهمها، ومن الأفضل للشعراء أن يحافظوا على وصفاتهم لأنفسهم ويستمرّوا في تطويرها.

أسلوب زكريّا الشعريّ في هذه المجموعة، مُنْتَجٌ ساعد النشر الفيسبوكيّ على صقله، وهو كما يقول لا يعرف كيف حدث هذا بالضبط. وفي رأيي أنّ الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعيّ بشكل عامّ، تساعد مستخدميها على التفكير "بصوت عالٍ" أمام ناس انتباههم لنا غير مؤكّد، وبالتالي فهي مساحة لنرخي فيها أسلاكنا، ونطلق فيها أخيلتنا بحذر متفاوت، هذا بالأخذ بعين الاعتبار تقليص وسائل التواصل الاجتماعيّ للزمن، واستبدال الأمكنة به؛ وهو ما يخلق عزلة خصبة لبذور الكتابة "الشعر هو أن تمضي وحيدًا وبعيدًا"، والقراءة أيضًا. ولا بدّ من أنّ الكتابة في زمن الكورونا نور فوق ذلك النور، والقراءة أيضًا.

يثبت لنا زكريّا أنّه ليس للشعر حدود ضيّقة، حدوده الخيال والجمال الواسعان. والطبيعة معلّمة زكريّا، فما دام هواؤها يتجدّد فما زال شعره يتمدّد. يقول: "أقول كلمات غيري، الكلمات الّتي قيلت مرّات. قمحي من حواصل الطيور، وصفيري من حناجرها".

وعين الشاعر عين تسجّل فيديو: أكثر من شيء يتحرّك بينما يمرّ الوقت، لا عين تسجّل صورة كلّ شيء فيها ثابت بينما يمرّ الوقت. في الفيديو، نرى الحياة تحدث بتناقضاتها وتكاملها شعريًّا، فيحدث خيالنا حُرًّا دون أن يمسك بيد الشاعر. الأمر عكسه لو التقط الشاعر صورة، فإنّ الحياة تكون قد حدثت ويكون خيالنا أكثر تمسّكًا بيد الشاعر. وليست مهمّة القراءة المشاهدة هنا سهلة؛ فالكاميرا ترتجّ وتشتّت ما نرى أحيانًا، لكن، على أيّ حال، علينا أن نرى. يقول زكريّا:

"كلماتي تشتّتكم كما تشتّتني، أنا مَنْ أكلت رغيف النهايات في البدايات. أنا من قست عمري بالكنايات.

فإلى أين تريدون أن أمضي بكم أيضًا؟

ليس هناك من هاوية أعمق من هاوية العين ذاتها".

 

الحياة البصلة... الموت

هذه الطبيعة الّتي ربّت خيال زكريّا، مليئة بالعراجين وأشجار التين والرياح والصخور والغربان واليمام بليلها ونهارها، مصحوبة بطيور ونباتات ربّما نسمع بها لأوّل مرّة، تسطّر لنا صور الحياة تارة وصور الموت تارة أخرى، وصورة الحياة والموت معًا أيضًا، صورة تنطق بلسان العرب وأساطيرهم في كثير من الأحيان.

ينظر زكريّا إلى الحياة بعين الشعر فيقول إنّها "ورقات متفرّقات يجب أن تُرْبَط بخيط حتّى لا تفلت منّا. والشعر خيط لعين يربط أشياء لا رابط بينها"، وإنّها "مطالع تقطع مطالع"، ويقرّر أنّها "مطالبة دائمة بالمستحيل"، لكنّه يُصَعِّد هذه الصورة فيقول إنّها "دابّة غريبة لن تسير إن لم يكن قدّامها قبضة من حشيش الأمل"، وإنّها "لا تحتاج إلى أفكار. فالأفكار دودة داخل الثمرة"، ويصوّر لنا هذه الحيرة الّتي وضعته فيها الحياة فيقول: "الحياة لعق دائب للجراح الّتي قُطبت. لا، الحياة نكْء للجراح الّتي قُطبت".

الطبيعة الّتي ربّت خيال زكريّا، مليئة بالعراجين وأشجار التين والرياح والصخور والغربان واليمام بليلها ونهارها، مصحوبة بطيور ونباتات ربّما نسمع بها لأوّل مرّة، تسطّر لنا صور الحياة تارة وصور الموت تارة أخرى...

