خورخي أوسطى… الشاعر يمنح لسانًا لجدّه العربيّ

خورخي غارسيّا أوسطى | الجمعيّة الكولومبيّة العربيّة الثقافيّة - قرطاجنة، كولومبيا

 

وُلِدَ خورخي غارسيّا أوسطى عام 1960 في قرية «سييناجا دي أورو»، والّتي تقع في إقليم قرطبة في منطقة الكاريبي الكولومبيّ، لأب كولومبيّ وأمّ دمشقيّة الأصل. أمّه هي نبيهة أوسطى صروف، ابنة مهاجر دمشقيّ كان قد وصل إلى كولومبيا في بدايات القرن العشرين، واستوطن وادي نهر «السينو».

التحق خورخي بكلّية الحقوق في جامعة «كارتاخينا دي إيندياس» لدراسة الحقوق، لكنّه عَدَلَ عنها لاحقًا لدراسة الفلسفة في جامعة «سانتو توماس». منذ ذلك الوقت، انهمك في العمل الصحفيّ والثقافيّ في تلك المدينة الّتي عاش فيها حتّى موته المبكّر في سنّ الخامسة والأربعين عام 2005. 

اهتمّ أوسطى منذ سنّ مبكّرة بالبحث في ملفّ الهجرات العربيّة الّتي توالت على بلدان أمريكا الجنوبيّة المختلفة؛ وتحديدًا تلك العائلات الّتي سكنت منطقة الكاريبي الكولومبيّ، وشكّلت عنصرًا أساسيًّا من عناصر سكّانه وثقافته وأدبه. في عام 1984 نشر مقالته الأولى بعنوان «الهجرة العربيّة» في جريدة «El Universal»، الّتي زامل فيها غابرييل غارسيّا ماركيز. توالت المقالات والأبحاث بعد ذلك، والّتي كانت في جزء كبير منها نتاج زيارات ومقابلات أجراها مع أولئك المهاجرين وأبنائهم وأحفادهم في قرى الكاريبي. كذلك كان جزءًا من أبحاثه يتعلّق بالظهور العربيّ في أعمال كُتّاب كولومبيّين مثل ماركيز وإكتور روخاس إيراسّو ودابيد سانشيز خولياو. 

نشر أوسطى عام 1991 ديوانه «المملكة الرحّالة: قصائد الهجرة والعالم العربيّ»؛ والّذي استحضر فيه أرواح مهاجرين عربًا من بلدان الشام وكَتَبَ على ألسنتهم قصائدًا تعبّر عن مراحل هجراتهم المختلفة، وتفاعلهم مع العالم الجديد الّذي وصلوه، إضافة إلى حياتهم الجديدة فيه. 

نقدّم هنا ترجمة لبعض قصائد هذا الديوان، نهديها إلى روح خورخي أوسطى الّذي فعل وحيدًا، في حياته القصيرة، الكثير لقصّ آثار أجداده الوحيدين، الّذين لم يسعفهم لسانهم في الماضي لقول ما خبّأت ضمائرهم. 

 

إليه بقوله على لسان جدّه المهاجر العربيّ:



هبّة الترحال:
صحراواتي الشاسعة تتنهّد
في ظلِّ نخلتي الوحيدة.

 

 الخروج؛

في الطريق من دمشق إلى بيروت (1887)

اسْمَعْ أباك،

أنصتْ يا منصور إلى النار الّتي تَقْسِمُ هذه الأصول.

سِر يا رؤوف، فثمّة عالم آخر

وراء هذا البحر الوافر؛

ثمّة جبال تنهال،

وسماوات أدماها منجّمو الموالد،

وأرض لا تتّسع للمزيد من الوحدة.

 

سنرحل غدًا

دون أن نقول لأحد شيئًا.

 

قد ثقلت أوزار الحرب

في هذه الدماء الخفيفة،

دماء الفخّارين.

آه من جذوات هذه الأرض

الّتي تُذيبُ إيمان أشجار الليمون،

ومصير المؤمنين.

يا رؤوف، أَعِدّ عيناك.

سنحمل الآن ما نكون؛

حقيبة وأربعة أجساد وذكريات.

