أنا أخاف المقاومة (1/2)

CANVAS PRINTS

 

درجة الحرارة تناهز الأربعين درجة مئويّة، وفي هذه الأجواء الشديدة الحرارة لا تعود لفافة التبغ مغرية، لكن هذا لا يمنع مَنْ في المكتب حولي من إشعال واحدة تلو الأخرى، أُدخل يدي في جيبي لأُخرج علبة لفافات التبغ فأجدها قد انطوت قليلًا، أخرج لفافة تبغ وأبدأ بتوضيبها ورصّها جيّدًا وأشعلها، وأنظر إلى مَنْ حولي في المكتب وأقول بنبرة ضاحكة "يِفْضَح عرضكم كالبين المكتب غرزة”، وهكذا يصبح الإسفاف في هذه العادة السيّئة أمرًا مضحكًا؛ نحن ثلاثة نعمل في مكتب واحد بنظام الخليّة، في غرفة شديدة الصغر، ومروحة واحدة تتحرّك ببطء تدفع بالهواء الساخن الممتلئ بالدخان نحو وجوهنا، لكنّي في الحقيقة سعيد في هذا العمل الّذي أحظى به. أنا مراد من قرية بيت فريك قضاء نابلس في الضفّة الغربيّة، انتقلت إلى المدينة عند تأسيس موقع إخباريّ، نحن نترصّد أيّ أخبار فضائح كي ننشرها، نحن لا ننشر الإشاعات، نحن فقط نضع عنوانًا جاذبًا لخبر عاديّ ليبدو أشبه بفضيحة. تأسّس الموقع على يدي أنا واثنين من الأصدقاء هما مَنْ يشاركانني المكتب، نتقاسم الدخل وندفع إيجار المكتب والفواتير والاحتياجات، ويبقى لنا مبلغ من الربح الجيّد، الحياة في الضفّة الغربيّة أحسن ممّا تبدو في الشاشات الرقميّة، ثمّة فرص عديدة لكن تحتاج إلى عقل ذكيّ يعرف أن يستغلّها.

 

استقرار أم استنفار؟

في الرابع والعشرين من آب لعام 2016، وكان اليوم الّذي يسبق يوم الخميس، كنّا قد تسلّمنا أرباحنا من الإعلانات على موقعنا، وكنت أقترح أن نقتطع جزءًا من أرباحنا لنجلب جهاز تكييف للمكتب؛ فدرجة الحرارة قاتلة. اعترض أنس، وهو شريكي في المكتب وصديقي منذ عشر سنين، قال بنبرة اندهاش "مكيّف مين يا زلمة، شو هاظ التبذير، اتّفقنا ع أوّل أرباح نسافر ع تركيّا، بدنا نشوف بنات يا زلمة"، أمّا ثالثنا في المكتب، وهو سليم، فكان رأيه مخالفًا لرأيي ولرأي أنس، يرى أنّ علينا أن ندّخر نقودنا لنجمع مبلغًا كافيًا من المال ونهاجر من هذه البلاد. اقترب سليم من أنس ومدّ يده على علبة سجائره، وأخرج لفافة تبغ وأشعلها، وقال بنبرة يأس وهو ينفث الدخان وهو يتكلّم "إمتى بدنا نهاجر لأوروبّا ونعيش متل الناس يا الله"، فردّه أنس صائحًا "إمتى بدّه سليم يشتريله بكيت دخّان يا الله". أنا أراقب المشهد من بعيد وأبتسم، أُسند رأسي على حافّة ظهر الكرسيّ وأنظر إلى السقف، تاركًا أصوات نقاشاتهم تضمحلّ، وأنا أدخل في حالة من الهذيان بنظرة في تسارع أحداث حياتي.

لم يسألاني شيئًا؛ فهما يعرفان هذه الحالة الّتي تحدث لي عند سماع خبر أيّ شهيد، من دون أن أعرف ملابسات العمليّة أو طريقة الاستشهاد، لكن هذه الحالة من التوتّر، الّتي قد تصل إلى انهيار عصبيّ أحيانًا...

