الحرب في أدب الطفل: «دجاجة البيت الّذي رحل» نموذجًا

غلاف كتاب «دجاجة البيت الّذي رحل»

 

الكتابة للطفل عمل شاقّ، إنّها تتطلّب قدرة عالية على التقاط زاوية النظر إلى هذا العالم، ويظلّ سؤال مِنْ أين يمكن الدخول بشكل صحيح إلى عوالم الطفل مركزيًّا في هذا الإطار، ولمّا كان أدب الطفل قناة للاتّصال به، كما وصفه حسن شحاته "وسيطًا تربويًّا يتيح الفرص أمام الأطفال للإجابة عن أسئلتهم واستفساراتهم، ومحاولة الاستكشاف، واستخدام الخيال، وتقبّل الخبرات الجديدة"[1]، كان مهمًّا على المنشغلين في الكتابة للطفل أن يتحرّوا قدرًا عاليًا من الدقّة في أن تكون هذه القنوات ملائمة ودقيقة، وأن تؤدّي الأدوار المتوقّعة منها.

تشهد صناعة كتاب الطفل تطوّرًا كبيرًا، سواء في القضايا الّتي يعالجها أدب الطفل أو الرسومات الّتي تحتويها، أو حتّى الخامات الّتي تُصْنَع منها. لم يَعُد أدب الأطفال أداة لاستعادة حلول سحريّة للمشكلات والتجارب الّتي قد يتعرّض إليها الأطفال في مناطق مختلفة من العالم فقط، بل أصبح أداة لطرح السؤال وإثارة الفضول، وخلق المشكلة أحيانًا.

نحاول في هذه المادّة أن نستعرض كيف يمكن أدب الطفل أن يقدّم موضوعًا ضخمًا بحجم الحرب، لأطفال عاشوها غير مرّة في مكان كقطاع غزّة، من خلال كتاب «دجاجة البيت الّذي رحل»، للكاتب حسن عبد الله...

نحاول في هذه المادّة أن نستعرض كيف يمكن أدب الطفل أن يقدّم موضوعًا ضخمًا بحجم الحرب، لأطفال عاشوها غير مرّة في مكان كقطاع غزّة، من خلال كتاب «دجاجة البيت الّذي رحل»، للكاتب حسن عبد الله، ورسومات وتصميم لينة غيبة، الصادر عن «دار أكاديميا» في بيروت.

تتحدّث قصّة الكتاب عن دجاجة رقطاء تعيش في حديقة بيت عائلة أبي كريم، تتركها العائلة وحيدة على إثر الحرب. تواجه الدجاجة الرقطاء مجموعة من المخاطر المتتالية، إلى أن تنتهي الحرب بعد عام، وتعود عائلة أبي كريم إلى البيت، فتجد الدجاجة الرقطاء، دجاجة جديدة ومختلفة عمّا كانت عليه قبل الحرب.

 

الرقطاء الّتي تمثّلنا

آثر الكاتب أن تكون الدجاجة الشخصيّة المركزيّة، في الوقت الّذي كان بإمكانه أن يجعل الطفل الصغير في عائلة أبي كريم، هو الشخصيّة المركزيّة، افترض أنّه في إطار توجيه هذه القصّة إلى الكبار، سيكون الطفل المعادل الموضوعيّ للدجاجة. يمكن أدب الطفل أن يصنع مقاربات مع واقع الحرب، لكن لا يمكنه أن يدخل إليها من أبواب مباشرة كما يفعل أدب الكبار. تقول الباحثة أليس يوسف حول ذلك: "لأنّ الأطفال يقرؤون بوعي غير مكتمل لأنفسهم ولمجتمعاتهم مقارنةً بالكبار، لا ليصدمهم أو ليوقظهم، بل ليعلّمهم كيف يبنون هويّتهم الشخصيّة والاجتماعيّة في عالم تمزّقه الحروب"[2]. الّذي يدفعني إلى قول هذا هو تكرار الحدث ذاته، ما سمعناه في أعقاب الحروب، الأطفال الّذين تركهم ذووهم ساعات القصف.

قدّم الكاتب الدجاجة، وكان يريد طفلًا تُرِكَ وحيدًا وسط غبار المعركة، وجد أنّه بالإمكان أن تكون الرقطاء سفير الطفل، وأنّ الأطفال الموجَّه إليهم هذا العمل سيكون بإمكانهم أن يفهموا تمامًا ما حصل مع الرقطاء؛ وبهذا يبقى العمل خفيفًا على الأطفال، الّذين سيصعب عليهم أن تترك العائلة طفلها الصغير وحيدًا بسبب الحرب.

 

النجاة

تتناول القصّة موضوع الحرب تناولًا هادئًا في سيرورة الأحداث؛ تحدث الحرب فجأة، ليس ثمّة ما يدلّ على أنّ طرفًا ما بعينه هو مَنْ أطلق النار، لم يكن هناك فعل مقاومة ما، العائلة الّتي كانت تواجه خطر الموت، قدّمت فكرة النجاة على فكرة التضحية، وفعل الهروب كان فعلًا جماعيًّا، السيّارات تباعًا كانت تسير إلى الأماكن الهادئة.

