المقدسيّون وقضاياهم في الرواية العربيّة

أغلفة الروايات المتناولة في المقالة

 

أدّى الأدب العربيّ دورًا مهمًّا في مواجهة الاستعمار الإسرائيليّ، وقد تبنّى الكتّاب العرب الّذين اتّخذوا مدينة القدس فضاء لأحداث رواياتهم، قضيّة الدفاع عن القدس وعروبتها، حرصًا على تعزيز الثقافة الوطنيّة والقوميّة، ومواجهة الافتراءات الصهيونيّة، وسياسة التهويد الّتي تتعرض لها المدينة بشكل مستمرّ.

وانطلقت الرواية العربيّة من مبادئ الثقافة الوطنيّة المتمثّلة بـ "مجموعة من القيم الأساسيّة، والمتطوّرة في نفس الوقت، المرتكزة جوهريًّا على مبادئ الحقّ والعدالة والحرّيّة والكرامة، أعَلى المستوى العالميّ، أم على مستوى كلّ بلد؛ أي الوطنيّ، بما في ذلك مقاومة الظلم أيًّا كان مصدره، والدفاع عن الأرض والكرامة الوطنيّة تجاه أيّة قوّة خارجيّة غازية، وهي تعبير عن الحقّ في الوطن والحرّيّة" (منيف، د.ت). واستئناسًا  بمقتضيات الثقافة الوطنيّة، نستطيع أن نقرّ أنّ الروايات العربيّة وظّفت قيم الثقافة الوطنيّة ورسّختها، من خلال إثبات الحقّ الفلسطينيّ في الأرض والمكان، وتكذيب رواية الاستعمار، والتنويه بالدور الرياديّ البطوليّ للمقاومين، وتشجيعهم على الدفاع عن الوطن وشعبه (أبو الفيلات، 2020).

يعي الكتّاب العرب أهمّيّة صناعة السرديّة في نقد ادّعاءات الاستعمار، كما جاء على لسان الكاتب علي بدر، صاحب رواية «مصابيح أورشاليم» عن إدوارد، عندما قال: "إنّ إسرائيل نشأت من أسطورة أدبيّة... من فكرة رومانتيكيّة... نشأت من رواية... وبالتالي يجب إعادة كتابتها عن طريق الأدب أيضًا..."

يعي الكتّاب العرب أهمّيّة صناعة السرديّة في نقد ادّعاءات الاستعمار، كما جاء على لسان الكاتب علي بدر، صاحب رواية «مصابيح أورشاليم» عن إدوارد، عندما قال: "إنّ إسرائيل نشأت من أسطورة أدبيّة... من فكرة رومانتيكيّة... نشأت من رواية... وبالتالي يجب إعادة كتابتها عن طريق الأدب أيضًا... يجب تكذيبها عن طريق الرواية... الرواية هي أفضل حرب... طالما كلّ الحروب قد خسرت وفشلت فلماذا لا نجرّب الرواية؟ كلّ واقعة تخضع لسرد مختلف من قِبَل مستخدميها، يوم النكبة للفلسطينيّين هو يوم تأسيس إسرائيل، وهو عذاب وضياع وتشرّد للفلسطينيّين، وهو يوم وجود كيان للإسرائيليّين... هذه رواية وتلك رواية أخرى... هكذا سأجعل من سعيد البطل الّذي يكذّب الرواية الإسرائيليّة" (بدر، 2009).

وتسهم الرواية العربيّة في مواجهة سياسة الاستعمار القائمة على فرض ثقافة المجتمع الواحد، وتهميش الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة أو إلغائها، ونشر روايته المبنيّة على الأساطير والافتراءات، وذلك من خلال اهتمام الرواية العربيّة بتوثيق عروبة المكان، وردّ أسماء الأماكن والقرى الفلسطينيّة الّتي هوّدها الاستعمار إلى أصلها العربيّ، وتحفيز مقاومة الاستعمار (أبو الفيلات، 2020).

 

سياحة مهوّدة

ومن الأمور الّتي تناولتها الروايات العربيّة طرق تهويد السياحة في مدينة القدس وتسييسها؛ إذ بيّنت كيف تتعامل سلطات الاستعمار مع السيّاح في سبيل توجيه عقولهم، وذلك بطرق عدّة:

أ. منع السيّاح من دعم السوق الفلسطينيّ

بنت سلطات الاستعمار الإسرائيليّ جدار الفصل العنصريّ حول الضفّة الغربيّة، وزرعت حواجز عسكريّة على مداخل القدس، ما أدّى إلى حرمان الفلسطينيّين الّذين يعيشون فيها من زيارة المدينة؛ وهذا أدّى إلى إفراغ السوق العربيّة في المدينة من الزوّار الفلسطينيّين، وأثّر ذلك سلبًا في الاقتصاد المقدسيّ. وتبيّن رواية «سوق العطّارين» على لسان السارد حال السوق في القدس، "جلسة الساعة العاشرة هذه أمام الدكّان، أصبحت تتمّ في غالب الأحيان منذ سنتين؛ ذلك لأنّ ‘السوق نايم‘، أي أنّ الحركة التجاريّة أصبحت ضعيفة منذ البدء بتطبيق اتّفاقيّات السلام، فقد زادت الحواجز الإسرائيليّة على مداخل مدينة القدس، وأصبح من الصعب وصول سكّان باقي المدن الفلسطينيّة للتسوّق منها، وكذلك تعذّر وصول سكّان القرى الفلسطينيّة العربيّة المحيطة بالقدس إليها، الّتي تُعْتَبَر مركزهم للتسوّق، ما أضعف الوضع التجاريّ في المدينة، في حين أنّ الوضع السياحيّ فيها بات ضعيفًا. أمّا ما قبل ‘اتّفاقيّة أوسلو‘، فقد كانت الأمور التجاريّة تلهي أبا العبد وأبا مصطفى عن الخروج من حوانيتهم، والاكتفاء بشرب القهوة أثناء العمل" (أبو السعود، 2009).

أجرى عدد من الباحثين دراسات حول صورة العربيّ في الكتب الدراسيّة الإسرائيليّة، وخلصت دراساتهم إلى تأثير الاستشراق في رسم معالم شخصيّة العرب الّذين وُصِفوا بأنّهم رعاع سلبيّون، يهدّدون ويعتدون ويدمّرون ويستأصلون ويحرقون بيّارات البرتقال والبساتين والغابات، وأنّ العرب ناكرون للجميل.