في البارحة كنت في المعهد أنا وأنس، وكانت أحلامنا مجرّد أفكار تبدو صعبة المنال، اليوم قد بدأنا نحقّق جزءًا منها. تزيد الابتسامة على وجهي رويدًا رويدًا، حتّى يقاطع هذياني بنداء سليم علينا وهو ينظر إلى شاشة الكمبيوتر ويبدو شاحبًا، سألناه عمّا حدث فقال لنا وصوته لا يريد مغادرة فمه "في واحد من قباطية استشهد بعمليّة، في نابلس"، ويكمل لنا نقل الخبر ومعلومات عن الشهيد «أبو غراب»، في هذه اللحظة قلبي قد انقبض وبدأت أتوتّر، تنفّسي زاد بوتيرة سريعة، أشعلت لفافة تبغ وخرجت من المكتب، لم أستطع احتمال ما حدث، عدت إلى المكتب، صحت معترضًا على فعلته "ليش هيك عمل بحاله، شو ترك لأهله...". جلبت حاجاتي من المكتب، وأخبرت أنسًا وسليمًا بأنّني مرهق وأريد النوم، وعدت إلى المنزل، لم يسألاني شيئًا؛ فهما يعرفان هذه الحالة الّتي تحدث لي عند سماع خبر أيّ شهيد، من دون أن أعرف ملابسات العمليّة أو طريقة الاستشهاد، لكن هذه الحالة من التوتّر، الّتي قد تصل إلى انهيار عصبيّ أحيانًا، تصيبني منذ بداية انتفاضة القدس باستمرار.

أفتح عينيّ من النوم على صوت الجرس يرنّ والباب يدقّ، أنظر من النافذة فأجد أنّ الظلام قد حلّ، أصيح لمَنْ عند الباب بأنّي قادم، أرتدي أقرب بنطال إليّ وأذهب لفتح الباب، أنظر من فتحة العين الّتي في الباب فأجد أنّها ريما، وهي فتاة رائعة قد صادقتها منذ بضعة أشهر، وعلاقتنا قد تطوّرت سريعًا، أفتح الباب وأعتذر عن التأخّر فقد كنت نائمًا، فتدخل ريما وتعاتبني على إغلاق هاتفي، كانت تحاول الاتّصال بي منذ بضع ساعات بلا فائدة، أخبرتها بأنّني كنت متعبًا منذ خبر الشهيد «أبو غراب»، وكنت بحاجة إلى النوم. ريما أيضًا تعلم تلك الحالة العصبيّة الّتي تصيبني منذ بداية عمليّات انتفاضة القدس، تحديدًا تلك العمليّات الّتي ينفّذها أطفال ومراهقون. تقول ريما إنّها كانت تعلم أنّني سأكون بحالة سيّئة؛ لهذا جلبتْ زجاجة من النبيذ الأحمر وأتت توقظني، ثمّ تردف بنبرة تحمل ضحكة تخجل أن تخرج "بس لا ترفع آمالك سيّد مراد لأنّه الواين من النوعيّة الرخيصة"، أخبرها بأنّه سيؤدّي الغرض، وأشكرها على قدومها، وأذهب إلى المطبخ لأحضر كأسين ومنفضة السجائر، أُخرج مفتاح زجاجات النبيذ من الجارور الّذي كان نصف مفتوح، وأبدأ بفتح الزجاجة، وأسأل ريما عن أحوالها في الوظيفة الجديدة، فتجيبني أنّها سعيدة في شركة الاتّصالات، وأنّ بيئة العمل جيّدة، وتضيف أنّها كان يجب أن تترك العمل نادلةً منذ زمن.

نبدأ بشرب النبيذ وإشعال لفافات التبغ، ريما تقصّ لي ما حدث لها عند حاجز التفتيش وهي قادمة إليّ، وتنهي كلامها بأنّ الاحتلال يعمل ليل نهار ليذلّنا. أنا هنا أمتعض وأقلب كأس النبيذ، وأقول لريما "خلص بلاش نكد وقرف، سيبينا من هاد الموضوع"، فترشف ريما القليل من النبيذ، وتتساءل بكلّ هدوء لماذا عند ذكرها لحواجز التفتيش أمتعض، وأنّها في كلّ مرّة تقرّر تجنّب السؤال "كل مرّة بحكي بلاش أنكّد عليك، بس هالمرّة بدّي أعرف شو السبب"... أسكب المزيد من النبيذ في كأسي، وأسأل ريما إن كانت ترغب في المزيد، تشير برأسها بالرفض، وتقول إنّ كأسها لمّا تنته بعد، وتنهض عن مقعدها وتفتح النافذة، وتقول لي إنّه من الخطأ أن ندخّن والنافذة مغلقة، ثمّ تعيد سؤالي عن سبب امتعاضي الدائم عند ذكر حواجز التفتيش، وكي لا تترك مجالًا لتجنّب الإجابة تضيف "وين بدّك علاقتنا تروح وإنت مش قادر تحكيلي سبب انفعالك ع إشي بنشوفه كلّ يوم بحياتنا".