هذا التناول العامّ والواسع لقضيّة الحرب، ينسجم تمامًا مع زاوية نظر الطفل؛ فالحرب بالنسبة إليه ليست حدثًا سياسيًّا، إنّها حدث طارئ يضرب بصورة مباغتة اتّزان الحياة الّتي يعيشها؛ لذا، فليس مهمًّا بالنسبة إليه كيف حدثت، ولِمَ حدثت، ومَنْ أطرافها، ولا في أيّ جغرافيا حدثت. تشير الباحثة أليس يوسف في بحثها ذاته إلى هذه المعالَجَة، تقول: "هي تجربة عامّة الملامح، لا تخصّ الحرب جغرافيًّا، إنّ امتداد التجربة وعدم حصرها يُبْقي الحالة الشعوريّة مرافقة للطفل أينما كان، وهو الغرض الأعمّ من الأدب، وبطرقه للحرب كدخيل على الحياة"[3]، ثمّ تدريجيًّا تنتهي الحرب الّتي يصفها الكاتب بالعدوان، بمعنًى آخر، هو لا يُعْفي نفسه تمامًا من تبنّي وجهة نظر خاصّة أخلاقيّة تجاه ما حدث، لكنّه في معالجته الموضوعيّة لا يخوض في قضيّة الحرب، من حيث إنّها قضيّة سياسيّة أو وجوديّة أو أخلاقيّة، فقط يقدّم إشارات خفيفة تجاه فعل النجاة وتقديمه على فكرة التضحية.

أهمل الكاتب المواجهة أو تبعاتها؛ لأنّها ببساطة ليست قضيّته في هذه القصّة، وكثّف الكاتب من معالجته لتجربة الدجاجة الرقطاء في القصّة، الّتي هي تجربة الحرب من حيث كونها حدثًا معيشًا.

من الكتاب

 

القدرة على المواجهة

كانت الدجاجة الرقطاء كغيرها من الدجاجات، لم يكن ما يميّزها في القصّة عن البقيّة سوى أنّها رقطاء، إلى أن جاءت الحرب، الّتي ستخلق دجاجة رقطاء مختلفة عن تلك الّتي تركتها عائلة أبي كريم قبل عام. تشير الباحثة أليس يوسف إلى أنّ التركيز على رمزيّة النصّ في شخصيّة الرقطاء يمثّل محور بناء السرد بكلّيّته: "شخصيّة الرقطاء هي محور السرد الروائيّ بأكمله، والسرد الروائيّ يتعامل مع فكرة ما وراء الرحيل؛ أو بعبارة أخرى، مَنْ يبقى في الوطن الأمّ حين تطحن الحرب أبناءه"[4].

كما تشير الباحثة نسرين عناتي في مقالتها «تأثير الربيع العربيّ على أدب اليافعين» إلى أنّ "تغيّر المنظور في وصف معاناة عائلة أبي كريم إلى الرقطاء، يُظْهِر محنتها الّتي - أي الرقطاء - يمكن اعتبارها ممثّلة لجميع المدنيّين الّذين بقوا في أوطانهم حين فرّ جميع الناس"[5].

تجد الدجاجة الرقطاء نفسها مضطرّة إلى المواجهة لا باحثة عنها، هي لا تفهم حقيقة ما حدث، وليس لديها وجهة نظر تجاه ما حدث، وكلّ ما يدفعها إلى الاستمرار غريزتها المتشبّثة بالحياة. كانت تحاول أن تستعيد مشهد ما قبل الحرب، كانت تبحث عن ذات الملامح القديمة للمكان الآمن المألوف، قبل أن تقع عليه القذيفة وتدرك أنّ ثمّة شيئًا ما تغيّر، هذا هو الّذي يسمّونه حربًا، وتبدأ محاولاتها للدفاع عن نفسها أوّلًا بمقاومة ألم الشظيّة، ثمّ خطر الجرذ، ثمّ مكر الثعلب، ثمّ خذلان القطّ البرّيّ، ثمّ برد الشتاء، ثمّ رصاصة الصيّاد العابثة... تجارب مريرة وقاسية وخيارات محدودة أمام الدجاجة تدفعها إلى أن تقاوم، ليس لأنّها بطلة في أسطورة ما، بل لأنّها كائن تدفعه غريزة البقاء إلى أن يبقى، وفي ذات المسار يكتشف أنّه قادر على أن يستمرّ؛ أنّ لديها منقارًا قويًّا وقادرًا على أن يؤلم، وأنّ لديها القدرة على الهرب والاختباء، وأنّ لديها قدرًا يتدخّل لحمايتها.

إذن، المعالجة الموضوعيّة الجوهريّة في القصّة، هي لتلك التجربة؛ التجربة الّتي مرّت بها الدجاجة الرقطاء، والّتي جعلتها دجاجة مختلفة، ليس لأنّها بطلة، بل لأنّها كائن يجرّب ويتعلّم ويكتشف، ثمّ يتغيّر، ثمّ يعود كما كان.