وفي سبيل تضييق الخناق على التاجر المقدسيّ، يمنع الأدلّاء السياحيّون الإسرائيليّون السيّاح من شراء تذْكاراتهم من التاجر المقدسيّ عن طريق تشويه سمعته، ورسمت رواية «سوق العطّارين» صورة سلبيّة منفّرة، على لسان أبي مصطفى صاحب أحد المحلّات التجاريّة في السوق، "المشكلة مع أدلّاء السياحة اليهود... هدول بيطلبوا من الجروبات - أي المجموعات السياحيّة - إنها ما تشتري من المحلّات العربيّة، بيقولولهم العرب حراميّة، وبينصحوهم يشتروا من سوق الكاردو اللّي فتحوه اليهود جنبنا، والسوّاح بيصدقوهم، مع إنّه في بضايع في سوق الكاردو التجّار اليهود اشتروها منّي أنا، وبيبيعوها بأغلى كثير من أسعارنا" (أبو السعود، 2009).

يثير النصّ السابق طبيعة صورة العربيّ لدى الغربيّين، وقد عمدت الحركة الصهيونيّة إلى تشويه هذه الصورة، "وتناظر الدعاية اليهوديّة افتراءات بعض الرحّالة حينما كتبوا عن رحلاتهم إلى المشرق العربيّ. وتُضْمِر المؤثّرات الّتي تُفْضي إلى تشكيل صورة العربيّ في الكتب المدرسيّة اليهوديّة آفاقًا فكريّة، تتمثّل بالصورة السلبيّة الّتي جسّدها الفكر الاستشراقيّ، وخاصّة ما كتبه بعض الرحّالة المستشرقون الّذين ربطوا العقل العربيّ بالدونيّة، والعقل الغربيّ بالتفوّق والإبداع" (عتيق، 2019).

وأجرى عدد من الباحثين دراسات حول صورة العربيّ في الكتب الدراسيّة الإسرائيليّة، وخلصت دراساتهم إلى تأثير الاستشراق في رسم معالم شخصيّة العرب الّذين وُصِفوا بأنّهم رعاع سلبيّون، يهدّدون ويعتدون ويدمّرون ويستأصلون ويحرقون بيّارات البرتقال والبساتين والغابات، وأنّ العرب ناكرون للجميل. وفي المقابل تزعم الكتب المدرسيّة أنّ اليهوديّة جلبت التقدّم إلى المنطقة، وساعدت في تقدّم العرب والتغلّب على الخراب (أبو سعد، 2011).

وكما اتّضح ممّا عرضته الروايات العربيّة، فإنّ التاجر المقدسيّ يتعرّض لمنافسة غير شريفة من قِبَل المستوطنين التجّار، الّذين فتحوا محلّات تجاريّة ملاصقة لمحلّات المقدسيّين؛ فهم يعمدون وبالاتّفاق مع الأدلّاء السياحيّين الإسرائيليّين إلى خداع السائح كي يشتري منهم لدعم السوق الإسرائيليّة، أمّا المقدسيّ فلا أحد يشتري منه، إلّا «السائح الفالت» كما يقول عنه التجّار، أي الّذي يأتي إلى القدس وحيدًا، لا مع مجموعة سياحيّة مرتبطة بأدلّاء سياحيّين إسرائيليّين (أبو الفيلات، 2020).

اتّضح ممّا عرضته الروايات العربيّة، فإنّ التاجر المقدسيّ يتعرّض لمنافسة غير شريفة من قِبَل المستوطنين التجّار، الّذين فتحوا محلّات تجاريّة ملاصقة لمحلّات المقدسيّين؛ فهم يعمدون وبالاتّفاق مع الأدلّاء السياحيّين الإسرائيليّين إلى خداع السائح كي يشتري منهم لدعم السوق الإسرائيليّة

ب. التهويد الجغرافيّ واللغويّ للقدس

تتضمّن الرحلات السياحيّة الّتي تنظّمها سلطات الاستعمار أماكن فلسطينيّة جرى تهويدها، وتصف رواية «مصابيح أورشاليم» التزوير الجغرافيّ والتهويد اللغويّ لأسماء الأماكن الفلسطينيّة، الّتي طالها التهويد في الجولة السياحيّة الّتي انضمّ إليها إدوارد سعيد، وهو أحد شخصيّات الرواية، عندما زار القدس، كما جاء في الرواية المذكورة على لسان السارد: "مرّ من محطّة القطار القديمة، تناول يائيل الميكرفون وقال للسيّاح: سنمرّ من ‘متنزّه هاز‘، وبعد ذلك سنمرّ من عند ‘كبريس‘، أنتم ترون الآن ‘مجمّع الكنيون‘، أكبر المحالّ التجاريّة في القدس، وهناك ‘حديقة الحيوان‘، وهذا الفندق هل تعرفونه؟ إنّه ‘فندق هوليلاند‘، ومن ثَمّ سندخل نحو ‘جبل هرتسل‘، ونمرّ من ‘ياد فاشيم‘، ومن ‘جسر روفين‘، ومن ‘متحف العلوم‘. كان يائيل يشير للسيّاح بفرح إلى الأماكن الّتي يصلون إليها... مرّت الحافلة من ‘متحف إسرائيل‘، وإدوارد يضع رأسه على حافّة النافذة وهو يرقب المباني الّتي تمرّ أمام ناظريه: ‘متحف بلاد الكتاب‘، ‘كنيست إسرائيل‘، ‘محكمة العدل العليا‘، ‘المحطّة المركزيّة‘".

- "هل وصلنا ‘شموئيل هنفي‘؟ قالت إيستر.

- نعم. قال يائيل وهو يشير للسيّاح، إلى ‘كفعات هتحموشيت‘، إلى فندق ‘الهياة‘([1])، إلى ‘هر هتسوفيم‘.

- انظروا، قال: هذا ‘مستشفى هداسا‘.

- انظروا، قال: هذا ‘مستشفى أوغوستا فكتوريا‘، نحن نداوي فيه الفلسطينيّين أيضًا، الفلسطينيّين الّذين نصوّب عليهم في المظاهرات" (بدر، 2009).

