مذكّرات «مان سبلينر»: الممرّ

جانيت هاجوبيان، أخلاقيّات الحرب (2016)

 

(1)

لا، لست نسويًّا وقصّتي ليست نسويّة، هكذا فكّرتُ في تلك الليلة التي كانت بلا ضوء قمر، وأنا أشعر بالمرارة من مذاق بقايا المبيد الحشريّ والغبار الذي دخل إلى فمي بفعل تلاطم أغصان الزيتون على وجهي. كنتُ أحاول تثبيت نفسي فوق أغصان الشجرة الهشّة بينما أحملق في عينيّ «كينيدي»، الخنزيرة التي من فرط ما لاقيتُها في «طريق الوادي»، أسميتُها باسم الرئيس الأميركيّ المسؤول عن اجتياح خليج الخنازير. كانت غاضبة هائجة، تتحرّك وتلتفّ بجسدها في أنحاء الحاكورة بفظاظة، كناقلة جنود في مخيّم جنين.

أنا ذكوريّ بصراحة وأستحقّ هذا اللقب، ذلك لأنني ظننت لوقت طويل أنّ «كينيدي» ذكر، أمّا الآن، فقد تبيّن أنّها أنثى تريد قتلي لحماية أطفالها الذين يتحرّكون في أنحاء الحاكورة ككلاب صغيرة بدينة. هذا الظنّ المجانب للصواب، جزءٌ من تقليد فكريّ ذكوريّ نتخيل فيه أن العالم ذكريّ الطابع ومن ضلع هذا العالم يأتي ما هو أنثويّ، وعلى هذا الأساس، جعلنا المسامير والبراغي والمفاتيح وقوابس الكهرباء والرصاص والقذائف والصواريخ النوويّة وناطحات السحاب (التي تحوي أسواق بورصة وبنوك مركزيّة تنكح سنسفيل الشعوب واقتصاداتهم حول العالم)، جعلناها كلّها تشبهنا وتشبه أعضاءنا.

لا، لم أكن يومًا نسويًّا، وهذا موقف سهل التبرير في عالمنا العربيّ. ربّما كانت هناك أحقّية وشفافيّة ومحاسبة حقيقيّة للذات عند التفكير بين ما يمكله أصحاب القضبان من ميّزات، وما تملكه صاحبات الفروج من مظلوميّة. إلّا أنّه كيف بإمكانك، ببساطة، أن تاخذ قسطًا من الوقت لعقد هذه المقارنة، بعد قرون من التغلغل الإمبرياليّ في بلادنا؟ كيف بإمكانك، أن تقارن بين القضيب والفرج، عندما تنشغل بالمقارنة بين القضيب والقضيب وبين السهم والرصاصة، وبين الرصاصة والقذيفة والقذيفة والسلاح النوويّ؟ هذه هي المعارك التي نختارها نحن الذكور وننهمك بها، لهذا، لا تجدوننا في وسط ميدان مدينة فلسطينيّة  نهتف ونصرخ "ثوري واخرجي من بيتك" ذلك لأنّنا عالقون في بيوتنا نشاهد قنوات الأخبار. 

أما الآن فأنا عالق على هذه الشجرة أفكّر في معركتي المقبلة، ليس مع «كينيدي»، بل مع آل أبو راضي. 

 

(2)

بدأ الأمر قبل عدّة سنوات، عندما كنت طفلًا بريئًا كورقة بيضاء بلا هويّة جنسية (ويا ليتيني بقيت كذلك). كنّا قد أنهينا بناء بيتنا في الحيّ، بجانب بيت الجيران، بيت أبو راضي. حينها، كنت أقضي وقتي كلّه هناك داخل ذلك البيت، مع الفتيان والفتيات على حدّ سواء. أذكر الألعاب التي كنا نلعبها في الداخل، أثناء العواصف الرعديّة، كنا نلعب نسخة رديئة من برنامج «من سيربح المليون»، وكانت نهلة دائمًا ما تمثّل دور مقدم البرنامج «جورج قرداحي»، كنا نلعب لعبة «غمّاية الليل» وكانت نهلة دائمًا ما تملك نظرًا خارقًا، يُتيح لها العثور علينا والامساك بنا في غسق البيت، كنا نلعب المصارعة على فرشات غرفة «القعدة البدوية» وكانت نهلة دائمًا ما تبطحني على الأرض بسهولة وتصرخ انتصارًا مثل المصارع «هالك هوجان».