لكنّه لا يبدو قادرًا على تصوير الموت إلّا واضعًا الحياة في ذات المشهد، فيقول: "لديّ قطّة وضعت توأمين: أبيض وأسود. ولست أدري بيقين أيّهما الموت وأيّهما الحياة"، وإنّ "الحياة تبدأ بعين مقفلة، وتنتهي بعين مقفلة"، وإنّ "كأس الحياة نصف مليئة نصف فارغة. أمّا كأس الموت فطافحة دومًا"، لكنّه يحاول أن يقف في صفّ الحياة حين يقول:

 "ثمّة شجرة أخرى بجذع أشدّ صلابة مكان الشجرة الساقطة، هي شجرة الذكرى.

 ثمّة باب آخر للحياة لا يعرف عنه الموت، ولا يستطيع أن يأتي منه".

لكنّه يُقرّ بدورة الحياة والموت في صورة جميلة، فيقول:

"الحياة بصلة كبيرة.

 أنزع قشورها قشرةً فقشرةً كي أصل إلى نواتها، إلى قلبها، فلا أصل إليه. ليس للحياة قلب. الحياة قشرة تغطّي قشرة حتّى النفس الأخير.

أمام رخامة المجلى أقف والسكّين في يدي: عيني تدمع، وقلبي يدمع، وليس هناك ما أمسك به سوى القشور.

 هذه البصلة الكبيرة هي الموت".

 

وعلى الرغم من أنّه يجد عزاءً للموت حين يقول "لكنّني لست غاضبًا من أنّ الوجود يعجز عن تأكيد ذاته؛ فهذا العجز هو ما يجعل الموت أمرًا محتملًا"، إلّا أنّه لا يتمنّى حتّى لـ "الصقر" أن يَعِيه، فهو يخاطبه: "وَعْيُه سيكسرك. إن وعيته فسوف تطير في السماوات كأنّك تطير بجناحين من أسمنت وحجارة"، ويتابع: "الموت يُقرأ على طريقة بريل. يحفر بمسمار على جسدك، وأنت تمرّ بأصابعك على هذه الحفر كما لو أنّك ضرير يقرأ كتابًا".

 

الحبّ عادة قبيحة

وكأيّ إنسان ترنّح زكريّا بين الإيمان بالحبّ وعدم الإيمان به، فقال عندما احتلّه: "نبع كبير قلبي وأنا أريدك أن تسبح فيه"، وأيضًا: "النهار يسقط من جديلتك يا نسرين، والليل من كفّك ذات الأشعّة الخمسة"، وأيضًا: "وأنا هنا أبحث عنك. أدير عيني مثل عين ضفدع في كلّ اتّجاه كي ألمّ صورتك، كي ألمّ بحّة صوتك"، وأخيرًا: "اطبعْ كفّك مثل ورقة تين على صدري. احفر اسمك مثل جرح فوق حاجبي. الحبّ بسيط هكذا. والشعر أبسط من هذا حتّى"، وحين حيّره الحبّ، قال: "ضلال بعيد أن أفهم ما أريد أنا منكِ، وضلال أبعد منه أن يُفهم كلامي فيك"، وحين قاده الحبّ إلى حكمته، قال:

"الحبيب لا يرمي في يد الحبيب قرشًا ويمضي.

الحبيب يمشي والسراج في يده كي يهتدي حبيبه".

 

أمّا عندما بدأ الحبّ بفكّ حباله، فقال زكريّا: "يا حبيبي، فمي يهتف باسمك، لكن قلبي يزحزحني عن طريقك، ويقرّعني فيك: دع المحبّة لمَنْ هم أقدر منك، دع الأمانة لمَنْ يقدر على حملها"، وقال: "حبيبي هو الصخرة الّتي تتدحرج من القمّة كي تتفتّت في القاع"، وأيضًا: "لكن إن لم يتحوّل الحبّ إلى ذكرى فلن يكون حبًّا. الحبّ ذكرى فقط"، وأيضًا: "الحبّ عادة قبيحة ينبغي تركها تمضي بلا مظلّة تحت المطر"، وأيضًا: "نسرين الّتي أَضاعتني، وضاعت من يدي إلى الأبد"، وأخيرًا: "اكتبوا على لساني: ليس لي حبيب أبدًا. من الحجر جئت، وإلى الحجر أعود"، وحين قاده الفراق إلى حكمته، قال: "الأشياء كلّها تنهض على سوء فهْم يا حبيبي. الليل سوء فهم، والحبّ سوء فهم. لذا أكتب لك من دون أن تدري أنّ كلماتي تقصدك، ومن دون أن تدري أن فمي يطلبك".