يأخذنا النصّ السابق في جولة سياحيّة مع مجموعة من السيّاح في القدس، ويبدو جليًّا أنّ الأماكن الّتي زارتها هذه المجموعة السياحيّة، لم يُذْكر فيها أيّ مكان يدلّ على وجود فلسطينيّين، ولم يُلَمّح لوجودهم، إلّا في المستشفى الّذي يقول فيه المرشد السياحيّ إنّهم يعالجون فيه الفلسطينيّين الّذين يصابون في المظاهرات؛ فالفكرة الّتي يأخذها السائح الأجنبيّ أنّ الفلسطينيّين مثيرون للشغب، ويربط اسمهم بأعمال العنف. ويحرص المرشد السياحيّ على عدم ذكر سبب المظاهرات الّتي ينظّمها الفلسطينيّون، فلو قال إنّهم يقومون بها رفضًا لاحتلال أرضهم ووطنهم لأثبت أنّ الأماكن الّتي زارتها المجموعة السياحيّة هي أماكن فلسطينيّة، ثمّ يزوّر الحقائق حول «مستشفى أوغوستا فكتوريا» محرّفًا الحقيقة؛ إذ إنّ هذا المستشفى بُنِيَ في العهد التركيّ عام 1910م، على يد القيصر الألمانيّ وليم الثاني، تكريمًا لزوجته أوغستا فكتوريا، وأنّ إدارته فلسطينيّة ولم تكن يومًا إسرائيليّة؛ وبهذا يكون الاستعمار روّج نفسه على أنّه «إنسانيّ»، وأنّ هذه البلاد بتاريخها وأسمائها تعود لليهود فقط. 

ت. تشويه صورة الفلسطينيّ

يعمد الاستعمار إلى تشويه صورة الفلسطينيّ أمام السيّاح، ليستعطفهم ويحدّ من مخالطتهم للفلسطينيّين، فلا يسمع السائح إلّا وجهة النظر الإسرائيليّة؛ فرأينا كيف بدأ الأدلّاء السياحيّون بنعت التاجر الفلسطينيّ بالسارق، وهذا له أبعاد أخرى تتعدّى السوق، فإذا اقتنع السائح بأنّ التاجر المقدسيّ سارق، فحتمًا سيكون سهلًا عليه استقبال الرواية الّتي تقول إنّ الفلسطينيّ سرق الأرض من اليهود. ثمّ أكمل الأدلّاء السياحيّون تشويه صورة الفلسطينيّ، بنعته بصفات يحاول العالم جميعه محاربتها كـ «الإرهابيّ» و«المخرّب»، وهو ما يضعف موقفه أمام الرأي العامّ الخارجيّ.

 

تهويد أسماء الأماكن المقدسيّة

سعى الاستعمار الإسرائيليّ بعد سيطرته على القدس، إلى بلورة طابع عبريّ للمدينة، بهدف ربط كيانها السياسيّ بما يُسَمّى القوميّة اليهوديّة، وزرْع جذور لليهود فيها بوساطة الأسماء التوراتيّة، وقد شكّل لتطبيق خطّته لجنة خاصّة عام 1948، باسم «اللجنة الحكوميّة للأسماء»، تتألّف من شخصيّات رسميّة وأكاديميّة ومسؤولين في ميدان التخطيط والتنظيم، مهمّتها دراسة أسماء الأماكن والمعالم والمواقع التاريخيّة، ووضع بدائل للأسماء العربيّة. وأوردت هذه اللجنة الأسماء اليهوديّة للمناطق العربيّة في الكتب المدرسيّة، ومنعت تداول الأسماء العربيّة، ثمّ تقدّمت إلى المؤتمر الدوليّ لتوحيد المصطلحات الجغرافيّة، المنعقد في جنيف في 22 أيلول (سبتمبر) 1967، بمذكّرة تضمّنت أسماء عبريّة للأسماء العربيّة الأصليّة للمدن والقرى والمواقع الأثريّة في فلسطين، ثمّ أعدّت أطالس وموسوعات إسرائيليّة تضمّنت تسميات عبريّة لغالبيّة معالم البلاد، منها مثلًا: «أطلس إسرائيل»، و«الموسوعة اليهوديّة»، و«موسوعة اليهوديّة وإسرائيل»، و«المعجم الجغرافيّ لإسرائيل»، ودليل سياحيّ باللغات كافّة (عبد الكريم، 2008).

يطرح الكاتب بأسلوب السخرية تحوّل اسم شارع عربيّ إلى اسم يهوديّ بالكامل، يرجع إلى مدينة لندن في أوروبّا؛ فالاستعمار لم يحرّف الاسم أو يحاول تقريبه إلى العبريّة كما تفعل الثقافات الأخرى، بل ألغى الاسم العربيّ بالكامل، وألبس الشارع اسمًا جديدًا يُسَوّق إلى فكرة يهوديّة القدس...

رصدت رواية «مصابيح أورشاليم» خطّة التهويد على لسان أحاد هاعام: "‘سنغيّر كلّ شيء في القرن التاسع عشر‘، قال ذلك وقد انعكس شعاع الشمس على مونوكوله، كان الوقت ظهرًا، وقد هبّت ريح باردة بين الصخور، وصفّرت بقوّة دون توقّف، من خلال الخرائب، كان هناك عمّال، ومهندسون، وجنود استعماريّون يجتاحون الأرض ويجعلونها غريبة عن سكّانها الأصليّين" (بدر، 2009).

وأحاد هاعام أديب صهيونيّ، عاش في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكرّس حياته لإقامة وطن قوميّ لليهود في أرض فلسطين، واختياره في النصّ الروائيّ السابق ليس عشوائيًّا؛ إذ يهدف الكاتب إلى القول إنّ الصهاينة خطّطوا منذ زمن بعيد لتهويد مدينة القدس، فجنّدوا كلّ مَنْ يستطيع تحقيق ذلك من عمّال وجنود ومهندسين، وأطلقوهم في المدينة كي يخلقوا مدينة جديدة على أنقاض القدس (أبو الفيلات، 2020).

ونجح المجنّدون في تغيير معالم المدينة وأسماء شوارعها كما تؤكّد رواية «ضحى»، على لسان السارد: "معالم القدس تغيّرت أو غُيّرت بالقوّة، فالكولنياليّة تقوم على تغيير صكّ الملكيّة من الساكن الأصليّ إلى الجديد، ومن ثَمّ تقوم على تغريب المدينة نهائيًّا، إنّها تجعل معالمها غريبة تمامًا عن ساكنها المحلّيّ، ثمّ تغيّر تاريخها، أو تخترع تاريخًا جديدًا وتفبركه، إنّها تسرد تاريخ الأمّة طبقًا لمصالحها ووجودها، وتصنع رموزًا جديدة تتعرّف على نفسها فيها. الطالبيّة أصبحت ‘كوميموت‘ والقطمون أصبح ‘غونين‘ والبقعة أصبحت ‘غيؤوليم‘، حتّى القدس يدعونها ‘يروشلايم‘" (ياسين، 2018).