استمرّ الوضع هكذا حتّى قبل بلوغي وحدوث التغيّرات الهرمونيّة في جسدي (وأجساد الجميع) بقليل. حينها... أصبح بيت أبو راضي «حرمًا مقدّسًا» لا أدوسه إلا بحضور ذكر من ذكور العائلة، وفي كلّ مرّة كنت أدخل هناك، أشعر وكأنّني سائح في كوريا الشماليّة، برفقة عنصر أمنيّ من وزارة الداخليّة.

هناك طريقان للوصول إلى البيت من الشارع الرئيسيّ؛ طريق الوادي الطويل غير المعبّد، وممرّ قصير بسيط آمن عبر ساحة بيت أبو راضي، ومن ثمّ إلى حاكورة نعنع وميرميّة تفصل بيننا. ظننت بسذاجة، أن الجيرة والعشرة ستعطيني حقّ عبور السبيل إلى الأبد. ذلك حتى خُطِبت نهلة لابن عمّها الأميركيّ، حيث وصلت رسالة إلى والدتي من عمّة نهلة: "ابنكم يمّر كثيرًا بالقرب من البيت، ونهلة تجلس أحيانًا على البرندة بالشبّاح". حينها شعرت والدتي بالإهانة والضيق، أمّا أنا، فقد تمنّيت أن أكون امرأة  لكي لا أمرّ من طريق الوادي إلى البيت.

وها أنا فوق شجرة الزيتون، في وسط طريق الوادي، بعد اثنين وعشرين شهرًا، أراقب «كينيدي»، وأطفالها يرحلون أخيرًا كنظام الدكتاتور الكوبيّ «بابتيستا». نزلت من الشجرة، وهرعتُ إلى البيت، هاتفت ابن عمي وشكوته، فقال لي بطريقة عشائريّة، أن لا حقوق لديّ أمام دار أبو راضي، والشيء الوحيد الذي يمكن أن أفعله هو الاتّصال بصيّاد الخنازير.

فجأة، سمعتٌ صراخًا وعويلًا يأتي من دار أبو راضي. 

 

(3)

هذه ليست قصّة عن الهامش. قد أكون نرجسيًّا أنانيًّا يرغب في أن يُقحم نفسه في قصّة ليست قصته، تمامًا كما فعل كاتب السيناريو «تشارلي كوفمان» عندما أقحم نفسه في قصّة كتاب يتحدّث عن أزهار الأوركيدا. وقد أكون ذكوريًّا، يريد أن يُعارض ويتحدّث ويهرف بدلًا من أن يستمع باهتمام ورفق إلى الضحايا. هناك العديد من الفتيان والفتيات (وغيرهم)، المهوسيين بالهامش وبمقارنته بالمركز. حسنًا! تمام! عُلم! فهمنا يا سيدي ويا ستّي (ويا كويري) ماذا يقع خارج المركز! ولكن ماذا يقع خارج الهامش؟ 

تقع قصص كثيرة، لا يجرؤ أيّ أنثروبولوجيّ ابن حرام على تأطيرها وتعليبها، لأنّه يحتاج إلى ألف شهر بل ألف ليلة قدر. تقع قصص كثيرة، منها قصّتي الواقعة على الهامش من قصّة نهلة التي قُتلت بعد انتقالها إلى الولايات على يد زوجها المختلّ، والذي ساعدوا على تهريبه إلى البلاد، قبل أن تحلّ العائلة الموضوع على فنجان قهوة (أريد أن أحيا وأعيش حتى زمن، أرى فيه جريمة تُحلّ عشائريًّا على علبة دكتور بيبر). 

قُتلت نهلة على يد حثالة، «عربي بيت السيّد»، مرتزق أميركيّ من مرتزقة بوش يملك محطّة بنزين ومطعمًا عربيًّا في ولاية فلوريدا. قتلها أهلُها الذين أرادوا حمايتها من نظرات رجل أراد حماية نفسه من غزوة الخنازير في طريق الوادي، غزوة خنازير تخاف أكثر على حياة أطفالها. 

