رواية «رام الله»... للمدينة سِيَرٌ كثيرة

مدينة رام الله هذه الأيّام | مقتطعة من صورة بانوراميّة لشريف موسى

 

ليست رواية «رام الله» (المتوسّط، 2020) للروائيّ الفلسطينيّ عبّاد يحيى رواية تاريخيّة، وإن امتدّت في سياق تاريخيّ يتجاوز قرنًا من الزمن، واحتوت عناصر تحيل إلى ما هو تاريخيّ. وليست سيرة للمدينة، وإنّما سِيَر متفرّقة على أزمنة وأمكنة عديدة، لكنّ اجتماعها معًا في نصّ أدبيّ متماسك وطويل يبدو اقتراحًا لطريقة في النظر إلى المدينة.

في رواية «رام الله» سير شخصيّة وعائليّة وعاطفيّة، تتحدّى الرائج في فهم رام الله والتأريخ لها والحكم عليها سياسيًّا واجتماعيًّا، باعتبارها مجرّد حيّز تأسّس مع وصول السلطة الفلسطينيّة على أنقاض المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ بعد «أوسلو». كما تتحدّى الصورة الرومانسيّة الغنائيّة عن المدينة، الّتي يحيل تاريخها إلى مجرّد بلدة صغيرة هادئة ووادعة.

يستند هيكل الرواية على عائلة بطرس النجّار، الّتي تشهد منذ بداية القرن العشرين على التغيّرات العديدة في سيرة رام الله. يقارب النصّ المدينة من خلال تتبّع العائلة ومنزلها، والتغيّرات الّتي طرأت عليه. يبدأ العمل في خطّين زمنيّين متوازيين، الأوّل: مع دخول رام الله القرن العشرين، والثاني: مع الدكتور عماد العايش، المحاضر في «دائرة علم الاجتماع» في «جامعة بيرزيت»، الّذي تتحوّل وفاة زوجته ريما عام 2017 وأسئلته المتعلّقة بها وبحياتهما، إلى أسئلة أوسع عن علاقته بكلّ ما حوله.

 

غلاف الرواية

 

يلتقي الخطّان الزمنيّان حين اكتشاف الدكتور عماد علاقة تبدأ مبهمة بعائلة النجّار ومنزلها، من هذه العلاقة المتأثّرة بثقل موت زوجته ينكشف على سِيَر متقاطعة لعائلة النجّار والمدينة، منذ بدايات القرن العشرين، في ظلّ الحكم العثمانيّ ثمّ الحرب الأولى فالانتداب البريطانيّ، وصولًا إلى النكبة فالحكم الأردنيّ والاحتلال الإسرائيليّ، وما تخلّل كلّ هذه المراحل من موجات هجرة من المدينة وإليها، وتحديدًا إلى أمريكا، وصولًا إلى الانتفاضة فـ «أوسلو» والسلطة، حتّى راهن الدكتور عماد العايش، وبُعيد تقاطع الخطّين أو التقائهما يضطرب الخطّ الأوّل على وقت تغيّرات رام الله وزمنها، ما يشي برفض تقديم الزمن كمعطًى ناجز ومتّفق عليه.

 

أزمان المدينة

الزمن في روايات عبّاد يحيى، وهنا لا أشير إلى الزمن الروائيّ فقط، وإنّما إلى الزمن الفلسطينيّ الّذي تعالجه النصوص، زمن المدينة وزمن النخب والناس، يبدو متقطّعًا طويلًا أحيانًا يكاد يكون ساكنًا، وسريعًا في أحيان أخرى، دائم الحركة والتبدّل. وهو بالتأكيد ليس تاريخ أحداث فارقة، كما يُرْوى زمن الفلسطينيّين غالبًا، وإنّما هو تلك الفترات الطويلة والمتباينة بين تلك الأحداث. ولعلّ يحيى يوحي برمزيّة مكثّفة إلى رؤيته عن الزمن، على لسان سالم، إحدى شخصيّات الرواية الرئيسيّة، عندما يقول في لحظة وعي ذاتيّة لمرور الزمن في رام الله وحياته، إنّ الناس يظنّون أنّ الحياة تدور حول أحداثها الأساسيّة: الولادة والزواج والموت، غير أنّها تبدو له المسافات الطويلة المملّة بينها. (ص 653).

