أثر مريد البرغوثي في الآخرين

مريد البرغوثي (1944 - 2021)

 

مرّة واحدة التقيت بالشاعر مريد البرغوثي، زار نابلس في نهاية تسعينات القرن العشرين، ليلقي أشعاره على جمهورها، فتحدّثنا قليلًا، وأهديته كتابي الّذي خصّصت أشعاره فيه بدراسة، وعنوانه «أدب المقاومة: من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات» (1998). وكنت قرأت أشعاره حتّى ذلك الوقت قراءة تعاقبيّة؛ لأتابع مواقفه من حلّ القضيّة الفلسطينيّة منذ انطلاقة الثورة حتّى «اتّفاقيّة أوسلو».

كان عنوان الدراسة «مريد البرغوثي: من إعادة التكوين بعد الهزيمة إلى جنازتنا الجماعيّة»، وأظنّ أنّه استقبل الكتابة الّتي كانت نُشرت في جريدة «البلاد» بفرح، فمع أنّه زار قريته دير غسّانة، ومدينة صباه وشبابه رام الله بفضل «اتّفاقيّة أوسلو»، إلّا أنّه سرعان ما عاد إلى المنفى، وأخذ يهاجم الاتّفاقيّة و«السلطة الفلسطينيّة».

 

قصائد قصيرة

في تتبّعي لكتابات الشاعر الراحل، شعره ونثره، وكتابات أدبيّة فلسطينيّة، لازمتني فكرتان أساسيّتان هما تأثيره في غيره من الأدباء، وفكرة الأخ الأكبر في العائلة الفلسطينيّة.

على أنّ فكرة أخرى في أمر هذا الديوان ظلّت تلحّ عليّ أكثر، وما زالت، تتمثّل بالسؤال الآتي: هل أوحى هذا الديوان إلى محمود درويش كتابة ديوانه «ورد أقلّ»؟

 

أوّل ديوان شعريّ قرأته له كان « قصائد للرصيف» (1980)، وأقرّ أنّه راقني، وترك أثرًا في بعض كتاباتي لسببين: أوّلهما بنية قصيدته ولهجته الخفيضة الساخرة، وثانيهما سخريته من كثير من جوانب حياتنا. ولطالما وظّفت في مقالاتي قصيدته «قبائل» للسخرية من بنيتنا الاجتماعيّة وحياتنا المتناقضة، الّتي لخّصها مرّة الشاعر نزار قبّاني بسطره الشعريّ المعروف" لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهليّة".

على أنّ فكرة أخرى في أمر هذا الديوان ظلّت تلحّ عليّ أكثر، وما زالت، تتمثّل بالسؤال الآتي: هل أوحى هذا الديوان إلى محمود درويش كتابة ديوانه «ورد أقلّ»؟

كلا الديوانَين يضمّ قصائد ذات بنية قريبة من بعضها بعضًا وإن اختلف المضمون، ومن المؤكّد أنّ درويش قرأ ديوان مريد، كما قرأ أشعاره الّتي نُشِرَت في مجلّة «الكرمل».

 

المزاوجة بين الشكلين

وحين نقرأ أشعاره وأشعار ابنه تميم نلاحظ تأثيره أيضًا. لقد كان تميم ورضوى زوجة مريد، كما قال مريد مرّة، أوّل مُصْغِيَيْن إلى قصائده الجديدة، فكان قبل أن ينشر قصائده يقرؤها عليهما ليعرف مدى تقبّلهما وفهمهما لها.

كان هذا بالتأكيد قبل عام 2000، فبعد هذا العام اختلفت كتابته، من حيث الوضوح وعدمه، اختلافًا واضحًا، وما دام تميم كان منذ طفولته وصباه يصغي إلى قصائد أبيه، فمن الطبيعيّ أن يتأثّر بما أصغى إليه. إنّ مَنْ قرأ قصيدة تميم «القدس»، وقرأ من قبل بعض قصائد مريد، وأخصّ بالذكر هنا قصيدته «طال الشتات»، لا يستطيع إلّا القول إنّ قصائد الابن خرجت من معطف قصائد الأب.

بنية قصيدة الابن «القدس»، لا تبعد كثيرًا عن بنية قصيدة الأب «طال الشتات»؛ فهي تسير على نهجها، وأعني هنا بناء قصيدة تزاوج بين الشكلين الشعريّين: التقليديّ -  القصيدة الكلاسيكيّة، والحداثيّ-  قصيدة التفعيلة.

في كتابه «وُلِدْتُ هناك، وُلِدْتُ هنا» يأتي الأب على شيوع قصيدة ابنه «القدس»، ويرى أنّها غدت أشهر قصيدة في القدس في الشعر العربيّ الحديث. وليس بيت القصيد هنا فيما ذكر، بل يكمن بيت القصيد في تأثير الأب في الابن.