 

ذات

يثبت الشاعر أنّه قادر على أن يغوص في الأعماق، ويُعيد اكتشاف أشياء كثيرة لا نستطيع لمسها باليد، بأسلوب التعريفات، فيقول إنّ الكرامة هي "الروح ذاتها"، وإنّ الصمت "كلمة سوداء مثل سراج أطفأ نفسه بنفسه"، وإنّ الحزن "نبتة أهليّة تنمو في الأصيص، على الخدّين، وعلى أكمام الفساتين"، أمّا الألم فهو "زهرة تتفتّح على الحافّة"، وأمّا البكاء فهو "شجرة قَطعت بالفأس ساقها"، وأمّا المطر "فطفل يمخط أنفه بكمّه ويبكي"، وإنّ الأمل "طائر مهاجر" بينما اليأس "طائر مقيم"، والليل "قطّة أليفة" تعشّيه مواءً بينما النهار "كلب شريد" يفطّره نباحًا. ويقول عن الذات "كلبة مسعورة تعيش على الاستعارات، وأنا أرمي لها بالاستعارات كي أهدّئها".

وينشغل الشاعر بذاته أيضًا ويحاول سبر أغوارها بالتساؤل، فيقول: "أيّهما أنا، الماضي كلّه أم أخوه الّذي فقد بصره؟"، وأيضًا: "كما لست أدري إن كانت الريح كفني أو كفّ ماشطة تزيّنني". ويحدّثنا عن سلام داخليّ لا بدّ من أنّه نتاج حكمة وتجربة، فيقول: "كان دماغي في السابق يغلي كما لو أنّه ركوة قهوة على النار. غير أنّني تمكّنت من أن أُطفئ النار تحته"، ويقول: "أسكب حليب النهار على الأرض كي أملأ من عسل الليل قربتي"، ويقول أيضًا: "أستطيع أن أعيش مثل حيوان وحيد الخليّة. أتكاثر بالانقسام وأحبّ بالانقسام أيضًا. خليّة تُبدع خليّة مثلها وتحبّها". ولا يخفي علينا ما يشغل ذاته، فيقول:

"الألم دراسة.

 لذلك أقضي الليل وأنا أدرس في كتب الألم. أبحث عن ما يعضّ يدي ويُدميها".

 

تكرار وتدوير

حين نقرأ بعض النصوص، نلحظ بأنّ زكريّا يعمد إلى أسلوب التكرار الكلاسيكيّ، فمثلًا في جملتين متتابعتين يقول: "أعدّ جمال هنيدة على أصابعي. مئة جمل أشقر في الصحراء أصابعي". ويبدأ زكريّا أحد النصوص فيقول: "أحببتك مرّة يا أليس كما تحبّ الخيل المحبوسة ميدان سباق مفتوح"، ليكرّر هذه الفكرة في نهاية النصّ، فيقول: "الحبّ حظيرة مقفلة يا أليس، أمّا الخيل فحنينها للميادين المفتوحة"، ليصنع بذلك تدويرًا في النصّ.

يتناصّ زكريّا مع فكرة في قصيدة لمريد البرغوثي يقول فيها: "أنتِ جميلة كوطن محرَّر/ وأنا متعب كوطن محتلّ"، فيقول في نصّ له: "ليجعل الله نسرين شعبًا تحت الاحتلال. ليملأ بالحواجز طريقها".

ويقول في أحد النصوص: "الليل فرس، والنهار جرس"، ثمّ يعود في نصّ آخر، كُتِبَ في نفس التاريخ لكن وُضِعَ في مكان آخر في الكتاب، ليعكسها على نفسه: "الليل يعرف أنّني جرس، والنهار يعرف أنّني فرس". ويقوم بعكس فكرة مثل "خمس أصابع تشعل القنديل، وإصبع واحدة تطفئه" على أشياء أخرى، فيقول: "هذا هو العالم. إصبع واحدة تكتب وكفّ كاملة تمحو".

