الشعر الفلسطينيّ الجديد... حرّيّة أعمق

ريبيكا شابريون

 

لسنوات طويلة نجح الشعر الفلسطينيّ في أن يكون في واجهة الحركة الكتابيّة الجماليّة العربيّة؛ وهو ما جعله أحد أبرز روافد الحداثة الشعريّة العربيّة، منذ الستّينات إلى الآن. إنّ شعراء من قبيل محمود درويش، ومعين بسيسو، وسميح القاسم، وأحمد دحبور، حاضرون بقوّة في تاريخ الشعر العربيّ المعاصر؛ بحكم ما راكموه من تجارب شعريّة مهمّة تنهل من التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، الّتي ألمّت بالمشهد العربيّ منذ الستّينات؛ فجاءت بعض النصوص الشعريّة مضمّخة بالأيديولوجيا على حساب ما هو جماليّ، وهو ما انتبه إليه لاحقًا محمود درويش متحدّثًا عن «الشرط الجماليّ» الداخليّ، الّذي منه يتبلور نسيج النصّ ويبني شعريّته؛ انطلاقًا من أنطولوجيا الذات ومآزقها وخيباتها وتصدّعاتها.

وإن كانت مرحلة الثمانينات قد شهدت بعض تحوّلات داخل النصّ الشعريّ العربيّ، فإنّ الشعر الفلسطينيّ في ذلك الإبّان، لم يسلم هو الآخر من هذا التأثير في مستوى الانشغال بالبُعْد الجماليّ، حيث بدأت نصوص شعريّة تُطالِعُنا تُعْلي من الفرديّ على حساب الجماعيّ، والنصّ على حساب التاريخ، والذات بدل الواقع؛ فقد تجاوزت القديم الّذي ينظر إلى الشعر باعتباره سندًا سياسيًّا واجتماعيًّا؛ إذ غدت النصوص تنطلق من الذات وتنتهي داخلها.

هذا التحوّل الأنطولوجيّ في بناء النصّ الشعريّ سيتعزّز أكثر، وتكرّسه جملة تجارب شعريّة فلسطينيّة جديدة، مثلًا: فخري رطروط، وعلي مواسي، وأسماء عزايزة، وعلي قادري، وداليا طه، وفاتنة الغرّة، وغيرهم، من الانشغال بقهر السياسة وجُرْح التاريخ إلى المراهنة على البناء الداخليّ للنصّ الشعريّ وما يرتبط به من لغة وصورة وإيقاع. لقد أضحت الصورة الشعريّة أكثر تركيبًا، بل أشبه ببلّور متعدّد الأضلاع؛ حيث أنّ كلّ واحد يعكس واقعًا معيّنًا يغذّيه اهتمام مفرط بشعريّة اليوميّ والعابر والزائر والمنسيّ والمكبوت، في أجسادنا المنهكة على درب الحياة والفجيعة والألم.

تسافر مجلّة فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة بمعيّة كتّاب وشعراء داخل هذا التحوّل الشعريّ، الّذي طبع مسار النصّ الشعريّ الفلسطينيّ الجديد.

 

الهامشيّ الّذي في المكان

تغريد عبد العال

أحيا وأتحرّك داخل تجربتي، وهكذا ربّما أكتب، وإحساسي بالهويّة يتعدّد كلّ مرّة، وهذا الإحساس مختلف لو كان المرء فلسطينيًّا، ربّما لأنّك تشعر بأنّ وجودك بأكمله مهدّد باستمرار. الشعر – ربّما - هو هذا الوجود والعلاقة بكلّ شيء، المكان والهويّة جزء من هذا الوجود، لكن بالتأكيد الشعر في حدّ ذاته هويّة كما قال روبيرتو خواروث. بالطبع ما يربطني في هذا العالم هو «مَنْ أنا؟»، حيث وُلِدْت في مكان ملتبس وغريب، لكنّه جزء منّي، وهو «المخيّم»، وأحمل معي ذاكرة أجدادي عن المكان الحقيقيّ وهو فلسطين، الّتي طُرِدوا منها، وصارت لغة وجودي دون أن أذكرها، فرأيتها في المخيّم، وفي المدينة وفي كلّ مكان، لكن ثمّة أيضًا محاولة خلق حوار مع هذا المكان، واكتشاف الهامشيّ فيه الّذي هو ليس بالضرورة هامشيًّا، بل ربّما أساسيّ بالنسبة إليّ؛ إذ يصبح المألوف غير مألوف، كما قال حسين البرغوثي.