وها أنا أجد نفسي مرّة أخرى في طريق الوادي. لم تعد هنالك هنالك خنازير، فقد قام الصيّاد الذي استأجرته بقنص «كينيدي» ببراعة وأصبح الطريق آمنًا. إلّا أنّني أصبحتُ أرى شبح نهلة على الطريق، تأمرني بالعصيان المدنيّ والمرور إلى بيتي من ساحة أبو راضي.

في النهاية، أجبت طلبها ومررت من ساحة بيتها، عند الساعة الثانية عشر في منتصف الليل في آخر أيام الصيف. مررت من هناك لأجد بوّابة كونيّة في حاكورة النعنع والميرمية بين بيتها وبيتي، بوّابة تخترق المكان والزمان، بوّابة جميلة وجذّابة، لم يكن طريق خنازير، بل كان طريق الأشخاص الرائعين التقدميّين، كان الكلّ رفاق الكلّ والكلّ يتزوّج من الكلّ، والكلّ حلفاء الكلّ، وكان الصراع ضدّ "كلّن يعني كلّن"، كان الجسد حرًّا كريشة، والمجتمع مثاليًّا متسامحًا وقدراتي فيه خارقة، كنتُ أقفز بين رام الله وحيفا وعمّان وبيروت بسرعة البرق أو بسرعة البراق، من غرزة إلى أخرى ومن حفلة إلى أخرى ومن جماعة رفاق ورفيقات رائعين إلى أخرى، ومن مظاهرة ضدّ العنف إلى أخرى، كنتُ تارة أجد نفسي في حفلة لفرج سليمان استمع إلى أغنية تتحدّث بلهجة ثلثي فلسطينيّة وثلث لبنانيّة عما يسمّى جرائم الشرف، وتارة أخرى كنت أجد نفسي في مكان ما يطلّ على الميناء فوق جبل الكرمل، آخذ توقيعًا من مجد كيّال على مأساة السيد مطر، وأهنّئه على مقاله الذي يوصينا فيه بأن نصمت ونستمع إلى الضحيّة برفق واهتمام، وتارة ثالثة كنت أجلس في مقهى الكروان مع الخالدين، خالد حوراني وخالد جمعة أحاول إقناعهما بأهميّة تأسيس المعرض الفنيّ «فريدا كالو في فلسطين» من أجل دعم المرأة الفلسطينيّة. 

في بوّابتي الكونيّة، كان تغيير الثقافة هو الحلّ، وكان كلّ من الثورة الجنسيّة وصيف الحبّ يفوزان وينتصران ويكتسحان قلوب وعقول الملايين!

 

(4)

خرجتُ من البوّابة وعدتُ إلى البيت في السادسة صباحًا. المرور من بيت نهلة إلى بيتي كان كالمرور من «معبر ألنبي»؛ عالمان مختلفان يفصل بينهما عالم بحدّ ذاته. استيقظت على كنبتي بعد ساعة ونصف، على وقع أخبار عودة طالبان إلى كابول (وهروب أصدقائي التقدميّين الأفغان إلى المطار)، وعلى صوت عمّة نهلة بالخارج، تخبر والدتي بأنني قد مررتُ من جانب البيت وأنا سكران، وتخبرها بأن رند، أخت المرحومة نهلة، تدرس امتحانات الفصل الصيفيّ في الجامعة في أواخر الليل، وهي جالسة على البرندة بالشورت.

شعرتُ بصداع في الرأس وأوجاع في المعدة، ولم أعد أذكر الكثير من مغامرتي النسويّة ليلة البارحة. أكثر ما أتذكّره كان بعدما هبطتُ في برلين الشرقيّة، ولاحظت جداريّة كُتب عليها بالألمانية: «صراخ جريتا تونبرغ لن ينقذنا بل الاشتراكيّة». لم أعرف إذا ما كان كاتب هذه الرسالة بحدّ ذاته صادقًا أم مزيّفًا ربّما هو شخص ذو نوايا حسنة غير قادر على تنفيذ ما يريد، تمامًا مثل «جريتا». 