 

 

نصائح إلياس رومي لابنه (1890)

وأنت يا بُنيّ، يا مخلوقًا من الذهب

متى تبدأ في حرث الطريق،

وتُغنِّيَ ماءً بين يديك،

وتستهلك أسباب التحليق؟

 

سنعود

لنلتقي من جديد،

ربّما بعد ألفيّ عام،

ولن أكون إلياس أباك،

بل بريقًا استهلكه الغياب.

 

اغْتَنِمْ هذه الأنهار الوحشيّة

الّتي -مثل رام الله-

القمر فيها

طعام للغريب.

 

 

أول لقاء لنبيل بربور بالبحر في كارتاخينا دي إيندياس (1910)

عميق ويؤلم،

في زُرْقته المتحرِّرة،

ثمّة عضلة تَهَبُ

عمودها الدنيويّ؛

عاملة يدويّة تنفتح

حوت يُعلِنُ

مسالب الأرض.

 

في أيّ مكان كُنتُ الآن

فَلِمَ أُحِبُّ

انتصارات الحجر هذه؟

 

آهٍ؛ هذا البحر يأتي إلى أرواحي

بمكان مُوَحَّد.

 

أرض ومزيد من الأرض

تشهق مبتلّة،

نار تدافع

عن انكسار مصابيحها.

 

تنتهي مآسيكَ بهذا البحر الآنيّ.

 

 

بشارة شليلة يروي دخوله إلى السينو (1910)

كانت كثيفة تلك الأيّام الأخيرة

حين دخلنا إلى السينو، باحثين

عن جوهرة حرّة أخرى من هذه الأرض

وامرأة على استعداد

لأن تُرَبِّتَ على ظهورنا،

وتَلِدَ اثنيّ عشر ابنًا،

وتستخدم كلّ شيء حتّى النهاية؛

أن تُحِبَّ نموّ الأقتاب،

والمراسم الأخيرة في وداع نضارة الشباب،

وجِلدَ الحلفا

في آخر البَدْء.

 

خلال أعوام اخترنا

رفقة الدم نَفْسَهُ،

وكانت حلوة أو بعيدة

لكنّها كانت تضع المائدة،

وتعرف كيف تُدِيرُ وقوع المساء.

 

هنود عرايا في مضائق العالم

كانوا يمنحوننا نشرب من فلسفات القنّب،

ولغة الذرة بالغة القِدَم

كمنهج الصحراء.

 

كان النهر إلهًا خدومًا.

إنني ابن هذه المياه،

ومركز ألغازها الجديدة.

 

لقد تَعلَّمَتْ كلماتي سُبابَ الصيف.

 

 

سمير الشاعر يشاهد الرقص جزر الأنتيل (1915)

في هذه الأراضي بالغة السَعَة؛ كلّ شيء حزن ورقص،

مرعى ورقص،

فأل ورقص.

إن كان الليل مجروحًا، يرقصون.

وإن جُنَّ التمساح، يرقصون.

وإن احْتَضَرَ النهر، يرقصون.

يرقصون للبحر،

وللموت.

 

يَسْمَرُّ الهواء في بداية الرقصات، 

وتُهَرْوِلُ الكلمة، 

وتستحيل الرغبة قمرًا في فيضان الأجساد. 

 

يدعوننا للرقص؛ لكنّنا لا نستطيع.

يعرف عالمُنا الأوّل

هذه النار؛ 

فالإيقاع يأتي من زحف الريح، 

ومن الخيول الّتي تتدفّق كالتعاويذ، 

ومن الفتيات اللّاتي يتمنّعن كأقمار متعالية. 

 

الآن، لدينا أحزان كثيرة،

وحسابات كثيرة متأخّرة،

وكلمات كثيرة ملدوغة كالقرفة.

 

لكن، أيّها الراقصون؛ 

اشتروا رطلًا من هذا الجوز

الّذي يحسّن الاستمتاع بصباح السعادة.

 

 

فعل إيمان أنطونيو غصين (1918)

من هنا،

من هذا البحر الّذي تمتّعنا به كلّ متعة

من هذا النور الّذي يرصّع كلّ الأجساد بالحُليّ

من هذه الريح الّتي تُغلّف الرغبة

من هذا المعرض الّذي يُظْهِرُ ندوب امرئ

وعين الحُرِّيق

من جنون المرافئ في اليوم؛

لن يخرجونا،

لن يخرجونا.