يحرص الاستعمار على جعل هويّة القدس يهوديّة بربطها بالتوراة، كما تبيّن رواية «كافر سبت»، على لسان نبيه الّذي كان يعمل أجيرًا عند كهربائيّ، وأوكلت إليهما مهمّة تركيب مصابيح كهربائيّة في إحدى مستوطنات القدس، "وفي الحادثة الّتي نجوت منها بأعجوبة، من موت محقّق، كنّا نركّب مصابيح كهربائيّة، في أحد بيوت مستوطنة إسرائيليّة قريبة تقع على أرض صادرتها سلطات الاحتلال، من بير نبالا شماليّ القدس، وأقامت عليها مستوطنة ‘جفعات زئيف‘، سألت أحد العمّال اليهود، المستوطنين اليافعين، في الورشة:

مَنْ يُسمّي بلدته الجديدة باسم ‘تلّة الذئب‘؟ ألا يوجد أسماء أفضل عندكم؟

أجاب متهكّمًا: جميع هذه الأسماء موجود أو مستوحًى من التوراة، ومن تاريخ ممالك إسرائيل الأولى والثانية قبل سبي بابل وبعده؛ لذا فنحن نعيد ليهودا والسامرة (الضفّة الغربيّة) مجدها القديم" (الحسيني، 2012).

ولم يتوقّف التهويد عند أسماء القرى فحسب، إنّما شمل أسماء الشوارع أيضًا، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ التهويد قد يلبس ثوبًا بريئًا، ويكون سلسًا ومستساغًا، وتعطينا الروايات العربيّة مثالًا على كلا النوعين؛ إذ تورد رواية «ضحى» تهويد الاستعمار اسم «شارع الأمير عبدالله» في غربيّ القدس (أبو الفيلات، 2020).

"أيقظني من حيرتي وذهولي ديزرائيلي الّذي يعطي اسمه للزقاق الّذي كنّا نسكنه. ديزرائيلي في لندن الفكتوريّة القديمة يطلّ من نافذة مجهولة في ظلام التاريخ. يبشّر بالعرْق المضيء (لا شيء سوى العرْق... العرْق وليس ثمّة شيء آخر). غيّرت الكولنياليّة الإسرائيليّة المدينة، وجرّدتها من حياتها، وفرضت عليها شكلها الّذي تريده لها. كلّ ثقافة تقترض من ثقافة أخرى وتحرّفها وتهجرها وتهاجر إليها: ابن رشد تحوّل إلى أفيروس، ابن سينا أصبح أفيسين، الخوارزميّ أصبح ألغرثمو، الفارابيّ تحوّل إلى فرابيوس، حتّى محمّد تحوّل إلى محموت... فلا غرابة في أن يتحوّل شارع الأمير عبدالله إلى جابوتنسكي وزقاقنا إلى ديزرائيلي" (ياسين، 2018).

ولم يتوقّف التهويد عند أسماء القرى فحسب، إنّما شمل أسماء الشوارع أيضًا، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ التهويد قد يلبس ثوبًا بريئًا، ويكون سلسًا ومستساغًا، وتعطينا الروايات العربيّة مثالًا على كلا النوعين؛ إذ تورد رواية «ضحى» تهويد الاستعمار اسم «شارع الأمير عبدالله» في غربيّ القدس...

يطرح الكاتب بأسلوب السخرية تحوّل اسم شارع عربيّ إلى اسم يهوديّ بالكامل، يرجع إلى مدينة لندن في أوروبّا؛ فالاستعمار لم يحرّف الاسم أو يحاول تقريبه إلى العبريّة كما تفعل الثقافات الأخرى، بل ألغى الاسم العربيّ بالكامل، وألبس الشارع اسمًا جديدًا يُسَوّق إلى فكرة يهوديّة القدس (أبو الفيلات، 2020).

والنوع الثاني من التهويد يتمثّل بنزع أسماء الشوارع العربيّة الّتي تُذَكّر العرب بانتصاراتهم وقدرتهم على هزيمة الصهاينة، فتذكر رواية «برد الصيف» قصّة «شارع بور سعيد» في القدس، على لسان السارد، في سياق احتجاج المقدسيّين على تغيير اسم أحد شوارع المدينة: "تململ ساكنو قبور المدينة في قبورهم، فالصحابة والشهداء والأعيان والعلماء والعامّة الّذين رووا تراب المدينة بدمائهم، يرتعد رفاتهم غضبًا كلّما داهم المدينة خطر، وهم يحتجّون على قرار بلديّة الاحتلال استبدال اسم ‘شارع بور سعيد‘ بـ شارع الزهراء‘، حتّى أنّ روح الطيّار السوريّ جول جمّال رفرفت فوق مياه قناة السويس، الّتي ابتلعت مياهها ما تبقّى من جثمانه الطاهر، عندما فجّر طائرته ببارجة فرنسيّة في عدوان عام 1956" (السلحوت، 2013).

تُعَدّ مدينة «بور سعيد» المصريّة رمزًا للمقاومة الشعبيّة وهزيمة العدوّ؛ إذ ألحق سكّانها هزيمة بقوّات العدوان الثلاثيّ (الاحتلال الإسرائيليّ، بريطانيا، فرنسا) عام 1956، عندما قرّرت هذه الدول رفض تأميم «قناة السويس»، فردّ عليهم أهالي «بور سعيد» بمقاومة شديدة، حتّى أسقطت علم الاحتلال البريطانيّ عن مكتب إدارة القناة، ودحرت القوّات المعادية عنها، فلم يُرد الاستعمار الإبقاء على اسم شارع يذكّره بهزيمته، ويذكّر العرب بانتصارهم، فصار اسم الشارع لا يدلّ على الحرب مطلقًا، «شارع الزهراء» (أبو الفيلات، 2020).

