التشتيت: في النظر إلى «رأيت رام الله» من خارجه

مريد البرغوثي (1944 - 2021)

 

التشتيت - Dissemination

ما من جديد في القول إنّ «التشتيت - Dissemination» مصطلح أساسيّ من مصطلحات دريدا، وهو أيضًا عنوان أحد كتبه الشهيرة. لكن دريدا أراد بالتشتيت في هذا الرسم توظيف مفردتين أساسيّتين من اليونانيّة: Semen أي النطفة أو البذار، و Se’me أي علامة، دالًّا على البعثرة، ليس بمعناها السلبيّ البسيط المباشر فقط، بل على تبذير فعّال ونشر للعلامات والنصوص كما تُنْشَرُ البذار، لا من أجل الضياع المحض، بل ليطلع منها بذارٌ أخرى على غير ما يُتَوَقَّع.

لكن عنوان هذه المادّة، مأخوذ من عنوان فصل في كتاب «موقع الثقافة» للمنظّر الهنديّ هومي بابا، الّذي يبرز في لعبته اللغويّة «Dissemination» كلمة «أمّة - Nation» باعتبارها هي البذار والنطفة المنثورة.

لعلّ هذه هي الاستعارة الأصدق لحال الفلسطينيّين والفلسطينيّات، ووضعهم في شكل أشدّ تعقيدًا من «الجماعة»، وأكثر رمزيّة من المجتمع، وأبعد دلالة من البلاد، وأرفع بلاغة من منطق الدولة...

لعلّ هذه هي الاستعارة الأصدق لحال الفلسطينيّين والفلسطينيّات، ووضعهم في شكل أشدّ تعقيدًا من «الجماعة»، وأكثر رمزيّة من المجتمع، وأبعد دلالة من البلاد، وأرفع بلاغة من منطق الدولة، وأشدّ أسطوريّة من الأيديولوجيا، وأضعف تجانسًا من الهيمنة، وأوهى تمركزًا من المواطن، وأشدّ لحمة من الذات، وأكثر نفسيّة من المدنيّة، وأشدّ إفصاحًا من سياسات تعيين الهويّة.

لعلّ الأمر، فلسطينيًّا، معقّد بما يكفي للإشارة إلى أنّ كلّ فلسطينيّ وفلسطينيّة، تتنامى في دواخلهم سياسات الزمن والسرد والهوامش، بنفس كثافة نموّ المركزيّات الهويّاتيّة الحداثيّة الراسخة وسرعتها، كالدولانيّة وغيرها، وهو ما ينعكس جليًّا على بنية الخطاب في مستوييه المباشر والأدائيّ، بشكلٍ يكاد يطغى على جذر المسألة الفلسطينيّة، ويؤثّر في السياسيّ فيها، وخاصّة إذا تموضع ضمن خطاب حقوقيّ دولانيّ، يجعل من الصراع مع منظومة الاستعمار أمرًا مقيّدًا بالحقّ القانونيّ في تقرير المصير والاقتصاد والموارد وغيرها.

 

موقع الرؤية

لعلّ هذا ما أعطى موقع نصّ «رأيت رام الله» لمريد البرغوثي أهمّيّته، وهو ما يجعل موقع الرؤية (رأيت رام الله) مهمًّا، وعلاقتها بالذات الفلسطينيّة في فلسطين المتخيّلة برسم الدولانيّة الحديثة، ونعني مشروع دولة «أوسلو»؛ فموقع الرؤية مهمّ حداثيًّا، إذ إنّه من أهمّ الديناميّات الّتي انبنت عليها الحداثة أنّها «لحظة أنا» لا تقوم إلّا بآخرويّتها اللانهائيّة في الأنا؛ وقد ابتلعت تلك الديناميّة كلّ أنماط السرديّات، حتّى الدينيّة منها، جاعلة من آدم و/ أو الله آخرًا لإبليس، والعكس كذلك. وعليه؛ فإنّ أيّ محاولة لسبر أغوار الأنا/ الذات الحداثيّة، لا تكون من دون الاصطدام بتمثّلات لانهائيّة للآخر داخل الأنا، وما ينتج عنها من أنماط لإدراك الواقع المعيش والمتخيَّل، إنتاجًا واستهلاكًا، ومن بين تلك مفهوم «الهويّة».

بشكل أبسط ولو قليلًا، فإنّ موقع مريد لحظة رؤيته لرام الله، هي لحظة رؤية كلّ ذات فلسطينيّة لرام الله من خلال تلك اللغة والسرديّة، وعليه؛ فإنّ نصّ «رأيت رام الله» في ذاته فرصة لمونولوج داخليّ، يقع على العلامة الفاصلة بين «Dissemi» و«Nation»؛ فمن ناحية هي عتبة لرؤية «الأمّة - Nation» وكذلك تشتّتاتها. الأمر يكاد يكون شبيهًا بموقع حنظلة في أعمال ناجي العلي؛ فهو يقف طرفًا ثالثًا في المشهد، أوّلًا هو طرف غير فاعل، وإن كان غير محايد بطبيعة الحال، بالمعنى المباشر والمشارك في أحداث الكاريكاتور السياسيّة (إلّا في بعض الأعمال)، لكنّه أقرب إلى المتلقّي، وتحديدًا الفلسطينيّ؛ إذ يُراد إخراجه من المشهد السياسيّ إلى أطرافه، لكن بموقع حنظلة على الرسم ببُعديه الأفقيّ (الوجود والحضور اليوميّ) والعموديّ (التاريخيّ بمعنى الشهود على السياق والفاعليّة)، يعيد الفلسطينيّ إلى موقعه في السرد والمشهديّة الحداثيّة، أو تحديدًا الدولانيّة.