ريما تعلم أنّني أريد لعلاقتنا أن تتطوّر، قد أظهرت لها ذلك مرارًا، وها هي الآن تستعمل رغبتي في ذلك للإفصاح عن موضوع لا أتحدّث فيه إطلاقًا. أنظر في عينيها السوداوين، وشفتاي تنطقان "لَوَتيلي ذراعي يا ريما، رح أخرّفك قصّة أنا دافنها من أكتر من عشر سنين"...

ريما تعلم أنّني أريد لعلاقتنا أن تتطوّر، قد أظهرت لها ذلك مرارًا، وها هي الآن تستعمل رغبتي في ذلك للإفصاح عن موضوع لا أتحدّث فيه إطلاقًا. أنظر في عينيها السوداوين، وشفتاي تنطقان "لَوَتيلي ذراعي يا ريما، رح أخرّفك قصّة أنا دافنها من أكتر من عشر سنين"، فيمتلئ وجهها بابتسامة عريضة. حدقتا عينيها تتوسّعان، وتعدّل جلستها ووجهها يبدو في غاية السعادة، لا لرغبتها الشديدة في معرفة قصّتي فقط، بل لأنّني أثبت لها أنّني سآخذ علاقتنا إلى مستوًى أعلى؛ فأنا أشاركها في قصّة لا أشاركها إطلاقًا، وفي وسط فرحتها تُضيف "يلّا مراد، خرّفني خرّفني"، وكلانا ينقلب ضاحكًا، فريما بنت المدينة لا تستعمل أيًّا من المصطلحات الفلّاحيّة، بل اعتاد أهل المدينة أن يسخروا من لهجة القرى، وها هي تتحدّث تلك اللهجة. تنهي ريما كأسها وتؤكّد أنّه لا بدّ من كأس أخرى؛ فالليلة قد بدأت تحتدم، أقول في نفسي إنّها محقّة، وأنهي كأسي على عجال، وأخبرها أن تسكب لي كأسًا أخرى.

 

برد شباط وحاجز التفتيش

أشعل لفافة تبغ أخرى، وأبدأ بقصّ حكايتي الّتي تعود بي إلى شباط من عام 2002، وفي خضمّ الانتفاضة الثانية، كنّا في بداية العام والشتاء قارص للغاية، كنت في ذلك الوقت لا أزال طفلًا بسيطًا، أعتمد على أمّي وأبي في كلّ شيء. الساعة تجاوزت الثالثة بعد منتصف الليل حين بدأ جرس الهاتف الأرضيّ بالرنين، فأيقظ مَنْ في المنزل. تسرع أمّي لرفع السمّاعة، أنا وأخي في غرفتنا من بعيد نسمع أمّي تتكلّم على الهاتف، قليلًا صوتها يبدو أنّه يوشك أن يبكي، تنتهي المكالمة، يسأل أبي ما الخطب، تبدأ أمّي بالتمتمة بكلمة "أبوي..."، فيكرّر أبي السؤال فتنفجر أمّي بالبكاء وهي تصيح "أبوي تعبان بالمشفى ورح يموت...".

