الطنطوريّة... ذاكرة الساحل الّتي قُتِلَتْ ولم تمت

غلاف رواية رضوى عاشور

 

إن كان الموت بالنسبة إلى البشريّ عالمًا مجهولًا، فإنّ الذاكرة لدى الفلسطينيّ حياة طازجة ومحسوسة. بهذا المعنى راح السارد الفلسطينيّ يدوّن ذاكرته، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا طيلة قرن من الزمن، لكنّ الأجمل أن تقوم عروبيّة مصريّة بقامة رضوى عاشور بفعل التسبيح بأسفار الذاكرة الفلسطينيّة.

والربط الدلاليّ بين فكرة الأسفار وسرديّة عاشور «الطنطوريّة» (دار الشروق، 2010)، يتّكئ بالأساس على هامش وعْينا بالنصّ وبنيته الفكريّة المُضْمَرَة خلف السرد، الّذي يراه البعض محاكاة ملتصقة بالتغريبة الفلسطينيّة، وأجده انتصارًا لسيرة جمعت وجع الآباء بمحنة الأبناء وحلم الأحفاد؛ وكأنّ الكاتبة تذكّرنا: أنّ أوّل ضحايا الآخر النقيض هو السيّد المسيح عليه السلام.

 

دلالة البحر

من هنا، نلحظ أنّ رضوى عاشور لم تبدأ سيرة بطلتها الرئيسيّة «رقيّة» من تاريخ مولدها، وإنّما من مشهد متحرّك بلغة السينما، يظهر فيه طيف الحبيب «يحيى» قادمًا من البحر، ذاك الّذي تأخذ دلالته الرمزيّة بعدًا مرتبطًا بالمرادفات الضدّيّة، "فالبحر يدلّ على الموت، ولكنّه أيضًا يدلّ على الميلاد والحياة"، وفق تفسير الناقد جمعة عبد الله.

وحينما يذهب السارد نحو توظيف الدوالّ التعبيريّة كما دلالة البحر، في تناول مسألة وطنيّة، فهو يعمل بشكل صريح على رسم ملامح فضاء نصّيّ يعبّر عن الطاقة الهائلة، والمتقلّبة، والحيويّة، والمتجدّدة، والمتفجّرة، الّتي يعنيها البحر...

وحينما يذهب السارد نحو توظيف الدوالّ التعبيريّة كما دلالة البحر، في تناول مسألة وطنيّة، فهو يعمل بشكل صريح على رسم ملامح فضاء نصّيّ يعبّر عن الطاقة الهائلة، والمتقلّبة، والحيويّة، والمتجدّدة، والمتفجّرة، الّتي يعنيها البحر بأمواجه العاتية، لمحاكاة حلم جميل في حياة صاخبة، هي حياة الفلسطينيّ في هذه المرويّة، الّتي راحت تستدعي كلّ مهارات الإرسال لاستثارة كوامن التلقّي.

بمهارات الإرسال هذه "وما دام المعنى غائبًا والمنطق لا وجود له" (ص 79)، ساءلت عاشور الضمير العربيّ الغائب عن الفعل، فكان السؤال على لسان بطلة روايتها «رقيّة»: "هل بمقدور فرد مهما بلغ من قوّة ونشاط، أن يحفر بيديه المفردتين منجمًا؟ (...) منجمًا عجيبًا غريبًا يتعيّن عليك النزول إليه مفردًا؛ لأنّه لا يخصّ سواك وإن وجدت فيه ما يخصّهم، ثمّ إنّه قد يسقط فجأة على رأسك يُكَسِّرُه، أو يطمرك كاملًا بركامه" (ص 84).

 

لعبة الضمائر

لعلّ لعبة الضمائر الّتي مارستها الكاتبة بين أنا الذات وأنا السارد، أتاحت للروائيّة أن تتناول شرح القضيّة في بُعْدَيْها الاجتماعيّ والثقافيّ، بما لا تستطيع القيام به المراجع التاريخيّة، فتارة نسمع صوت «رقيّة» وهي تتحدّث بصيغة ضمير المتكلّم لحظة وقوع الحدث - الترحيل في الحالة الفلسطينيّة - وتارة نلحظ ظهور أنا السارد في مونولوج داخليّ، وهي تشرح ما شعرت به في لحظة أخرى، فنجدها تقول على سبيل المثال لا الحصر: "كنتُ معهم في القطار ولم أكن، لأنّني منذ ذلك اليوم الّذي أركبونا فيه الشاحنة، ورأيت أبي وأخَوَيّ على الكوم، بقيتُ هناك لا أتحرّك حتّى وإن بدا غير ذلك" (ص 78).