أمّا رمزيّة القطيعة والتقاطع في زمن المدينة، فستتجلّى في أوضح صورها في الرواية حين تنسب عائلة النجّار المسيحيّة في مطلع القرن العشرين، سالم مولود ابنتهم نعمة، إلى جدّه بطرس بدل أبيه. حدث يصير مدار حياة نعمة ويغيّر أقدار العائلة، ويعبّر عن نقلة في زمن رام الله، نقلة من حياة الجدّ بطرس، المحافظة الّتي تميل إلى الأرض والفلاحة، والأمْيل إلى السكون، وحياة الحفيد/ الابن سالم، المتحرّرة، المفعمة بالانفتاح على الجديد وتجريبه، والاتّصال بيافا والساحل الفلسطينيّ وما بعده. تتّضح قطيعة جديدة، بين رام الله القرية الهادئة الريفيّة، ورام الله المصيف الّتي ستعرف حفلات موسيقى الجاز، وحفلات التنكّر، وقصص حبّ جامحة.

وليس جعل سالم يقفز عن «جيل» كامل، من الحفيد إلى الابن، إلّا إشارة رمزيّة مكثّفة، مرتبطة بمقولة العمل، إلى الزمن السريع، الّذي يتخلّق من قفزات متكرّرة، تنتهي في خضمّها نخب وتتشكّل نخب أخرى...

وليس جعل سالم يقفز عن «جيل» كامل، من الحفيد إلى الابن، إلّا إشارة رمزيّة مكثّفة، مرتبطة بمقولة العمل، إلى الزمن السريع، الّذي يتخلّق من قفزات متكرّرة، تنتهي في خضمّها نخب وتتشكّل نخب أخرى، عاكسة روح المدينة، الّتي لا يرى يحيى كما يبدو أنّها تتشكّل من مسار خطّيّ طويل، بقدر ما تتشكّل من حقب متفرّقة ودائريّة ومتقاطعة، في تصوّر تاريخيّ يبدو لي جديدًا على الأدب الفلسطينيّ.

كما أنّ الزمن ليس زمن الجميع في نفس الوقت، فرام الله تبدو دائمًا بلدة ريفيّة واعدة، في بال بطرس، الّذي يستمرّ في امتطاء حماره، ويغتنم أيّ فرصة للسير بقدمين حافيتين على تراب الأراضي الزراعيّة المحيطة، بينما يكون أبناؤه أنفسهم، وحفيده/ ابنه تحديدًا، يجول في المدينة، ويكتسب وعيًا جديدًا بها وفيها. وبينهما تأتي محاولة خليل، ابن بطرس النجّار، فهم زمن أبيه، فيكتب في سيرته: "إنّ تراجيديا حياة أبي تتلخّص في أنّه في الشطر الأوّل من حياته سبق زمانه، وفي الشطر الأخير سبقه زمانه" (ص 621).

تسكن العائلة في الطابق العلويّ أو «الدار الفوقا» من المنزل، فوق القسم «القديم» منه، الّذي صارت تسكنه عائلة كمال، القادمة للعمل في أرض بطرس من ريف الخليل. تتقاطع تلك المساحات/ الأزمان في فترات مختلفة، في أوقات الكوارث والحروب؛ إذ تجتمع العائلتان معًا تحت شجرة زيتون أمام البيت، كما يصبح تباينها أوضح، في أوقات أخرى. أمّا لاحقًا، في أوقات صار فيها تشكُّل المدينة أوضح، فيختلف مستقبل أبناء العائلتين ومصائرهم، بينما تسكن أمّ كمال في نفس المنزل مع هيلانة زوجة بطرس؛ ليشكّلا معًا، "الماضي" المشترك للمدينة الجديدة الّتي تتشكّل في حياة الأبناء ووعيهم على ما يبدو.