الآن، ربّما يختلف الأمر؛ حيث تصبح كلّ المشاعر الّتي أختبرها رحلة متخيّلة نحو فلسطين، بطريقة ربّما غير مباشرة ودون أن أنتبه. لا أستطيع أن أعطي حكمًا جاهزًا عمّا كُتِبَ في السابق واليوم، فالموضوعات تتداخل وتفترق؛ حيث التركيز على «الإنسانيّ» ربّما يضفي جماليّةً ما، لكن بالطبع حتّى الموضوعات الّتي تكون «سياسيّة»، إذا كانت خارجة من الذات، وتعكس رؤية الشاعر، فستكون جميلة ومختلفة. ليس ثمّة موضوع محدّد لما نكتبه، لكن بالطبع غادر «الشعر» في نصوص الكثيرين عالمًا كان محدودًا بالإيقاع والمجاز في أغلب الأحيان، لكن ثمّة استثناءات جميلة في الماضي، وإضافات وسّعت مساحات النظر إلى لغة واسعة وجغرافيا ملهمة، وحتّى جماليّات الإيقاع والمجاز، أيضًا كانت في وقت ما  «الحرّيّة» الّتي تتنفّسها اللغة والوطن الّذي سكنا فيه. لكن بالطبع ثمّة طرق ومفترقات ووعي بدأ يتشكّل عند كلّ إنسان فلسطينيّ بضرورة التغيير ذاتيًّا، والتجدّد والتطلّع نحو حرّيّة أعمق، وهذا أيضًا يتّضح في ما نكتبه.

تغريد عبد العال، شاعرة فلسطينيّة.

 

النصّ سيرورة تتحوّل عبر عمليّة الكتابة/ القراءة

عبد الله البيّاري

تبدأ مقاربة الشعر والأدب الفلسطينيّ من موقع أساسيّ في التعامل مع أيّ نصّ أدبيّ (سردًا وشعرًا)، ألا وهو أنّه لا وجود لنصّ جامد، لا يتغيّر، فكلّ نصّ سيرورة تتحوّل عبر عمليّة الكتابة/ القراءة، والقراءة والكتابة فعلان جسديّان وأيضًا مكانيّان بمعنى المحايثة والتحديد. يقول الناقد والأكاديميّ إيهاب حسن إنّ تلك الخواصّ منظورات متلازمة غير قابلة للفصل في مجتمعات ما بعد الحداثة. والسبب الرئيسيّ في ذلك ليس فقط السياق حيث يولد النصّ، بما هو – السياق - مجموعة تناقضات حادّة، كما هو بشأن الحالة الفلسطينيّة، لكن كذلك بنية اللغة بما هي المادّة الأساسيّة المشكّلة للجسد النصّيّ. واللغة لا تقف ثابتة في المعيش اليوميّ والمتخيّل والمقدّس على السواء، إنّما تتدفّق تغيّرًا وتشكّلًا بكلّ لحظة اشتباك مع كلّ هذا، بما أنّ للّغة أيضًا فضاءها الاجتماعيّ والتاريخيّ.

بالإشارة إلى الفضاء الاجتماعيّ والتاريخيّ، فهما فضاءات مكانيّة [جغرافيا] وزمانيّة [تاريخ]؛ وبالتالي عندما ننظر إلى السياق الاجتماعيّ، حيث تنتج وتتداول كلّ أشكال المخيال، نرى أنّ ثلاثيّةً ما وسمت النصّ الفلسطينيّ بما هو مبنًى لغويّ واجتماعيّ وتاريخيّ، وهي: الضحيّة – المقاومة – الفقدان المتكرّر (إسماعيل ناشف). وكلّما ارتحلنا أكثر من الضحيّة إلى الفقدان تكرّرت أنماط الفقدان، ليس بشكل أفقيّ متتابع، بقدر ما هي تكرارات رأسيّة تضاعف الفقدان المتكرّر أصلًا.

مع النكبة والانقطاع عن الجغرافيا والتاريخ العربيّين الفلسطينيّين، شكّل الأدب (سردًا وشعرًا) أهمّ أشكال الحيّز العامّ الفلسطينيّ، في مواجهة النظام الاستعماريّ، وبما أنّ اللغة بنية مادّيّة ومكانيّة (لوسركل) والأهمّ زمانيّة (هايدغر)، إلّا أنّ تناقضات السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ لدى الفلسطينيّين، على اختلاف مواقعهم، شهدت اشتباكًا مع البنية المحيطة، سواء داخل النظام الاستعماريّ الصهيونيّ، أو في سياق المنفى. وفي سياق أراضي 48، لم تَعُد العربيّة «ضحيّة» النظام الصهيونيّ، على كلّ ما لذلك من شواهد، بل باتت حاضرة في اشتباكها مع العبريّة، بما هي لغة يوميّ  معيش في سياق دولانيّ، له مكانيّته وزمانيّته.

لعلّ من هذه الإضاءة يمكننا فهم ما غفل عنه فيصل درّاج، مثلًا، أو غسّان كنفاني، في ما يتعلّق بالأدب الفلسطينيّ في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة منذ عام 1948، من حيث كيفيّة التفاعل مع النظام الاستعماريّ الصهيونيّ؛ فبينما قال درّاج إنّ الأدب الفلسطينيّ لم يَعُد كما نعرفه، وبات «شيئًا» آخر، اكتفى كنفاني، رغم فرادة طرحه بشأن نفس الموضوع، بالتطرّق إلى خطاب واحد ذي مضمون مباشر.