ويتناصّ زكريّا مع فكرة في قصيدة لمريد البرغوثي يقول فيها: "أنتِ جميلة كوطن محرَّر/ وأنا متعب كوطن محتلّ"، فيقول في نصّ له: "ليجعل الله نسرين شعبًا تحت الاحتلال. ليملأ بالحواجز طريقها". كما يدوّر فكرة من كتابه الأسبق "كُشْتِبان" تقول:

"كما أنّني أجرّ مثل نملة القمح من بيتي، وأضعه في دربك.

أنا صفّ طويل من حبّات القمح من أجلك.

صفّ طويل لا يُرى".    

 

ليقول هنا في "زَراوَنْد" مغيّرًا رأيه:

"وأنت تريد جرّي بالمحبّة إلى بيتك، مثل نملة تجرّ حبّة قمح إلى بيتها.

غير أنّني أخبّئ حبّة قمحي في يدي، ولا أترك لعينك أن تراها، لأنّ المحبّة أخت الموت".

 

وأخيرًا، يوظّف زكريّا فكرة مبتذلة لطالما ردّدها كثير من الشعراء المعاصرين عن كذب الشعراء - وهو اعتراف يجهل بالدوافع اللاشعوريّة للكتابة - ورغم أنّه يأتي بصورة جديدة، إلّا أنّه ينهي المقطع بجملة تقريريّة، فيقول:

"هذه لعبة الشعر: ترمي بالأكاذيب في طريقك، فتفقس وتصير فراخًا.

أعطوني علبة كرتون صغيرة أربّي فيها فراخ الأكاذيب.

الشعر ليس الحقيقة، بل أختها الكذّابة".

 

الجملة الشعريّة

يقدّم زكريّا جمله الشعريّة، دافعًا بنا إلى المتعة. ويأخذ هذا التقديم أشكالًا مختلفة، فيأتي على شكل يجعل النصوص تفسّر بعضها بعضًا، فنحن لن يكتمل فهمنا لماذا بدأ زكريّا نصًّا بقوله: "صِلوني بالغريب أيضًا كي أمرض معه في سريره"، وأنهاه بقوله: "صِلوني بالحبيب كي يمرض معي في سريري"، إلّا إذا قرأنا في نصٍّ آخر قوله: "ولا يهمّ، فالحبيب اسم آخر للغريب".

ويأتي التقديم على شكل تصعيد، فهو يذكر تشبيهات عدّة متتالية متدرّجة القوّة، ما يعطي إحساسًا بالوصول إلى النشوة، يقول: "ليس عليّ دَيْن لأحد، ولا لي دَيْن عند أحد. مفتوح على الريح من الجانبين مثل زجاجة لا قعر لها. مفتوح على المطلق مثل مَنْ فقد أباه وابنه معًا. وصاعد في طريق العدم مثل نار تصعد جبلًا وتأكل أشجاره".

ويأتي التقديم أيضًا على شكل اختصار لمُرادَيْن في كلمة واحدة، يقول: "كلّ شيء هنا أعظم منّي وأرفع شأنًا. كلّ شيء يجرّ فخورًا تاريخه الطويل وراءه مثل ذيل التدرّج. أمّا أنا فأزحف على بطني كأنّني ثعبان". يُخَيَّل إليّ أنّ زكريّا يضرب عصفورين بحجر واحد، حين استخدم كلمة "ثعبان" هنا، فواضح أنّها وُضِعَت هنا لأنّها عكس طائر له ذيل يطير، لكنّ الكلمة أيضًا تحمل عصفورًا آخر مجّانًا، وهو ما يُعْرَف عن الثعبان من خبث ودناءة، ودليل ذلك ذكره أنّ كلّ شيء هنا "أرفع شأنًا".

وفي شكل آخر لتقديم الجملة الشعريّة، يقول زكريّا: "أعطني أيضًا قطرة من دمك كي أتذوّقها، لست مصّاص دماء، لكنّني لا أفهم أحدًا إن لم يكن دمه على لساني، وسرجه على ظهر حصاني". تبدو الصورة للوهلة الأولى في غاية الغرابة، لكن إن تمعّنّا فإنّها تبدو في غاية الجمال؛ إذ إنّ زكريّا يقصد بتذوّق الدم فهْم ماهيّة الشخص، وتأتي الصورة التالية لتدعم الصورة السابقة. كما تبدو المبالغة المتطرّفة في الوصف هنا هو ما يوصل الرعشة فينا؛ إذ نعلم كم الجنون الّذي قاد الشاعر إليها!