وفي موضع آخر نسمعها تقول: "حين أنصت لا أكون خارج القطار، لا أقفز داخله، لأنّ القطار الّذي لخّصتُ به وضعنا يختفي، والأرض تتكوّر كحضن، مفارَقة لا أفهمها وتُربكني" (ص 152). ولنلحظ أنّ المشترك بين الفقرتين هو القطار ورمزيّته.

ويمكن القارئ، المتمعّن في سرديّة عاشور، أن يلحظ توظيف الكاتبة لفكرة الشهادات والرسائل والحوارات الفرديّة والجماعيّة، لتخليق مساحة نصّيّة لتعدّد أصوات الرواة؛ فهذا صوت «عبد الابن» وهو يُدْلي بشهادته للسيّدة بيان نويهض الحوت، زوجة شفيق الحوت مدير مكتب المنظّمة في لبنان، عشيّة «مجزرة صبرا وشاتيلا»، "المخيّم يجب أن يبقى مخيّمًا مؤقّتًا، تأكيدًا على أنّنا لاجئون، حفاظًا على حقّنا في العودة. شكرًا، الله ‘يكتّر‘ خيرهم!" (ص 239).

لعلّ لعبة الضمائر الّتي مارستها الكاتبة بين أنا الذات وأنا السارد، أتاحت للروائيّة أن تتناول شرح القضيّة في بُعْدَيْها الاجتماعيّ والثقافيّ، بما لا تستطيع القيام به المراجع التاريخيّة...

وهذا صوته أيضًا، أعني «عبد الابن» في موضع آخر، وهو يكتب تقريرًا لشقيقيه، "إن كان أبي قُتِلَ فكيف وأين ومتى؟ هل عذّبوه؟ (...) هل حملته واحدة من الجرّافات الثلاث الّتي شوهدت يوم السبت تغادر صبرا مكدّسة بالضحايا؟ أم ألقوا به في البحر، كما فعلوا بآخرين، بالقرب من الناعمة والدامور، بعد أن وضعوهم في أكياس ثقّلوها بالحجارة؟" (ص 252).

ولنلحظ هنا أيضًا أنّ المشترك في الفقرتين هو المخيّم، في شكل آخر لتوظيف الرموز، وكذا يمكننا الانتباه لصوت الروائيّة وهي تمارس فعل النقد السياسيّ على لسان أحد شخوصها، عدا فكرة توظيف تعدّد الأصوات لتغطية أكبر مساحة ممكنة من السرد التاريخيّ.

ولأنّ رضوى عاشور ليست في حاجة إلى ملاحقة الذاكرة الفلسطينيّة بالمألوف السرديّ، عملت بذات النهج لتُسْمِعَنا أصوات «أبو الأمين» و«وصال» و«أمّ عليّ» وغيرهم، معبّرة عن منطق معالجة رتابة السرد طيلة الوقت بصوت الراوي العليم، أو البطل المركزيّ، متنازلة عن ذلك الشرط الوصفيّ التلقينيّ لصالح شرط أكثر تعقيدًا، وعمقًا، وذكاءً، وقربًا من المتلقّي، هو شرط تعدّد أصوات الرواة في أسلوب دراميّ، يحمل خطابًا مواربًا وموجّهًا في آن، لا شاردًا أو هاربًا، فنجدها تقول: "ما المنطق في أن أركض وراء الذاكرة، وهي شاردة تسعى إلى الهروب من نفسها، شعثاء، معفّرة، مروّعة مسكونة بهول ما رأت؟" (ص 188).

 

رموز

إذا ما اعتبرنا أنّ بعض المدارس السرديّة، يعمد فيها السارد إلى مشاركة المتلقّي في تشكيل أحداث الرواية موضوع القصّ، تأديةً للوظيفة التواصليّة الّتي يقوم عليها فعل السرد، فإنّ الرمز يُعَدّ من الأدوات المهمّة، لجلب القارئ لممارسة فعل الكتابة بلغته الخاصّة؛ إذ تصبح الصورة الذهنيّة، هي الصورة المكمّلة وربّما المؤوّلة لمشهد الحدث، وهو ما ذهبت إليه رضوى عاشور في توظيفها للرموز بشكل مستفيض في سرديّتها؛ فكان للقطار ومحطّاته مدلول خاصّ في تناول التاريخ الفلسطينيّ، وكأنّ السارد في هذه الحالة، يؤدّي دور المؤرّخ المستتر، بأسلوب يخالف الأساليب المدرسيّة والأكاديميّة، الّتي لا تهتمّ إلّا بالحدث، بوصفه تاريخًا مجرّدًا من هوامش الحسّ الإنسانيّ، وكذا المخيّم وفكرة الإقامة المؤقّتة في مقابل العودة، مرورًا بالتواريخ وأبعادها السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ووصولًا إلى الشجرة وما تعنيه للفلسطينيّ الإنسان وارتباطه بأرضه، وهو ما يمكننا ملاحظته في عناوين بعض فصول الرواية، ومنها الفصل السادس «السبت 15-5»، والسابع عشر «شجر شاتيلا»، والتاسع عشر «المكان 1975»، والثاني والعشرون «1982»، والثاني والثلاثون «المركز (1)»، والثاني والأربعون «ابن الشجرة»، والثالث والأربعون «زمن آخر»، والتاسع والأربعون «بيروت (3)».