يُظْهِر التداخل في الحقل المؤسّساتيّ العامل في أراضي 48 مؤسّسات حزبيّة وأهليّة، ومطابع (الحكيم والاتّحاد وغيرهما)، وما ينتج عنها من ذائقة حسّيّة ومخيال قيميّ جماليّ، ومراوحة بين مخيالين لغويّين متناقضين ومتعاضدين في اليوميّ المعيش، وحركات الترجمة بين العربيّة والعبريّة.

يظلّ السؤال الحاضر في منطق اللغة، أين تبدأ الأنا الفلسطينيّة؟ وأين تنتهي؟

عبدالله البيّاري، كاتب وباحث فلسطينيّ.

 

 انقلاب على الشعر السياسيّ

علي قادري

إنّ التجربة الشعريّة المتأخّرة في فلسطين، في العقد الأخير، وما تشهده من انعطافة على مستوى تبدُّل  موضوعات وهواجس جماليّة جديدة بالثيمات الكبرى، هي وريثة المرحلة الشعريّة الممتدّة من الستّينات والسبعينات من القرن الماضي، وصولًا إلى آخر عهد الكبار في نهاية العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين. فلو قمنا بعمليّة مسح قصيرة لوجدنا «أدب المقاومة» بصفته مصطلحًا لاصق مختلف الأنواع الأدبيّة، والشعر في مركزه، قد قدّم تجارب محمود درويش، وسميح القاسم، وراشد حسين، وتوفيق زيّاد، ومعين بسيسو، وسالم جبران، وآخرين، وفي مرحلة متأخّرة قدّم شعراء كعزّ الدين المناصرة وطه محمّد علي وآخرين. برزت تجارب شعريّة فلسطينيّة في تسعينات القرن الماضي، مثّلت صدى الأصوات الكبيرة.

ما يتميّز في الروح الشعريّة الفلسطينيّة الجديدة، أنّها عبارة عن محاولة انقلاب كاملة على مجمل الشعر السياسيّ، وبتر العلاقة به، بوصفه الشعر الّذي لبس ثوب القضيّة الفلسطينيّة سياسيًّا ووطنيًّا، ولم يشتغل بالعناصر الفنّيّة والبنائيّة لمشاريع ومقترحات في عميق الشكل الفنّيّ وتطوّره. وفي اعتقادي فإنّ مجموعات محمود درويش الأخيرة، قد أرست الدعائم الأولى لهذه التحوّلات الّتي نشهدها في الحساسيّة الشعريّة في فلسطين اليوم، بتبئيره للذات نقطةَ ارتكاز ومُعادِلًا موازيًا لفكرة الجماعة؛ لأنّه من الأجدى أن تحمل الذات الفرديّة همومها اليوميّة، جزءًا لا ينقطع ولا ينفصل عن هموم الجماعة الكبرى.

لقد فهم جيل الشعراء الجدد هذا المُعادِل في اعتقادي فهمًا عميقًا؛ لأنّنا بتنا نشهد حساسيّة شعريّة متمرّدة ورافضة لنسخ الأنساق الفنّيّة المألوفة وتكرارها، وأصبح لكلّ شاعر ضالّته وتعريفه الخاصّ للشعر فنًّا، عليه أن يعود إلى إنتاج أصوات الجماعة وأصوات الأفراد على حدة، حتّى في سياق الصراع السياسيّ والتاريخيّ مع الحركة الصهيونيّة. ولا يفاجئني زخم الإنتاج الشعريّ في فلسطين؛ لأنّني أراقب التجارب الشعريّة، وألاحظ العلاقة المتوتّرة الّتي تميّز معظم الأصوات الشعريّة، الّتي تصل حدود الصدام مع الشكل، والتمرّد عليه بالكامل، وصولًا إلى معالجة الثيمات، وإعادة إنتاج لغة شعريّة جديدة، واللغة بهذا المعنى، ليست تعبيرًا عن أبعادها الهويّاتيّة فقط، بل حين يتحوّل الاشتغال بها إلى إعادة إنتاج العلاقة بينها و

+لتفكير من خلالها، حتّى تبلغ أن تتحوّل من خلال المادّة الشعريّة إلى أداة تبصّريّة، تنحو نحو آفاق مغايرة ومختلفة؛ لتقول شيئًا جديدًا بجماليّات شكليّة مغايرة.

علي قادري، شاعر فلسطينيّ ومختصّ في النقد الأدبيّ المعاصر.

 


أشرف الحسّاني

 

 

 

 

ناقد فنّيّ مغربيّ، يكتب المقالة الثقافيّة في عدد من المنابر العربيّة. صدر له كتاب بعنوان "سرديّة التاريخ: كتابات في اللّغة والصورة والحداثة".