تكاد لا تخلو قرية في مدينة القدس من مستوطنة أو بؤرة استيطانيّة، أسّسها الاستعمار ثمّ أطلق أسماء يهوديّة عليها، ومحا أسماء القرى الّتي بُنِيَتْ على أرضها؛ ولهذا تحاول الروايات العربيّة تأصيل أسماء القرى الّتي هوّدها الاستعمار، حتّى يتعرّف قارئها على اسم القرية الحقيقيّ، ويتّضح ذلك في رواية «باب العمود»، على لسان بهيّة الّتي تروي كيف كان ماهر يعلّم أبناءه أسماء القرى المقدسيّة، ويوضّح لهم استيلاء المستوطنين عليها: "في كلّ مرّة نسافر فيها كنتَ يا ماهر، تعيد أسماء المستوطنات المحيطة بالقدس وأسماء القرى العربيّة المغتصبة الّتي أُقيمت عليها، أنت تسأل وعبادة يجيب، أنا مبهورة بإجابات عبادة فهو لا يخطئ! ومريم تعيد كلام عبادة وأحيانًا تسبقه! تشير بيدك من الشبّاك، وتقول:

- يا عبادة، هذه المستوطنة اسمها ‘الجامعة العبريّة‘، فيجيب عبادة: مقامة على أراضي قرية العيساويّة ولفتا!

- وهذه المستوطنات على شمالنا اسمها ‘ريختس شعفاط‘، ينظر إليها عبادة ثمّ يقول: وهي مقامة على أراضي قرية ‘بيت حنينا‘ و‘شعفاط‘!

- وتلك الّتي في أعلى التلّة اسمها ‘عطروت‘، ينظر عبادة إلى أعلى، ويجيب: أقيمت على أراضي ‘قلنديا‘ و‘الرام‘ و‘بير نبالا‘ و‘بيت حنينا‘!

- طيّب، و‘التلّة الفرنسيّة‘ يا عبادة؟

- أقيمت على أراضي ‘لفتا‘ و‘شعفاط‘" (أبو نبعة، 2017).

 

ولا يخفى أنّ إقامة سلطات الاستعمار المستوطنات، تهدف إلى الحدّ من حجم الوجود العربيّ وامتداده في القدس، وتسمية هذه المستوطنات بأسماء يهوديّة هدفها تفوّق الاسم العبريّ على العربيّ، إذ إنّ الاستعمار غيّر أسماء القرى المقدسيّة الّتي احتلّها عام 1948، بينما لا يزال بعض القرى العربيّة القائمة الّتي يسيطر عليها الاستعمار تحتفظ باسمها العربيّ، ولهذا أحاطها بمستوطنات تقطع تواصلها الجغرافيّ، وتحدّ من امتدادها، وتنازعها بالاسم؛ فبلدة «بيت حنينا» مثلًا، وهي تقع شمال القدس، بنى الاستعمار على أراضيها ثلاث مستوطنات هي »بسغات زئيف»، و«عطروت » و«نفي يعقوب».

تحاول الروايات العربيّة تأصيل أسماء القرى الّتي هوّدها الاستعمار، حتّى يتعرّف قارئها على اسم القرية الحقيقيّ، ويتّضح ذلك في رواية «باب العمود»، على لسان بهيّة الّتي تروي كيف كان ماهر يعلّم أبناءه أسماء القرى المقدسيّة، ويوضّح لهم استيلاء المستوطنين عليها...

لا ننكر أنّ البلدة بقيت محتفظة باسمها العربيّ على مساحة صغيرة من حجمها الأصليّ، لكنّ الأرض الّتي سُلِبَت منها لبناء المستوطنات أصبحت تُسَمّى بأسماء يهوديّة، ممّا يلغي تاريخها العربيّ، كما أنّ هذه المستوطنات في توسّع مستمرّ، ومن ثَمّ فإنّ أسماءها في توسّع مستمرّ أيضًا، وهو توسّع على حساب الاسم العربيّ، فمع مرور الوقت سيسيطر الاسم العبرانيّ على أيّ اسم عربيّ؛ فالتهويد قد لا يكون مباشرًا كما حصل في غربيّ القدس، بل قد يكون على مراحل تستغرق سنوات.

وتهويد أسماء الأماكن يكون مدروسًا؛ فتهويد اسم المكان الدينيّ يكون باسم دينيّ، فـ «حائط البراق» تحوّل اسمه إلى «المبكى»، والاسم الّذي يدلّ على المقاومة والانتصار صار يدلّ على السلام، وأسماء قرًى فلسطينيّة تحوّلت إلى أسماء توراتيّة للمستوطنات، فكلّ اسم عربيّ لا بدّ من أن يكون على غراره اسم يهوديّ يحلّ مكانه، لينزع هويّة المكان العربيّة بنوع من التمويه (أبو الفيلات، 2020).

 

سحب الإقامات

سار الاستعمار منذ سيطرته على مدينة القدس على خطّة، تهدف إلى تقليص عدد الفلسطينيّين فيها، وكان ذلك واضحًا بطردهم منها، من خلال المجازر الّتي ارتكبها في قرى القدس وأحيائها ما بين عامَي 1948 و1967، واستكمالًا لهذه السياسة، عَدّ الاستعمار الفلسطينيّين الّذين ثبتوا في القدس مقيمين فيها وليسوا مواطنين، ولتقنين ذلك أصدر لهم بطاقات مقدسيّة خاصّة تسلخهم عن محيطهم الفلسطينيّ، سواء في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967 أو المحتلّة عام 1948.

نبّهت الروايات العربيّة إلى الوضعيّة القانونيّة الاستعماريّة المفروضة على المقدسيّ، فوضّحت أنّه يحمل صفة «مقيم»، ولا يتمتّع بأيّ جنسيّة؛ فتقول رواية «كافر سبت» على لسان بطل الرواية نبيه: "وبعد نكسة العام سبعة وستّين قرّرت إسرائيل ضمّ القدس الشرقيّة المحتلّة إلى ما يُسمّى ‘أراضيها‘، ومُنِحَ السكّان صفة سكّان مقيمين في إسرائيل، وهذا ضدّ جميع القوانين الدوليّة. وعندما وقف عمّي فوّاز بعد النكسة في الطابور، الّذي وصل إلى تقاطع شارع المسعوديّ مع الأصفهانيّ – حيث فتحت وزارة الداخليّة الإسرائيليّة فرعًا لها آنذاك – ليستصدر هويّة بعد أن أحصوه وأسرته في بيت العائلة بالقدس، قال له الموظّف اليهوديّ بلهجة عربيّة مكسّرة:

- جيب هويّة أردنّ!

- أنا من القدس، ولدت هون قبل ما تيجي دولتكم، وبشتغل في البلديّة!

- يعني إنت من أورشاليم؟

- بنعطيك هويّة مؤقّت وبنشوف إنت مؤدّب ولا تروخ على ليفانون أو يردين" (الحسيني، 2012).