 

 

خوسيه فضول يتحدّث عن حاضره في الشارع الطويل في كارتاخينا دي إيندياس (1919)

لا تقتصر معرفتي على حسابات الماضي،

وعشق الرقم الفرديّ، وألفيّات الجمل.

وتصديق كلّ سيّد مرموق.

على دمع أُصَلِّي، ورفقة جفوني.

آهٍ على الوحدة الّتي دَفَعْتُها بين الخِزَانات الواسعة.

 

لا أطوي قبّعتي، ولا أتجاوز حدود ناري،

أَسِيرُ معي كفارس في استراحة

وأقابل في الأقمشة

ما يفعله الإرهاق.

 

أَرْشفُ في الليل

الانتظار في الزيوت

وأرى كيف أحبّني البحر

في عطشي.

 

هكذا الأمر في بيروت،

وكذلك في «كارتاخينا دي إيندياس»؛

هواء مُحلّى يَصْقُلُ

المناسبات الكبرى،

والرجال ينحتون ويربحون

في نعومة العرق

كلّ ياردة من الدهشة.

 

 

تصريح ديميتريو سبّات بالحب (1934)

لا أعلم كيف أتًيْتُ

إلى هذه الأراضي شديدة الاتّساع.

الأصوات أكثر وحدة،

والسماوات أكثر قلقًا.

 

لا يحدّها الأخضر؛ بل ينسكب ويؤلم.

يُضْمِرُ النهر، بعيدًا،

كلّ مقصد،

لكنّ الغابة لم تَعُدْ تُعْرَفُ بالأمل.

 

سُميَّة بلدي

أُحِبّ يديها الأصيلتين،

وقرابتها للمطر،

وعملها ظلًّا.

أراها تخرج وتدخل إلى النور

كملاءة أسطوريّة.

 

بالكاد أستطيع أن أَعِدَها

ببيت ذي مصابيح،

وخمس أبناء أصحّاء،

ومتجر ورجولات.

 

إنكّ يا سُمَيّة بلدي

وطني الثالث.

 

 

شارع التُرك؛
تصوّر خوليو ضمار (1936)

هناك، حيث الأنهار غيوم نباتيّة

وثمّة قوارب تحمل سكاكينًا

مُعَدّة للشرف والأضحيات.

 

أقمشة البوبلين؛ لطالما غطّى البوبلين

أمل المحاربين.

 

عالم آخر يولد في ياردات.

والسوداء الّتي ترى وجه العربيّ

تتذكّر عمًّا بعيدًا

بكى أيضًا

على الرمال الشديدة.

 

إنّنا نبني الشارع

ويمكن، أخيرًا، رؤية ضحكة اليوم.

وأمام الشمس

تمطر الوحدة بعمق

نحو الرجولات الجديدة.

 

لقد رأينا أوّل أرداف لامرأة من أهل البلاد،

كلون الجرار الطينيّة،

وشعر الجسد كزينة فاخرة.

العسل والتجاعيد.

 

بَدْوٌ، في النهاية، نضع الخيمة

نقدّم لهذه الأرض

صرخة الخيول الّتي في نفوسنا؛

طريقتنا للخلود.

 

 

حديث نفس إدواردو شعر (1964)

شيء يبقى يا نادية

من الأنوف الّتي منحتنا تربية الصقور

وسط إصرار هذه الجموع.

 

تَعَلَّمْنا اللغة الخشنة

ليس فقط لبيع الأقمشة

أو لنفسّر النهر،

وإنّما لنجد السلام الأخير

لهذه العظام المهشّمة.

 

لقد تعاهدنا على الحبّ مرّات كثيرة،

لكنّ أحدًا لم يَرَ

أنّنا كنّا نحمل القلب

مقبوضًا على رجاء لا يقال

والوجه محترقًا

بسموّ الهزيمة،

ما من أحد في مهاوي الغرباء

الّذين كانوا يشموّن أزهار الأوركيد

كأطفال حميميِّين.

 

نادية؛ إنّهم لا يعلمون

أنّ القهوة الّتي صببتِها

كانت مُداهَمَتُنا الأولى

لقلب الوطن الأخير.

 

آهٍ من الترحال الطويل!

كم جعل رجالًا،

وكم أحال ذكرى!

 


أحمد محسن

 

 

 

 

شاعر ومترجم مصريّ مقيم في كولومبيا.