طرق التفافيّة

رجل يلقي حجرًا على عصفور | خوان ميرو

 

طريق رقم 1

في الصباحات الرماديّة، المُعتمة، أعني الصباحات الّتي تأخذ منك الطاقة الّتي خزّنتها في نومك، الصباحات الّتي تُستثنى الشمس منها، تقوم لاستقبالها كأنّك اللاعب الأخير المُسْتَدْعى لمباراة ودّيّة، لا تُهِمُّ أحدًا.

تنهض خجلًا من أن يمشي اليوم وحده ويتركك على محطّة الأمس، الأمس الّذي أغمضتَ عينيك في آخره وأنتَ تُسَبِّح ذكرى أيّامٍ راحت، كانت الشمس فيها عنوان خطواتك، تلحقها وتنتظرك، تنتظرها لتأتيك.

ابتلعَ رمادُ السماء ما اعتقدت أنّه لك، وصرتَ تبحث في بئرك عمّا وقع عنك من شمسٍ قديمة، يابسة، تتمسّك فيها كأنّها آخر ما يذكرّك بك، وفي البئر أيضًا، وجدت صورةً باهتةً لضحكات لم تتّسع لها أيّامك القديمة، وحين حاولتَ ارتداءها التقطتْ عيناك تاريخ انتهاء صلاحيّتها، فصارت رمادية أيضًا كالسماء.

باحثًا عن مخرج الطوارئ صرتَ تقضي أيّامك، تتذكّر قصّة الجدار الّذي يُعاود بناء نفسه بنفسه كلّما اقترب العاملون من هدمه، كأنّك ذلك الجدار، أو كأنّك الفأس، ولربّما أنت كلّ العاملين على هدمه.

في صباحٍ رماديّ كهذا، وبهمّة لاعب لا يحبّه المشجّعون، ستصل إلى الباب الّذي تريده، لتجد أنّ بابكَ الوحيد هذا، يُفْتَحُ فقط، من الجهة المقابلة. 

 

طريق فرعيّ 

لماذا أُعْطِيَ الإنسان الحقّ بأن يعيش، ولم يُعْطَ الحقّ بأن يختار وقت موته؟ 

 

طريق رقم 2

ما الفرق بين لونٍ وآخر؟ مزاج الفنّان.

ما الفرق بين أغنيةٍ وأخرى؟ حالة المستمع.

ما الفرق بين كأسٍ وكأس؟ لسان المتذوّق. 

ما الفرق بين المسافة إلى هناك والهناك؟ تعب المسير. 

ما الفرق بين ليلةٍ وأخرى؟ الأحلام.

ما الفرق بين طريقٍ وآخر؟ التجربة. 

ما الفرق بين الحِسِّ واللمس؟ الرغبة. 

ما الفرق بينَ هُنا وكانَ هُنا؟ حياة.

ما الفرق بين القمّة والقاع؟ النسيان. 

ما الفرق بين تجربةٍ وأخرى؟ العمر. 

ما الفرق بينَ حياةٍ وحياة؟ قرار. 

ما الفرق بين قرارٍ وقرار؟ اختيار.

ما الفرق بين مطارٍ ومطار؟ ختم الدخول.

ما الفرق بين سماءٍ وسماء؟ طعم الهواء. 

ما الفرق بين عَطَشٍ وعَطَش؟ كلفة الماء. 

 

طريقٌ فرعيّ 

يستحقّ البشر تعويضًا عن كلّ وقتٍ ضاع منهم في استكمال المعاملات الحكوميّة، وأزمة السير الّتي سبّبها شرطيّ، وانتهاء السيجارة، وأن تعود الكهرباء في الأسلاك، وفي انتظار سائق شاحنة المعونات، إلخ...

 

طريق رقم 3 

كم تبلغ المساحة الّتي يحتلّها التاريخ في عقلنا؟ وهل يتّسع لامرأةٍ عاديّةٍ أو رجلٍ بسيطٍ عاش قبل ألف عام؟ أم أنّنا نوفّر هذا الحيّز لمن مرَّ من علماء وأدباء وأطبّاء وزعماء ومشاهير فقط؟ 

بعد خمسمائة عامٍ من اليوم، سنصير نحن التاريخ، فهل سيعلم بنا أحد؟ 

كمهاجر، تستحضرني تلك النكتة الّتي تقول إنّنا نسعى لنغادر بلادَنا لنعيش ونُدفن في الغرب، غافلين أنّه من الممكن أن نتحوّل إلى وقودٍ أحفوريّ بعد ألف عام، ليُعاد تصديرُنا كنفطٍ خامٍ إلى الصين، فيتمّ استخدامنا لصناعة طلبيّة أحذيةٍ تُباع في سوق بلدنا الّذي هاجرنا منه... 

وكمَنْ لم يُهاجر، نحيا ونُدفن في مقبرة سيتمّ قَلْبُ أرضها بعد خمسين عامًا، ولم يستفد منّا أحد.

ولربّما هناك حكمةٌ ما لا نعرفها بعد، أنّ الميّت لا يشعر بشيءٍ بعد أن يتّخذ قراره بمغادرة هذه الحياة. 

 

طريقٌ فرعيّ

"الّذي تستطيع اللّحاق به مشيًا، لا تركض خلفه"* 

 

طريق أخير

ستتعطّل محرّكاتنا عند وصولنا ذلك الطريق الّذي لا نعرفه؛ فكلّ شيءٍ جديدٍ يضعنا على حافّةٍ نخشاها، نتوتّر، تصير قراراتنا البسيطة مصيريّة، تربكنا بدايات التعارف فنضيع، نهاب أوائل الأشياء... فنخسرها.

نحن الّذين استطعنا تطويع كلّ موارد هذا الكوكب لخدمتنا... نرتبك حين نبدأ بتقشير برتقالةٍ واحدة، لكي لا نعتقد أنّنا أضعنا وقتنا ولم تُعْطِنا الحلاوة الّتي نريد. 

للنّهايات آلامها وأفراحها الخاصّة، هدوء غريب يتملّكنا حين نُدْرِك أنّنا مألوفين هنا، لا نتذكّر رهبة أوّل مرّة، نمشي كثيرًا، لكن القليل منّا يصل.

 

طريقٌ مسدود

للطريق نهايةٌ لم نصلها، بل وصلنا لنهايتنا. 

 

 


* إبراهيم نصر الله، قناديل ملك الجليل
 

أيمن حسّونة

 

 

كاتب فلسطينيّ من مواليد الأردنّ، يقيم في كندا. يكتب وينشر في عدد من المنابر والصحف العربيّة.