 

 الإقامة الّتي يمنحها الاستعمار للأصلانيّ المقدسيّ مشروطة بأن يكون «مؤدّبًا»، كما يشير الاقتباس السابق، فإذا خالف المقدسيّ هذا الشرط فإنّه سيُرَحَّل إلى خارج المدينة، إلى لبنان أو الأردنّ مثلًا، وقد يكون هذا الترحيل إلى الضفّة الغربيّة أو غزّة أو أيّ مكان آخر؛ فالهدف تقليل عدد الفلسطينيّين في القدس. وتختزل كلمة «مؤدّبًا» أبعادًا سياسيّة خطيرة، فالمؤدّب في رأيهم هو المقدسيّ الّذي يعترف بالاستعمار دولةً شرعيّة، ولا يعترض على سياسته وإجراءاته التهويديّة في القدس (أبو الفيلات، 2020).

السيّد سرحان بطل رواية «عاشق على أسوار القدس»، الّذي سافر إلى الولايات المتّحدة لأكثر من عشرين سنة، سحبت منه سلطات الاستعمار هويّته ومنعته من البقاء في القدس، كما يتّضح من حواره مع موظّفة وزارة داخليّة الاستعمار...

وتشير الروايات العربيّة إلى سبب آخر لسحب الهويّة المقدسيّة، وهو اضطرار المقدسيّ إلى السكن خارج ما يسمّيه الاستعمار «حدود مدينة القدس». ويضغط الاستعمار على المقدسيّ اقتصاديًّا بمحاربته بلقمة عيشه، وفرض الضرائب عليه، فيضطرّ إلى السكن خارج مدينة القدس في مناطق لا يدفع فيها «ضريبة الأملاك» (الأرنونا)، أو يسكن خارج القدس لعدم امتلاكه بيتًا فيها، فيسحب الاستعمار من المقدسيّين إقامتهم في المدينة ويمنعهم من العودة إليها؛ إذ سحبت سلطات الاستعمار إقامات 14635 مقدسيًّا منذ عام 1967 حتّى عام 2017. تنبّه رواية «عاشق على أسوار القدس» على هذه المسألة، على لسان بطل الرواية سرحان: "قل لي يا أمين، ماذا تفعل الصحافة تجاه مشكلة سكّان القدس، وقيام إسرائيل بترحيل مَنْ يسكن خارجها وإلغاء حقّه في البقاء في القدس أو العودة إليها؟"(سالم، 2012).

فالسيّد سرحان بطل رواية «عاشق على أسوار القدس»، الّذي سافر إلى الولايات المتّحدة لأكثر من عشرين سنة، سحبت منه سلطات الاستعمار هويّته ومنعته من البقاء في القدس، كما يتّضح من حواره مع موظّفة وزارة داخليّة الاستعمار: "سيّد سرحان، لقد غادرت القدس في عام (1980)، ومنذ ذلك اليوم حتّى اليوم جئت إلى القدس في عام (1990) لمدّة شهر. معظم الوقت أنت خارج القدس، يعني مركز حياتك خارج القدس؛ لذلك فقدت حقّ المواطنة.

- منذ متى يفقد المواطن حقّ الإقامة في وطنه لأنّه يعيش خارجه؟

- أنت حسب القانون الإسرائيليّ مقيم في القدس، ولست مواطنًا لأنّك لا تحمل الجنسيّة الإسرائيليّة.

- ولكنّي مواطن حتّى قبل احتلالكم القدس، وفرضتم علينا البطاقة الزرقاء كمواطنين، فكيف تسحبونها؟" (سالم 2012).

 

أعطى الاستعمار هويّة الإقامة في القدس للمقدسيّين مجبرًا، لكنّه لا يتوانى عن سحبها منهم لأسباب كثيرة. وليست الهويّة المقدسيّة هي الشيء الوحيد الّذي يسحبه الاستعمار من المقدسيّين في حالة خارج القدس؛ إذ إنّه يسحب منهم ما يُسَمّى «التأمين الصحّيّ»، فيمنعهم من العلاج بعيادات صناديق المرضى، الّتي يدفعون لما تُسمّى «مؤسّسة التأمين الوطنيّ» التابعة للاستعمار مبلغًا شهريًّا، مقابل تغطية نفقات علاجهم إذا اضطرّوا إلى تلقّي العلاج، وإذا قطع التأمين الصحّيّ عن المواطن المقدسيّ فإنّه يضطرّ إلى العلاج على نفقته الخاصّة، وهو ما يكلّف مبالغ طائلة قد لا يستطيع تأمينها (أبو الفيلات، 2020).

تتحدّث رواية «سوق العطّارين» عن موضوع قطع التأمين الصحّيّ عن المقدسيّين، الّذين يسكنون في ضواحي مدينة القدس الّتي فصلها الاستعمار عن المدينة، كما يبدو في الحوار العائليّ بين أبي مصطفى وابنه...

وتتحدّث رواية «سوق العطّارين» عن موضوع قطع التأمين الصحّيّ عن المقدسيّين، الّذين يسكنون في ضواحي مدينة القدس الّتي فصلها الاستعمار عن المدينة، كما يبدو في الحوار العائليّ بين أبي مصطفى وابنه: "يعني إخوتك لازم يرجعوا يسكنوا في القدس، ولازم نلاقي لهم بيوت، ولازم نحلّ الموضوع من أساسه.

- وشو الحلّ برأيك يا بابا؟

- في حلّ للمدى القصير وحلّ للمدى الطويل.

- فهّمنا...

- على المدى الطويل لازم نبيع عمارة الرام ونبني 3 سُكَن في القدس.

- ومن فين نلاقي أرض نبني عليها 3 سُكَن ويمكن لازمنا أربعة مش تلاتة؟ سنتين زمان وأخوي اللّي في الجامعة بيتخرّج وبيصير بدّه بيت عشان يتجوّز.

- بنبني طابق فوق دار أخوك ببيت حنينا، وطابق فوق دارك بشعفاط يا دكتور، وبنحاول نرفع طابق هون في واد الجوز.

- ومن فين نجيب المصاري؟ الشغل ضعيف هالأيّام ودخلنا يا دوب يكفي مصاريفنا... رخص البناء بدها 3 سنين والبناء بدّه سنتين... طيّب شو نعمل هلأ؟

- بنستأجر 3 شقق في القدس...

- 3 شقق كلّ شقّة بدها ستّ سبع ميت دولار بالشهر... هاي فلوس طايرة عالفاضي.

- في منطقة سميراميس الشقق أرخص... بتلاقوا بـ 400 دولار".