 

مغامَرَة البنية

تشي العلاقة بين الزمن الروائيّ وزمن المدينة بتقنيّات جديدة، يبدو الروائيّ الفلسطينيّ مهمومًا بها. وهو ليس تجديدًا شكلانيًّا في رأيي، بقدر ما يبدو أمْيل إلى مقاربة جديدة للبنية الروائيّة، حيث يصبح الزمن الروائيّ، أي زمن الشخصيّات، خطوطًا متقاطعة، لا تنتهي كلّها إلى نقطة واحدة، كما هو رائج في الكتابة الروائيّة الكلاسيكيّة، وإنّما تبدو متفرّقة وعشوائيّة، ستجتمع في النهاية في دائرة أوسع، قد نسمّيها المدينة أو الحقبة. أمّا المدينة هنا فليست مكانًا للشخصيّات، أو مسارًا تكتشف حيواتها من خلاله، لكنّما كما يظهر في عمل يحيى، فإنّه لا فرق بين المدينة وبين لحظة اكتشافها، أي لحظة وعي الشخصيّة نفسها، بوجودها في هذا الفضاء الحضاريّ، وشعورها بأنّها تكتسب معنًى ما، من خلال ذلك الوجود. وبالتالي فإنّها رواية عن المشي في المدينة، وعن اكتشافها. يحضر المشي طوال الوقت، منذ جولات بطرس في بدايات القرن العشرين، وجولات مِسْتِر مِلْ، مسؤول بعثة «الفْرِنْدْز»، إلى سالم في الثلاثينات حتّى السبعينات والثمانينات، سنوات عَوْداتِهِ المحمومة من أمريكا إلى رام الله، ليصير «غائب رام الله وحاضرها»، وصولًا إلى الدكتور عماد عام 2017.

عبّاد يحيى اعتمد على بنية سرديّة مغامِرة، من خلال استخدام طبقات لغويّة عديدة، تتوازى مع الحقب الزمنيّة؛ إذ يتّضح للقارئ أنّ اللغة تبدو معجميّة وجافّة في الجزء الأوّل، المتعلّق بالمرحلة الأقدم من تاريخ رام الله، وسرعان ما تتطوّر اللغة مع المدينة...

تقنيًّا، فإنّ عبّاد يحيى اعتمد على بنية سرديّة مغامِرة، من خلال استخدام طبقات لغويّة عديدة، تتوازى مع الحقب الزمنيّة؛ إذ يتّضح للقارئ أنّ اللغة تبدو معجميّة وجافّة في الجزء الأوّل، المتعلّق بالمرحلة الأقدم من تاريخ رام الله، وسرعان ما تتطوّر اللغة مع المدينة، وتصبح أكثر خفّة وراهنيّة مع الوقت. وهذا من وجهة نظري، يتجاوز التجديد التقنيّ، ليصل إلى موقف معرفيّ وربّما جماليّ من المدينة واللغة، والعلاقة بينهما. ويتداخل في بنية مركّبة المكان مع الزمان؛ فالرواية مقسّمة إلى عتبات لا فصول، والعتبات تحيل إلى زمان ومكان. نقرأ في الرواية: "الخلاصة الأكثر أهمّيّة الّتي تبدّت للدكتور عماد أنّ المدينة مسألة زمن، يقطعه مَنْ يتطلّعون إلى مستقبل مغاير عن ماضيهم. ولا يمكن الاحتفاء بماضيهم مهما بالغوا فيه إلّا أن يدلّل على رغبتهم في ما يصيرون إليه وحقّقوا شيئًا منه... تخيّل أنّ خليل النجّار يتحدّث إليه ويقول: "المدينة مسألة زمن صحيح، ومسألة مسافة أيضًا..." (ص 506).