 

العودة والتعافي

مرّت الدجاجة الرقطاء بتجربة قاسية؛ لقد شعرت بالألم، الخوف، الخذلان، البرد، الوحشة، الوحدة، خلقت هذه المشاعر كائنًا مختلفًا، سلوكًا أكثر توجّسًا. يصف الكاتب ذلك في القصّة: "ألم تلاحظوا أنّ الدجاجة الرقطاء الّتي عثرنا عليها بعد الحرب، هي غير الدجاجة الرقطاء الّتي كنّا نعرفها قبل الحرب؟". قال أبو كريم: مَنْ يدري ماذا حدث للدجاجة الرقطاء خلال الحرب، حتّى تحوّلت من طائر أليف، إلى طائر برّيّ، ولم تَعُد تنظر إلينا كأصحاب، بل كأعداء يريدون إيذاءها؟"[6]. يبرّر هذا تمامًا رفضها المتكرّر لأن تأكل مع الدجاجات أو أن تدخل الخمّ، وهروبها تجاه الوادي. كلّ هذه السلوكيّات تفسيرات طبيعيّة لتجربة جعلت من الدجاجة الرقطاء كائنًا أكثر توحّشًا، لكن دعونا ننظر كيف قدّم الكاتب نقطة التحوّل؛ لخلق التعافي والعودة من جديد. استخدم الكاتب شخصيّة مها، الشخصيّة الأكثر قربًا في عائلة أبي كريم من الدجاجة الرقطاء؛ لتكون جسر عبور الدجاجة وتعافيها، لقد جعل الكاتب من مها إضافة إلى عنصر الزمن والمحاولة، الملامح الأساسيّة لنقطة التحوّل الحاصلة، الوقت وما يرتبط به من نسيان كان كفيلًا في أن ترجع الأمور إلى طبيعتها، والمحبّة والثقة متمثّلتان في شخصيّة مها، إضافة إلى الاهتمام متمثّلًا في المحاولة، كلّ هذه العناصر نقلت الدجاجة الرقطاء، إلى العودة والتعافي، لكن هل انتهى كلّ ما حدث تمامًا؟ هل تعافت الدجاجة تمامًا، وعادت إلى حالتها الطبيعيّة؟ هل يعود الأطفال بعد الحروب كما كانوا؟ وهل يمضي وقت قبل حدوث حرب جديدة؟

والعاديّة في السياق هي مربط الفرس، الأطفال ليسوا كائنات خارقة، لكنّهم أشخاص قادرون على الاستمرار في محاولات الدفاع عن أنفسهم، بوصفهم بشرًا عاديّين...

يحاول الكاتب في هذه القصّة أن يُمَنْطِقَ - إن صحّ التعبير - موضوع الحرب؛ وفقًا لنظام الطفل العقليّ الّذي يمكنه، دونما ضغط أو تلفيق أو خطاب، أن يستوعبها. الحرب هي ما عاشه الأطفال، من خوف وخطر ووحدة، وعدم قدرة على النوم، وشعور بالفقد والخذلان واهتزاز الثقة؛ لهذا هم يغادرون طفولتهم تباعًا بعد كلّ تجربة بهذه القسوة، يتصرّفون بصورة تبدو لغيرهم بطوليّة وأسطوريّة، إلّا أنّهم في حقيقة الأمر، أطفال عاديّون يبحثون عن الأمن، والعاديّة في السياق هي مربط الفرس، الأطفال ليسوا كائنات خارقة، لكنّهم أشخاص قادرون على الاستمرار في محاولات الدفاع عن أنفسهم، بوصفهم بشرًا عاديّين، كما يشير إلى ذلك بأنّ من حقّ الفلسطينيّ أن يكون عاديًّا... ألّا يكون بطلًا.

.........

إحالات

[1] حسن شحاته، أدب الطفل العربيّ: دراسات وبحوث، ط2 (القاهرة: الدار المصريّة اللبنانيّة، 1994)، ص7.

[2] أليس يوسف، «ملاجئ غارات وخوف: الحرب وانعكاساتها في أدب الطفل العربيّ»، ورقة ضمن مؤتمر «أدب الطفل العربيّ: الحركة النقديّة» 2018، مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ، شوهد في: https://bit.ly/3zZbTvK

[3] المرجع نفسه.

[4] المرجع نفسه.

[5] نسرين عناتي، «تأثير الربيع العربيّ على أدب اليافعين»، ورقة ضمن مؤتمر «أدب الطفل العربيّ: الحركة النقديّة» 2018، مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ، شوهد في: https://bit.ly/3zZbTvK

[6] حسن عبدالله، دجاجة البيت الّذي رحل، (بيروت، أكاديميا إنترناشونال، 2013)، ص 34.

 

 


محمّد الزقزوق

 

 

من مواليد خانيونس. درس اللغة العربيّة وآدابها في "جامعة الأقصى"، يكتب في العديد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة، عضو ناشط في عدد من التجمّعات والأجسام الأدبّية والثقافية الفاعلة في المشهد الثقافيّ بقطاع غزّة، وكان منسّقًا عامًّا للتجّمع الثقافيّ لأجل المعرفة "يوتوبيا".