لم يُسفر الجدال تلك الليلة عن اتّفاق، وعاد كلّ واحد من أبناء أبي مصطفى إلى بيته، وفي صباح اليوم التالي فحص الدكتور سعيد وضع التأمين الصحّيّ، فوجد أنّ إخوته الثلاثة الّذين يسكنون الرام قد أُوْقِفَ تأمينهم، وأنّ عليهم مراجعة التأمين الوطنيّ" (أبو السعود، 2009).

يطرح الحوار العائليّ في الرواية قضايا عدّة خاصّة بالتأمين الصحّيّ، إذ يضطرّ المقدسيّ إلى السكن في حدود القدس الّتي رسمها الاستعمار؛ ففي حالة عائلة أبي مصطفى يُجْبَر ابنه على التفكير في بيع عمارتهم السكنيّة في «بلدة الرام»، الّتي كانت تتبع لمدينة القدس قبل احتلالها عام 1967، وشراء أرض في القدس ثمّ تقديم طلب استصدار رخصة بناء لبلديّة الاستعمار وانتظار الموافقة عليه، أو استئجار بيت في القدس بإيجار مرتفع؛ فالاستعمار يُجبر المقدسيّين على التخلّي عن راحتهم، وعلى التضييق عليهم اقتصاديًّا، في سياق المحافظة على هويّتهم وتأمينهم الصحّيّ (أبو الفيلات، 2020).

 

استهداف الوعي

يُعَدّ إيجاد فلسطينيّ يخدم الاستعمار، من أقوى الأسلحة الاستخباراتيّة الّتي يمتلكها الإسرائيليّون؛ إذ إنّ الفلسطينيّ يستطيع الاندماج في مجتمعه، ومعرفة أنشطة الناس وخططهم في مكافحة الاستعمار، أو مكان سكنهم؛ فيتيح للاستعمار فرصة سحب إقامتهم من القدس.

ويتّبع الاستعمار طرقًا عدّة في سبيل تشويه وعي الإنسان الفلسطينيّ، منها: إغراؤه بالمال، أو تسهيلات في المعاملات، أو منحه سلطة ما. وقد تحدّثت الروايات العربيّة عن محاولة الاستعمار استهداف وعي المقدسيّين، منها ما كان موجّهًا إلى المقدسيّين جميعًا، ومنها ما كان فرديًّا.

يخيّر الاستعمار المقدسيّ بين حرّيّته وخيانة وطنه والتخابر معه، وقد يمنحه سلطة يمارسها على أبناء شعبه إذا رضي بالعمل معهم، وهذا ما تبيّنه رواية «برج اللقلق» في سياق وصف شخصيّة الجاسوس ليث...

وبدأ الاستعمار محاولة استهداف وعي المقدسيّين قبل إعلان احتلاله الجزء الغربيّ من القدس، أي بعد قرار «الأمم المتّحدة» تقسيم فلسطين عام 1947؛ فحاولت الحركة الصهيونيّة ضمّ العرب إليها حتّى يبنوا دولتهم كما يشاؤون بلا مقاومة. وتصف رواية «أشباح القدس» محاولة الصهيونيّة التقرّب من المقدسيّين لإقناعهم بالانضمام إلى مشروعها، كما جاء في مناشير وزّعتها «الوكالة اليهوديّة» على المقدسيّين، "لاحظ الجميع المناشير الّتي وزّعتها ‘الوكالة اليهوديّة‘ على سكّان الأحياء المقدسيّة العربيّة. كتبت عليها بخطّ عربيّ جميل: أنتم أيّها العرب، أبناء عمّ ساميّون. حكّموا عقولكم ولا تردّوا على زعمائكم من العرب، فكلٌّ له مصلحة خاصّة، انضمّوا معنا وسيروا على بركة الله، لنعمّر البلاد من كلّ الوجوه، ونسير فيها معًا كالإخوان" (الأعرج، 2012).

أرادت الصهيونيّة من المقدسيّين أن يتقبّلوا فكرة مشاركة اليهود المهاجرون لهم في دولتهم، وتقبّل سرقتهم لأراضيهم وكأنّه أمر طبيعيّ، وعلى الرغم من هذا إلّا أنّ اليهود لم يكونوا مسالمين مع الفلسطينيّين في تلك الفترة؛ إذ كانت لهم غارات على الأحياء العربيّة، يحرقون خلالها الزرع أو يقتلون أفرادًا من الفلسطينيّين، فعَلِم الفلسطينيّون نيّتهم قبل إعلان دولتهم، وكان هدف هذه المنشورات أيضًا "تفتيت الشارع العربيّ، وذلك باستقطاب بعض العناصر الفلسطينيّة والعربيّة كما هو قائم اليوم" (عليّان، 2012).

يخيّر الاستعمار المقدسيّ بين حرّيّته وخيانة وطنه والتخابر معه، وقد يمنحه سلطة يمارسها على أبناء شعبه إذا رضي بالعمل معهم، وهذا ما تبيّنه رواية «برج اللقلق» في سياق وصف شخصيّة الجاسوس ليث، "وقد تمكّن بعد فترة وجيزة من استقطاب شلّة من الأشقياء... أغدق عليهم العطاء... فأصبحوا عصابة مرهوبة الجانب... تمكّنت من الإيقاع بخلايا وطنيّة عدّة... فنال استحسان كابتن موريس... أكرمه... وأجزل عليه العطاء... ووثق به أكثر... فنفّذ له خطّة تقرّبه من أهل الحيّ وتزيد سيطرته عليهم. أذن له بالمساعدة... وتسهيل بعض المعاملات والقضايا الصعبة مثل تصاريح السفر... أو تصاريح خاصّة بدخول القدس... أو زيارة المساجين ومساعدة الموقوفين... إلى غير ذلك من الأمور الّتي لا غنى للناس عنها... فأصبح ليث في الحيّ بمنزلة الشرّ الّذي لا بدّ منه" (السمّان، 2016).

ويحقّق الاستعمار هدفًا مزدوجًا بهذه الطريقة؛ إذ يبيّن للناس أنّ مَنْ يعمل لصالحه تصبح حياته أسهل، وينل ما يريده، فيدفعهم إلى التفكير في خدمته، كما أنّه يمنح الجاسوس سلطة تجعل انتماءه أكبر، وتقرّبه من الناس أكثر، فيتعرّف نشاطاتهم ونواياهم ومخطّطاتهم.

..........

مصادر ومراجع

* أبو السعود، عزّام. 2009. سوق العطّارين. القدس: عزّام أبو السعود.