بنية قصيدة الابن «القدس»، لا تبعد كثيرًا عن بنية قصيدة الأب «طال الشتات»؛ فهي تسير على نهجها، وأعني هنا بناء قصيدة تزاوج بين الشكلين الشعريّين: التقليديّ -  القصيدة الكلاسيكيّة، والحداثيّ-  قصيدة التفعيلة. هكذا تبدأ القصيدتان بأبيات تقليديّة الشكل، ثمّ سرعان ما يبتعد الشاعران عنه إلى قصيدة التفعيلة، وإن عاد الأب إليه بين المقطع والمقطع.

 

الأخ الأكبر

لا تنفصل الفكرة الثانية، وهي فكرة الأخ الأكبر في العائلة الفلسطينيّة عن الفكرة الأولى السابقة، أي التأثّر والتأثير، فمَنْ قرأ كتاب «رأيت رام الله»، وقرأ في الوقت نفسه رواية رضوى عاشور «الطنطوريّة»، يلاحظ أنّ ثمّة بعض الأفكار المشتركة، ولا نذهب هنا إلى أنّها تَوارد أفكار؛ فرضوى المصريّة الّتي التقت بمريد الفلسطينيّ منذ منتصف ستّينات القرن العشرين، وأسفر لقاؤهما عن علاقة استمرّت حتّى وفاة الزوجة، عرفت العائلة الفلسطينيّة عن قرب، وصارت جزءًا منها، والتقت بأفرادها، وخبرت جانبًا من جوانب حياتهم، هو علاقة الإخوة ببعضهم بعضًا، ودور الأخ الأكبر في العائلة، ولم يكن مريد هو الأكبر. لقد كان منيف هو الأكبر، فكان الأب الثاني لإخوته.

في «رأيت رام الله»، يكتب مريد عن محاولات أخيه منيف العودة إلى دير غسّانة زائرًا دون جدوى، هو الّذي غادرها "بحثًا عن الرزق في الثامنة عشرة من العمر"، يكتب الآتي:

ومن المؤكّد أنّ تجربة مريد البرغوثي وعلاقته بأخيه منيف، كان لها الأثر الكبير في إبراز هذه الصورة للأخ الأكبر في العائلة الفلسطينيّة، الّتي كتبت عنها رضوى.

" إنّ كتبًا كثيرة يجب أن تُكْتَب حول دور الشقيق الأكبر في العائلة الفلسطينيّة، منذ مراهقته يصاب بدور الأخ والأب والأمّ وربّ الأسرة، وواهب النصائح، والطفل الّذي يُبْتَلى بإيثار الآخرين وعدم الاستئثار بأيّ شيء.. "

وفي «الطنطوريّة» تكتب رضوى عن العائلة الفلسطينيّة، وتأتي على الأخ الأكبر وعلاقته بإخوته:

" تطلّعت إلى صادق، كان يجلس في المقعد المقابل، وعلى عينيه نظّارة القراءة، وبيده قلم ودفتر. كان يخوض في التفاصيل، رفع عينيه وقال: قبرص أو اليونان، لا أرى حلًّا آخر. أمسك بسمّاعة التلفون، اتّصل بحسن: "ما رأيك... نلتقي في اليونان؟ في بيربوس. نعم، نقيم العرس هناك. أسبوع. لا. طبعًا لا. أنا الكبير، سأتكفّل بالأمر. بطاقات السفر والإقامة وليلة العرس، هذه مسؤوليّتي. الله يرضى عليك يا حسن، لا داعي لهذا الكلام، أنا الكبير، انتهينا، هذا موضوع خارج النقاش".

ومن المؤكّد أنّ تجربة مريد البرغوثي وعلاقته بأخيه منيف، كان لها الأثر الكبير في إبراز هذه الصورة للأخ الأكبر في العائلة الفلسطينيّة، الّتي كتبت عنها رضوى. ولحسن حظّنا، نحن الفلسطينيّين، أنّ الأخ الأكبر في عائلة مريد كان على هذه الشاكلة، ولم يكن عكسها.

 

 

د. عادل الأسطة

 

 

أستاذ جامعيّ وباحث. حاصل على الدكتوراه من جامعة BAMBERG في ألمانيا عام 1991. يكتب المقالة في الصحافة الفلسطينيّة والعربيّة. أصدر العديد من الكتب، منها: 'جداريّة محمود درويش وصلتها بأشعاره'، و'الصوت والصدى: مظفّر النوّاب وحضوره في الأرض المحتلّة'. يكتب القصّة القصيرة والرواية ويهتمّ بدراستهما.