ويقدّم زكريّا أيضًا جمله الشعريّة من خلال ذكر صورة شديدة الدقّة والخصوصيّة، لينطلق بها إلى صور عامّة تتناسب معها، وفي ذلك جمال كبير. يقول:

"ننام. نصنع نفقًا دافئًا تحت اللحاف، ونتمدّد فيه، منتظرين الصباح. مع أنّ الصباح ليس شيئًا يصلح للانتظار. وحين يحلّ الصباح نصنع نفقًا من قماش، نلبسه ونزحف فيه خارجين من بيوتنا.

الحياة سلسلة أنفاق، ونحن جرابيع تقضي أعمارها في هذه الأنفاق. نحفر نفقًا وتبيت فيه، ثمّ نحفر غيره، ونبيت فيه. الرحم نفق أوّل. الحبّ نفق قصير لا نفع له. والشعر نفق معتم نختنق في داخله".

"زَراوَنْد"، آخر كتاب في ثلاثيّة زكريّا المتفجّرة من الصخر، وهي تزيد من شغفنا نحو الجمال، وتخبز الحنين على نور حكمة دافئ. الواضح أنّه لا يزال يكتب وينشر على الفيسبوك مقطوعات جديدة، قد نراها في كتاب رابع بعد مدّة...

وأخيرًا، فإنّ زكريّا يجازف عندما يقدّم جمله الشعريّة بالموسيقى الظاهرة الّتي غابت كثيرًا في قصيدة النثر، لكنّها هنا تعود في إطار موفّق في كثير من الأحيان؛ فهذا النوع من الموسيقى يناسب قدر التشتيت والجنون الّذي يغمر نصوصه، إضافة إلى امتيازها بجوّ عربيّ قديم، عبر أسلوب السجع. يقول زكريّا: "فالفجر سيعبر الحقول عمّا قريب. وأريد أن أعلّق في عنقه جرسًا، وأن أنحر لمقدمه فرسًا"، ويقول: "أنا شخص لا شفاء له. ألد جرائي في العزاءات، وأترك حذائي مقلوبًا على العتبات"، ويقول: "لا أحبّ أن أبكي. لكن الحقيقة أنّني بكّاء، وأنّ دموعي تصبّ في بحيرة الليل السمراء"، وأيضًا: "أقلّب نفسي كأنّني مفتاح في باب، كأنّني صفحات كتاب"، وأخيرًا: "أنا هو الّذي كسر أناه، وجعل مرآته أنثاه".

 

شعر قادم

"زَراوَنْد"، آخر كتاب في ثلاثيّة زكريّا المتفجّرة من الصخر، وهي تزيد من شغفنا نحو الجمال، وتخبز الحنين على نور حكمة دافئ. الواضح أنّه لا يزال يكتب وينشر على الفيسبوك مقطوعات جديدة، قد نراها في كتاب رابع بعد مدّة، فهنيئًا لشاعر اشتعل الرأس فيه شيبًا، ولا يزال يُرزق بكتب يأتيها بعضنا بقوّة.

"قطعتُ خيط الطائرة الورقيّة في يدي، فغيّبتها السماوات.

هذه هي حكمتي. هذا هو حنيني الكبير.

أنا قاطع خيوط.

قاطع طريق في عتمة الليل".

 


 

يحيى عاشور

 

 

شاعر فلسطينيّ من مواليد غزّة عام 1998. درس علم الاجتماع وعلم النفس في جامعة الأزهر– غزّة. عضو في عدد من الأطر والمبادرات الأدبيّة والأكاديميّة. حصل من "برنامج اليس" على منحة للتبادل الثقافيّ مدّتها عام في ولاية أوهايو الأمريكيّة. له مجموعة شعريّة بعنوان "أنت نافذة... هم غيوم" (مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ، 2018)، وهو حاصل على جائزة "كتابي الأوّل" من مؤسّسة تامر.