وتتضمّن الرواية درجات متفاوتة من المناورة بين الخيال والتاريخ. يظهر للقارئ واضحًا حجم الجهد الّذي بذله المؤلّف في ملاحقة الحقب المختلفة في رام الله، ومعرفته الشاملة بالأمكنة من بيوت وأحياء وشوارع ومدارس، ومعرفة بالعائلات واللهجات، واللحظات التاريخيّة البارزة، من الكوارث الطبيعيّة إلى الأمراض إلى الحروب والمظاهرات والهجرات، مقترحًا ربّما أنّ مرونة العمل الإبداعيّ لا تحرّره من الالتزام بفهم أعمق للتاريخ، ولروح الحقب الّتي يتحرّك فيها، فيجد القارئ ما يشبه تأريخًا لعمل «طائفة الكْويكِرْز» (الفْرِنْدْزْ) في رام الله، وإنشائهم مؤسّسات تعليميّة تصوّرها الرواية قاطرةً لتحوّل رام الله ونخبها في النصف الأوّل من القرن العشرين، مع تحوّل إلى أدوار الأفراد ومجتمع المهاجرين إلى أمريكا، وفعاليّة النخب في تحوّلات رام الله، وعلاقة أهلها بأنظمة الحكم وتبدّلاته من عثمانيّ إلى انتدابيّ، وصولًا إلى أحداث غيّرت عميقًا في رام الله، مثل النكبة واللجوء والمرحلة الأردنيّة. يمكن استنتاج اقتراح في كلّ حقبة، أو في سرد كلّ «عتبة»، عن الفواعل الأهمّ في رام الله وتطوّرها، في ما يبدو أنّه التزام بجعل التأريخ الروائيّ وفيًّا لروح كلّ حقبة، وموضعها من التاريخ الكلّيّ لرام الله. لكن الأهمّ أنّ هذا الالتزام لم يمنع المؤلّف من الانفتاح على مستويات متعدّدة من الخيال، وهو نوع من الكتابة الّذي يغيب بصورة طاغية في الأدب الفلسطينيّ.

 

تاريخان... وأكثر

يمكن القول إنّ رواية رام الله تنطوي على نقلة نوعيّة في الكتابة التاريخيّة في الأدب الفلسطينيّ؛ ففي حين يمكن الحديث عن توجّهين بارزين في هذا المسار، الأوّل مهموم بالكتابة عن التاريخ الكلّيّ، وعن القصّة الكبرى، والثاني يذهب إلى التاريخ الجزئيّ المحدّد، فإنّ هذا النصّ يتقاطع مع هذين التوجّهين، ولا يتبنّى أيًّا منهما.

تعتمد مقاربة عبّاد يحيى في فهم تاريخ رام الله، على أنّه تاريخ متقطّع، تبرز فيه نخب وتختفي أخرى، تُبْنى «عَتَبات» وتُخْلى بيوت من أهلها، تفشل قصص حبّ وتبدأ غيرها، لكنّه تاريخ متواصل أيضًا من حيث إنّه يقترح تفسيرًا لصورة رام الله كما هي الآن...

تعتمد مقاربة عبّاد يحيى في فهم تاريخ رام الله، على أنّه تاريخ متقطّع، تبرز فيه نخب وتختفي أخرى، تُبْنى «عَتَبات» وتُخْلى بيوت من أهلها، تفشل قصص حبّ وتبدأ غيرها، لكنّه تاريخ متواصل أيضًا من حيث إنّه يقترح تفسيرًا لصورة رام الله كما هي الآن، بعد توقيع «اتّفاقيّة أوسلو» ونشوء السلطة الفلسطينيّة، وصولًا إلى عام 2017، راهن الدكتور عماد بعد وفاة ريما، غير منقطع عن مئة سنة من تاريخها. وبالتالي فإنّه لا يختزل هذه السيرة المعقّدة في الفُهوم الرائجة لها، بوصفها نتيجة «لاتّفاقيّة أوسلو» واختيارها مركزًا للسلطة، ولا بصورتها قرية هادئة وادعة دون عناصر مدينيّة، أو رؤيتها محصّلة لقتل مدن فلسطينيّة أخرى، ولا يرى تطوّرها بفعل عامل سياسيّ يُبْطِل فاعليّة الأفراد والمؤسّسات، بل يقدّم مقاربة روائيّة لهذا التحوّل من قرية صغيرة في ظلّ الحكم العثمانيّ إلى مدينة رئيسيّة في فلسطين اليوم.

في الرواية تاريخان للناس في رام الله: تاريخ أولئك الّذين رحلوا، وتاريخ أولئك الّذين وصلوا. وهي ثنائيّة يبدو أنّ العمل يقرّ بحضورها الدائم في سِيَر المدينة. ولعلّ صورة الغريب/ الغربة/ الاغتراب كجزء بارز من هويّة رام الله، وأهلها الكثيرين، تتجلّى في وصف يحيى لنصب عائلة راشد الحدّادين، على لسان الدكتور عماد، حين يبدو أفراد العائلة الأولى في تاريخ المدينة "كأنّهم وصلوا رام الله للتوّ، لا كأنّهم أهلها" (ص 422)، يقول: "هذا ليـس تمثالًا لعائلـة الحدّاديـن، بـل هو تمثال لمشـهد وصولهـم إلى رام اللـه، لـو أنّهـم كتبـوا ذلـك في اللـوح التعريفـيّ قربـه" (ص 423).