أنهض من الفراش إلى طرف الباب، أسترق النظر وأخي الصغير يلحقني، أمّي تخرّ على الأرض عند قدمَي أبي، وتقول له "بدّي أشوف أبوي قبل ما يموت..."، أبي يتمنّى أن يوافق لكنّه يعلم أنّ حاجز التفتيش الموجود بين قريتنا والمدينة حيث يعيش جدّي، من المستحيل أن يسمح لنا بالمرور لترى أمّي أباها. أمّي تجهش بالبكاء عند قدمَي أبي، أبي لا يعلم ماذا يفعل، أخرج أنا وأخي من الغرفة فيرانا أبي صامتَين وفي أعيننا خوف، فيخرّ على الأرض سريعًا، ويحضن أمّي ويخبرها بأنّنا سنغادر إلى المدينة عند شروق الشمس الأوّل، فتنهض أمّي سريعًا، وتقبّل رأس أبي وهي تقول بصوتٍ يقطعه شهيق البكاء "الله يخلّيلنا إيّاك يا أبو مراد"، فيخبرها أبي بأنّهما سيأخذان الطفلين أيضًا، فمراد من المفترض أنّ لديه مراجعة في المشفى؛ كي يعاين الطبيب ذراعه الّتي كانت قد كسرت، فتقول أمّي "لكنّ يده أصبحت بخير، وليست في حاجة إلى طبيب"، فيردّ أبي بأنّه نحتاج إلى ألف عذر، كي نستطيع المرور من حاجز التفتيش الّذي يفصلنا عن المدينة، ويضيف أن تضع على ذراع مراد الضمادة الّتي كانت على ذراعه الأسبوع السابق، فيجب أن نقنعهم بأنّ ذراعه تحتاج إلى معاينة، ويخبرها بأن تجهّز الصغير سعيد، فلديه جدول تطعيمات لا نلتزم به عادة، لكنّنا سنستعمل ذلك أيضًا حجّة للذهاب إلى مستشفى مدينة نابلس، فتنهض أمّي سريعًا وتبدأ بإلباسنا ملابس ثقيلة؛ فالطقس في هذا الوقت لا يحتمله شيء، سوى جنود الاحتلال الّذين يتحمّلون كلّ شيء في سبيل التنكيل بحياتنا. وتذهب إلى المطبخ لإعداد لقمة إفطار قبل المغادرة، أمّا أبي فيدخّن لفافة التبغ العربيّ ويشرب القهوة التركيّة الداكنة بلا سكّر، ويناظر شروق الشمس ويبدو على وجهه شديد القلق، ويجهّز كلّ الأوراق الّتي نحتاج إليها، ويضعها في ملفّ ذي لون بنّيّ فاتح.

أبي يتناول قطعة من الجبنة البيضاء ويضعها في قطعة من الخبز الخميل، ويقول "يلّا، هَيْ أنا بلّشت أكل". بعد تلك اللقمة نبدأ بتناول الطعام بخجل وببطء، وكأنّنا لم نجتمع على سفرة طعام من قبل، أبي يسكب كوب شاي بلا سكّر وينهض، ثمّ يؤكّد كلام أمّي بأنّ علينا أن نأكل جيّدًا...

أمّي تُعِدّ طعام الفطور وتضعه على الأرض وتنادينا جميعًا. نجتمع حول صحون الطعام، الجميع صامت في خوف، تبادلت النظر في أعين الجميع، وكان الجميع ينتظر أن يُقاطَع هذا الصمت المؤلم، تقطع ذاك الصمت أمّي وهي تخبرنا بأن نأكل جيّدًا فطريقنا طويل. أبي يتناول قطعة من الجبنة البيضاء ويضعها في قطعة من الخبز الخميل، ويقول "يلّا، هَيْ أنا بلّشت أكل". بعد تلك اللقمة نبدأ بتناول الطعام بخجل وببطء، وكأنّنا لم نجتمع على سفرة طعام من قبل، أبي يسكب كوب شاي بلا سكّر وينهض، ثمّ يؤكّد كلام أمّي بأنّ علينا أن نأكل جيّدًا، ويخبر أمّي بأنّه سيتمشّى في الخارج ريثما ننهي تناول الطعام.

تقاطع ريما حديثي وتسأل عن سنّي في ذلك الوقت، أجيبها بأنّي كنت في الثانية عشرة من عمري، وأغتنم التوقّف عن سرد القصّة كي أسكب كأس نبيذٍ أخرى، وأضع لفافة تبغ في فمي كي أشعلها، أمّا ريما فتسبقني بالإجابة قبل أن أسألها، وتقول إنّها لمّا تُنْهِ كأسها بعد، ومن ثَمّ تنهض وتجلس بجانبي ناظرةً في عينيّ، إذ أصبح وجهي شاحبًا أكثر وأكثر. وتسحب لفافة التبغ من فمي وتقول "هلّأ طفيت السيجارة، إحكيلي بعدين شو صار"، وتمسك يدي كي تسقي في قلبي بذرة الطمأنينة الّتي زرعتها من قبل، أُرْجِع ظهري إلى الخلف وأنا أتابع النظر في عينَي ريما لأكمل سرد القصّة.

يتبع...

 

 

أحمد الدبّة

 

 

يقيم في عمّان، الأردنّ. خرّيج جامعة القاهرة. يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة في عدد من المنابر العربيّة.