فإنّ الرمز يُعَدّ من الأدوات المهمّة، لجلب القارئ لممارسة فعل الكتابة بلغته الخاصّة؛ إذ تصبح الصورة الذهنيّة، هي الصورة المكمّلة وربّما المؤوّلة لمشهد الحدث، وهو ما ذهبت إليه رضوى عاشور في توظيفها للرموز بشكل مستفيض في سرديّتها...

وتتجلّى أبهى صور توظيف الرموز في وصف الروائيّة للمرأة بالشجرة، وقد ارتبطت صورة الشجرة - بما تمثّله من حالة تشبّث وبقاء - بالسرد الفلسطينيّ، ارتباطًا وثيقًا من حيث المدلول الثقافيّ الاجتماعيّ على وجه الدقّة، فنجدها تقول: "كلّ امرأة شجرة، أقصد كلّ امرأة ولها شجرة" (ص 149)، وفي موضع آخر، نراها تخصّ رسّام الكاريكاتور الفلسطينيّ الراحل ناجي العلي بالحديث عنه، في فصل كامل جاء بعنوان «ابن الشجرة»، وتقصد أنّه من مواليد قرية الشجرة بالجليل الأعلى، ولكن لاستخدامها مصطلح «ابن الشجرة» مدلوله الّذي يؤكّد قصديّتها في توظيف الرمز.

 

توريط القارئ والاحتيال عليه

وفي حالة مدّ وجزر للوظيفة التواصليّة، نسمع صوت الكاتبة على لسان بطلتها «رقيّة»، وكأنّها تقيم حوارًا مع القارئ فتسأله في غير مرّة، مستخدمةً كلّ أدوات الاستفهام، ماذا أفعل؟ وكيف؟ ولماذا؟ وأين؟ إلى آخره، "كيف احتملنا وعشنا، وانزلقت شربةُ الماء من الحلق دون أن نشرَق بها ونختنق؟ وما جدوى استحضار ما تحمّلناه وإعادته بالكلام؟ عند موت مَنْ نحبّ نكفّنه، نلفُه برحمة، ونحفر في الأرض عميقًا" (ص 188).

وكي تحفر الروائيّة في أرض سرديّتها عميقًا، ذهبت إلى أقصى ما يمكن من استخدام الوظائف السرديّة، فشاركت معها القارئ همّ مسؤوليّة السرد وصياغاته الّتي يجب أن يكون عليها، فنجدها تارة تُعَنْوِن الفصل السابع بعنوان «القفز... هل يصنع حكيًا؟»، شارحةً تفاصيل فكرتها بالقول: "أأحكي حياتي حقًّا أم أقفز عنها؟ وهل يمكن أن يحكي شخص ما حياته فيتمكّن من استحضار كلّ تفاصيلها؟" (ص 84)، وتارة نراها تورّط المتلقّي في ضرورة مساهمته لتنظيم السرد وشرح تفاصيل الأحداث، وكأنّها تجيب عن سؤال التقاء أزمنة القصّ، ومن ثَمّ عودته إلى الخلف، أو سيره إلى الأمام؛ فنسمعها تقول على لسان بطلتها: "قفزتُ قفزة تختزل من الحكاية خمس سنين. أعود عن قفزتي وأسترجع الشريط. ما زلنا في نهاية العام 1977" (ص 191).

نراها تورّط المتلقّي في ضرورة مساهمته لتنظيم السرد وشرح تفاصيل الأحداث، وكأنّها تجيب عن سؤال التقاء أزمنة القصّ، ومن ثَمّ عودته إلى الخلف، أو سيره إلى الأمام...