إنّها رواية واصلين آخرين إلى المدينة، إنّهم اللاجئون بعد النكبة، الّذين يمثّلهم النصّ من خلال شخصيّة داوود عطاالله، لاجئ مسيحيّ من اللدّ يصل رام الله، الّتي فتحت «كنائسها»، ومن الكنائس فتحت البيوت، تقاسم الناس بيوتهـم. "هؤلاء إخوتكـم في تجربتهـم الأقسى، لا ينالهـم جـوع ولا عطـش وهـم بيننـا"، قـال الخوارنـة والقساوسـة ووجـوه رام اللـه. حمـت كلّ طائفـة أبناءهـا ونفـرت لإيوائهم، كأنّ تشريدهـم يجـب أن ينتهـي في رام اللـه" (ص 521). ثمّ كيف صار هؤلاء الواصلون أهلًا للمدينة، شاهدين على وصول آخرين في حقب لاحقة.

إنّها أيضًا رواية عن «الواصلين» متأخّرًا إلى رام الله، أو مَنْ سمّوا «عائدين»، لكنّها أيضًا رواية عن أولئك الّذين غادروا رام الله، وعادوا إليها في رحل متقطّعة، أو لم يعودوا قطّ. إنّها أيضًا رواية عن الحنين وعن الاغتراب. يتكثّف ذلك في السرد الّذي يقفل سيرة جميل، المُبْعَد عن رام الله بسبب نشاطه السياسيّ في فترة الحكم الأردنيّ، وهو يتذكّر "رام الله الّتي صاغها المغتربون، مغتربون عنها ومغتربون إليها" (ص 603).

في هذا التقاطع بين السِّيَر الشخصيّة وسِيَر المدينة، يبدو تاريخ رام الله تاريخًا لناس كثيرين، تتشابك تطلّعاتهم ومصائرهم وخيباتهم وتتناقض، قد تلتقي أحيانًا، وقد لا تلتقي أبدًا. في الحركة من رام الله وإليها، بدأت حقب وانتهت أخرى. سُلِبَت منازل، وبُنِيَت غيرها.

في هذا التقاطع بين السِّيَر الشخصيّة وسِيَر المدينة، يبدو تاريخ رام الله تاريخًا لناس كثيرين، تتشابك تطلّعاتهم ومصائرهم وخيباتهم وتتناقض، قد تلتقي أحيانًا، وقد لا تلتقي أبدًا...

للسبب نفسه، تبدو رواية «رام الله» مشغولة طوال الوقت، بفهم كيف يرى الناس أنفسهم في تلك المساحة. أمّا المقولة الأبرز، فإنّ المدينة لا تعني شيئًا واحدًا للشخصيّات جميعها؛ ولذلك، لا بدّ من فهم مركّب أكثر للمدينة، نقرؤه في الأجزاء الأخيرة من مقاطع المصوّر غسّان عيّاد، ومسار المشي الأخير لعماد العايش في الرواية بعد انكشاف تاريخ رام الله له، حين يقتنع أنّه لم يعد قادرًا على فهم الأشياء ببساطتها الظاهرة، وأنّ قدره أن يمشي بين الطبقات.

رواية «رام الله» نصّ فارق في الرواية الفلسطينيّة بعد الانتفاضة الثانية، وفي الكتابة عن رام الله بالمُجْمَل، تنطوي على تجديد واضح في فهم المدينة، وتواريخها، وإن انطوت على ميل تقليديّ أيضًا في الأدب الفلسطينيّ نحو توثيق مُجْمَل الأحداث والتفاصيل، لكنّه ميل استطاع يحيى - بشكل مثير للإعجاب - فرض سياق فنّيّ قادر على استيعابه.

 

 

عزّ الدين التميمي

 

 

 

باحث في مرحلة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا في «معهد جنيف للدراسات الدوليّة والتنمية». عمل محرّرًا وكاتبًا في عدّة صحف ومواقع عربيّة.