 

 

تجاوزٌ لثنائيّات الحداثة

لعلّ كلّ ذهاب فلسطينيّ (وعربيّ، كذلك) إلى الحداثة في شكلها الدولانيّ هو ذهاب مأزوم، لا تنبع أزمته فقط من ذاتيّة الرحلة الحداثيّة، ومسارها، ولكن كذلك من شرطيّة حداثيّة معبّأة بالإبهام («الحداثة والإبهام»، باومان)؛ فالدولة هي إجابة حداثيّة عن شرطيّة الوجود الاجتماعيّ للإنسان، بمنظومات قيمه ومعانيه ومتخيّلاته، لكنّها، وإن توسّمت العقلانيّة والمنطقيّة والوضوح، إلّا أنّها تغرق في الإبهام والعجز، وتحديدًا في سياق الحداثة السائلة، وأجساد البشر في تقابلها مع أجساد الدول والمجتمعات، وما أدّى إليه تحرّك تلك الأجساد في أمواج من النزوح واللجوء، غيّرت شكل المعرفة الحداثيّة، وراكمت موقعًا منفويًا لتأمّلها... وفي الحالة الفلسطينيّة في جسد الحداثة تحديدًا، وبقدر ما تعطي الرؤية (والعين حاسّة مركزيّة في الحداثة) «رطانة واثقة» بتعبير أدورنو. موثوقيّة تنبع من فرضيّة أنّ الوجود يتّصف بكونه حداثيًّا، ما دام ينقسم إلى ثنائيّة: نظام وفوضى.

وهنا تظهر أهمّيّة النصّ المريديّ في سفر الرؤيا ومحمولاته؛ فهو يخرج عن نظام الاحتلال وفوضى «أوسلو» معًا، إلى ممارسة نقديّة تجاه الذات الفلسطينيّة، وسياسات الفقد الحداثيّ. ما رآه مريد في رام الله، حين نظر إلى رام الله، هو تلك المساحة المتجاوزة لثنائيّات الحداثة: دولة ومجتمع، هو طرح لشكل الوجود الفلسطينيّ، بكامل تناقضاته ضمن مسار الدولة والوطن، طرَح فضاءً ثالثًا لتأمّل فلسطين.

تطرح «رؤية» رام الله، باعتبارها أليغوريا عن الدولة عودة إلى أصل المصطلح اليونانيّ، ويعني «التكلّم على نحو آخر»؛ فالأليغوريا قصّة شعريّة أو نثريّة لها معنًى مزدوج: الأوّل سطحيّ (عيانيّ) خدّاع برسم موثوقيّة العين ومركزيّة النظر والرؤيا في الحداثة، حين يرى رام الله (لا أعلم إن كان مريد يعي بنفسه هذه الأبعاد أو لا!)، وهو معنًى أفقيّ، لكيانيّة دولانيّة (دولة «أوسلو») لم تستطع إنتاج حتّى الإجراء الدولانيّ إلّا على مستوى الخطاب، والمعنى الثاني تحت السطح، ذو بُعْدٍ رأسيّ له علاقة بسياسات الذاكرة والنسيان والمعنى. الأليغوريا هي قصّة يمكننا تأمّلها على أكثر من وجه ومعنًى ومستوًى.

أن تبدأ الرواية من على الجسر (عنوان الفصل الأوّل)، لم يكن أمرًا مصادفًا؛ فالجسر مشهد تخوميّ بين عالمَين، يدفع الكاتب وهو حبيس هذا المشهد/ الجسر بشكل متجاوز...

أن تبدأ الرواية من على الجسر (عنوان الفصل الأوّل)، لم يكن أمرًا مصادفًا؛ فالجسر مشهد تخوميّ بين عالمَين، يدفع الكاتب وهو حبيس هذا المشهد/ الجسر بشكل متجاوز، وأعني مشهد التخوم تحديدًا، كما سنرى في الآتي من النصّ.

بمعنًى آخر الكاتب/ السارد/ الفلسطينيّ/ العائد لم يخرج تمامًا من فلسطين، ولم يعُد إليها تمامًا، وينطبق الأمر على المنفى والشتات، فالفلسطينيّ لم يخرج تمامًا من منفاه، ولم يصل إلى وطنه تمامًا.

 

 

عبد الله البيّاري

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيةّ، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة، مدير «مكتبة الأرشيف» في عمّان.