* أبو الفيلات، محمّد. 2020. مواجهة تهويد القدس بالرواية العربيّة. القدس: جامعة القدس المفتوحة.

* أبو سعد، إسماعيل. 2011. التعليم العربيّ في إسرائيل وسياسة السيطرة - واقع التعليم في النقب. النقب: جامعة بن غوريون.

* أبو نبعة، نردين. 2017. باب العمود. بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر.

* الأعرج، واسيني. 2012. أشباح القدس. بيروت: دار الآداب للنشر والتوزيع.

* بدر، علي. 2009. مصابيح أورشاليم. بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر.

* الحسيني، عارف. 2012. كافر سبت. رام الله: دار الشروق للنشر والتوزيع.

* سالم، عادل. 2012. عاشق على أسوار القدس. القدس: دار الجندي للنشر والتوزيع.

* السلحوت، جميل. 2013. برد الصيف. القدس: دار الجندي للنشر والتوزيع.

* السمّان، ديمة. 2016. برج اللقلق. حيفا: مكتبة كلّ شيء.

* عبد الرحمن منيف. د.ت. بين الثقافة والسياسة. لبنان: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر والمركز الثقافيّ العربيّ.

* عبد الكريم، إبراهيم. 2008. "تهويد أسماء المعالم المقدسيّ". مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقيّة، 13/03/2008، http://www.aqsaonline.org/news.aspx?id=580.

* عتيق، عمر. 2019. نوافذ ثقافيّة. الأردنّ: دار دجلة.

* عليّان، حسن. 2012. القدس - الواقع والتاريخ في الرواية العربيّة. الأردنّ: دار البركة للنشر والتوزيع.

* ياسين، حسين. 2018. ضحى - ثلاث نساء في القدس. الأردنّ: دار فضاءات للنشر والتوزيع.

 

 

* تُنْشَر هذه المادّة ضمن ملفّ «العاصمة»، الّذي تخصّصه فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لتسليط الضوء على الفعل الثقافيّ في مدينة القدس، والمتعلّق بها، وذلك بالتزامن مع الذكرى العشرين «لانتفاضة القدس والأقصى»، وفي ظلّ السياسات الحثيثة والمتزايدة لنزع فلسطينيّة وعروبة المدينة.

 

 

 

محمّد أبو الفيلات

 

 

 

باحث مقدسيّ، مختصّ في النقد الأدبيّ المعاصر، حاصل على الماجستير من «جامعة القدس المفتوحة».

 

 

 

مواد الملف

"العاصمة"... القدس والفعل الثقافيّ | ملفّ

لا أحبّ الكتابة عن القدس

لا أحبّ الكتابة عن القدس

الوقف في القدس... المكانة والتحدّيات القانونيّة

الوقف في القدس... المكانة والتحدّيات القانونيّة

الرباط والمرابطات: تحوّلات النضال الشعبيّ في القدس

الرباط والمرابطات: تحوّلات النضال الشعبيّ في القدس

"زفّة وزغرودة يا بنات" ... أغانٍ تراثيّة بمزاجٍ مقدسيّ

مركز جماهيريّ في القدس... لماذا يوزّع حاويات نفايات على الفلسطينيّين؟

مركز جماهيريّ في القدس... لماذا يوزّع حاويات نفايات على الفلسطينيّين؟

تطييف يهود القدس... سياسات الاختراق المبكر

تطييف يهود القدس... سياسات الاختراق المبكر

سهيل خوري: فلسطينيّ يعزف بيتهوفن... يهدّد إسرائيل | حوار

سهيل خوري: فلسطينيّ يعزف بيتهوفن... يهدّد إسرائيل | حوار

يحصل في القدس... يشجّعون التشجير ويقلعون الأشجار!

يحصل في القدس... يشجّعون التشجير ويقلعون الأشجار!

مقدسيّون بلا قدس... حاجز قلنديا وكفر عقب

مقدسيّون بلا قدس... حاجز قلنديا وكفر عقب

أداء فلسطين – مقاومة الاحتلال وإعادة إنعاش هويّة القدس الاجتماعيّة والثقافيّة عبر الموسيقى والفنون

أداء فلسطين – مقاومة الاحتلال وإعادة إنعاش هويّة القدس الاجتماعيّة والثقافيّة عبر الموسيقى والفنون

نادرة شلهوب كيفوركيان: ذهاب عبير إلى المدرسة فعل مقاوم | حوار

نادرة شلهوب كيفوركيان: ذهاب عبير إلى المدرسة فعل مقاوم | حوار

بالشمع الأحمر... هكذا أغلقت إسرائيل أكثر من مئة مؤسّسة مقدسيّة

بالشمع الأحمر... هكذا أغلقت إسرائيل أكثر من مئة مؤسّسة مقدسيّة

القدس في الأغنية العربيّة... حنين للحنٍ حرّ

القدس في الأغنية العربيّة... حنين للحنٍ حرّ

«إيليا للأفلام القصيرة»... وُلد في القدس ويحلم بالعالميّة | حوار

«إيليا للأفلام القصيرة»... وُلد في القدس ويحلم بالعالميّة | حوار

تقسيم الأقصى... توفيق بين الخلافات اليهوديّة على القدسيّة

تقسيم الأقصى... توفيق بين الخلافات اليهوديّة على القدسيّة

القدس في أدب الطفل... أيّ مستوًى مطلوب؟

القدس في أدب الطفل... أيّ مستوًى مطلوب؟

رند طه... أن تكوني راقصةً من القدس وفيها | حوار

رند طه... أن تكوني راقصةً من القدس وفيها | حوار

مناهج «المعارف»... هل يستطيع المقدسيّون مقاومة الأسرلة وحدهم؟

مناهج «المعارف»... هل يستطيع المقدسيّون مقاومة الأسرلة وحدهم؟

القدس في الأرشيفات الفرنسيّة

القدس في الأرشيفات الفرنسيّة

"باب الأسباط": قراءة سوسيولوجيّة للهبّة وانتصارها

سياحتان في القدس... محوًا وتحرّرًا

سياحتان في القدس... محوًا وتحرّرًا

يصنعون أفراحًا في القدس

يصنعون أفراحًا في القدس

هكذا تسيطر إسرائيل على تعليم المقدسيّين

هكذا تسيطر إسرائيل على تعليم المقدسيّين

أوجاع القدس... من «رامي ليفي» حتّى الإمارات والبحرين

أوجاع القدس... من «رامي ليفي» حتّى الإمارات والبحرين