نهضت ونظرت من الشبّاك، إلى عمّة نهلة وهي تعود إلى بيتها، ونظرت إلى مجموعة من ذكور آل أبو راضي البعيدين، يقفون على البرندة (المقدّسة). حينها تراءى لي الحلّ، ليس حلًا مدنيًّا إنسانيًّا ناعمًا أنثويًّا ملفتًا للنظر وللتمويل الأجنبيّ. بل هو حلّ فلاحيّ خشن ذكريّ من هذه الأرض. لماذا نكون «طالعات» خارج البيت والمطبخ، بينما نقدر أن نكون «طالعين وطالعات» فوق سطح البيت؟ كامنين وكامنات في منطقة استراتيجيّة كاشفة للحيّ، مستترة بين الخزّان وألواح التسخين الشمسيّ وصحن القمر الاصطناعيّ؟

لم تصل عمّة نهلة البيت، قبل أن تتبلور خاطرتي وتتضّح صورتي، وهُنا… هاتفتُ صيّاد الخنازير، لأقنعه أن يعيرني بندقيّته. 

 

(5)

اطلاق نار؟ أسلحة؟ مسدّسات؟ عائلات عربيّة تقتل بعضها بعضًا؟ أهذه هي ثورتي «الاشتراكية»؟ ليس هذا ما ناقشته مع الدكتور أسعد أبو خليل، عندما هبطتُ من بوّابتي الكونيّة، ليلة البارحة، على مكتبه في جامعة ولاية كاليفورنيا، وبعدما سألني السؤال المحوريّ: لماذا لم يُشكّل جيش شيوعيّ عربيّ وأمميّ لمحاربة المجاهدين في أفغانستان في الثمانينات؟ 

أغلقتُ الهاتف بسرعة على قنّاص الخنازير قبل أن يردّ، حتى هرعت من البيت إلى الوادي. 

هذه الحرب، الحرب ضد الذكوريّة وإن كانت أهدافها نبيلة، فهي لعينة وعدميّة مثل الحرب ضد الإرهاب.

يقول عرّاب تلك الحرب، سيّء السيط، «دونالد رامسفيلد»: 

هنالك معروفات معروفة، وهنالك مجاهيل معروفة، وهنالك مجاهيل مجهولة. 

المعروفات المعروفة: لقد قتلوا نهلة. 

المجاهيل المعروفة: نحن نعرف أنّ جريمة ستقع ضد امرأة لا محالة، لكن من ستكون الضحية المقبلة؟ من الفاعل؟ أين؟ متى؟

المجاهيل المجهولة: قد يكون ثمّة حلّ لهذه المشكلة، وقد لا يكون، وإن كان، فلا نعرف ما هو بالضبط. 

هذه أزمة ابتسمولوجيّة بامتياز، يُعاني منها من يريد حلّ الأزمة باللاعنف النبيل وبالعنف الثوريّ على حدّ سواء. 

ركضت ركضت ركضت، في صباح ضبابيّ، على طريق الوادي حتّى وصلت مقبرة البلدة. 

هناك، كان قبر نهلة، في نهاية ممرّ ضيق بين أشجار البلّوط، لم يكن ثمّة خنازير أو ذكور قاتلين، أو حتّى ذكور نسويّون يملكون بوّابات كونيّة إلى العولمة، أو ذكور يساريّون أو فاشيّون أو زعران قنّاصون فوق سطوح المنازل، بل كان مجرد ممرّ واضح كخطّ يقع بين المهد واللّحد. 

قرأت الفاتحة وأنا غير قادر على التركيز والخشوع، كنتُ أفكّر بسخرية القدر ولؤمه، كيف بتّ أخيرًا استطيع الوقوف والجلوس بجانب نهلة، كأيّام طفولتنا فقط، عندما لم تعد على قيد الحياة. 

وضعتُ أذني على قبرها مثل بيتهوفن الأطرش، لكي أستمع إلى نصحية مجد وأصغي برفق واهتمام إلى الضحيّة. لم أسمع شيئًا، ولا شيء كان سيعيدها كي أسمع. 

وقفتُ ونظرتُ إلى ضريحها وقلت لها بالتباس وخجل: 

"لا أعرف ماذا أفعل يا نهلة".

 


فخري الصرداوي

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من "جامعة ديوستو" في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.