ولأنّ "الزمن وسيط الرواية مثلما هو وسيط الحياة"، حسب وصف عالم الأدب هانز ميرهوف؛ تُمْعِن رضوى عاشور في هدم الأشكال النمطيّة في سرد الحكايات المرتبطة بالتاريخ، عبر الاحتيال على القارئ، بتقنيّة التقطيع السينمائيّ وتفاعلاته المحرّكة لصيرورة السرد، لبناء فضاء زمنيّ متحرّك بين الماضي البعيد والقريب من جهة، والراهن المعاصر من جهة أخرى، مُذكّرةً إيّاه - أي القارئ - على لسان الراوي العليم بين الحين والآخر، أنّ بطلتها تروي القصّة نيابة عن شعبها، بوصفها واحدة من بسطاء هذا الشعب المتضرّر في زمن القصّ وبعده، "تمضي الحكاية، ولا تمضي تمامًا؛ لأنّها، وهي تتقدّم إلى الزمن التالي، تظلّ ترجع وتسترجع، تتشابه الحكايات، وأيضًا تختلف كالوجه وهو يحكي" (ص 148).

 

انتصار للمرأة الفلسطينيّة

وبما أنّ الرواية يمكنها أن تشكّل «بديلًا معرفيًّا»، على حدّ تعبير الباحثة رزان إبراهيم، الّتي تضيف نقلًا عن الناقد حميد لحميداني: "قد يوهَم القارئ بطابع حواريّ، حين يترك الكاتب خلال فترة معيّنة من الرواية حرّيّة نسبيّة للأبطال، لكي يعبّروا عن آرائهم الخاصّة"؛ ذهبت رضوى عاشور في سرديّتها في اتّجاه استعراض أدقّ التفاصيل الصغيرة والكبيرة للناس قبل التهجير وبعده، وحكايتهم مع التاريخ والجغرافيا، فنجدها وقد جلبت لسرديّتها، شخصيّات ثانويّة تؤدّي دور بطولة من نوع خاصّ وعميق، كشخصيّتَي «أمّ عليّ» و«وصال» وغيرهما، لا لتقول: هذه هي المرأة الفلسطينيّة القرويّة على بساطتها، لكن لتعطينا درسًا آخر في الوفاء والإخلاص والمحبّة والتحدّي، درسًا لم توفّره «أمّ عليّ» في تحدّيها لمشاعر الخوف الإنسانيّ، وهي تقوم بفعل الخَبْز تحت القصف، لتوزّع الفطائر المرشوشة بالسكّر على الأطفال في الملجأ في بيروت لحظة الاجتياح.

أخيرًا، ولأنّ "لا أحد يستعصي على ترويض الزمان" (ص 17)، أرادت رضوى عاشور بالإضافة إلى انتصارها للذاكرة الفلسطينيّة، بوصفها ذاكرة قضيّة إنسانيّة أخلاقيّة، أرادت أن تحقّق انتصارًا موازيًا، ولكن هذه المرّة للمرأة الفلسطينيّة، الّتي شكّلت ولا تزال في عديد المراحل التاريخيّة، شريكًا أصيلًا في النضال الوطنيّ، بداية من مساندة الرجل، الأخ، الزوج، الابن، الأب، الحبيب، الزميل، مرورًا بما قدّمته على الصعيدين الفكريّ والاجتماعيّ داخل البلاد وخارجها، وصولًا إلى مساهمتها الفعليّة في النضال المسلّح، فأسندت دور البطولة في سرديّتها إلى امرأة من الريف الفلسطينيّ، هذا بخلاف ما ظهر من عديد الأصوات النسائيّة في العمل، غير أنّ الكاتبة نفسها وباعتبارها باتت بزواجها من الشاعر الفلسطينيّ مريد البرغوثي، الّذي أهدته هذا العمل، واحدة من الأسرة الفلسطينيّة فعلًا وقولًا، فجاءت الطنطوريّة، الساحل، رائحة البحر والإنسان، لتعبّر عن رضوى الإنسانة الحرّة قبل أن تكون الزوجة الوفيّة، وكأنّها بنت الأرض الّتي قُتِلَت ولم تَمُت.

 

 

تُنْشَر هذه المادّة ضمن ملفّ «الساحل الفلسطينيّ»، بالتعاون بين جمعيّة الثقافة العربيّة وفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة ورمّان الثقافيّة، في إطار «مهرجان المدينة للثقافة والفنون» 2020.

 

 

 

أحمد زكارنة

 

 

شاعر وإعلاميّ يقيم في رام الله. يعمل في إذاعة "صوت فلسطين"، ويرأس تحرير موقع "اليوم الثامن"، كما عمل سابقًا مستشار تحرير في "صحيفة الحدث". له مجموعة شعريّة بعنوان "ما لم أكنه" (2017).