«بيت للسيّد بيسواس»: نايبول راويًا معاناة الشعوب ما بعد الكولونياليّة

NAXOS

 

تُعَدّ رواية «بيت للسيّد بيسواس» (الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2010)، للروائيّ البريطانيّ الهنديّ الأصل، المولود في ترينيداد الكاريبيّة ف. س. نايبول، والحائز على «جائزة نوبل للآداب» لعام 2001، بترجمة بديعة من الدكتور مصطفى ماهر، في نحو 600 صفحة، واحدة من أهمّ روايات القرن العشرين الّتي أطلقت الكاتب في فضاء الرواية والأدب العالميّين.

تتمحور الرواية، كبقيّة أعمال نايبول الروائيّة، حول الأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي عصفت بجزيرة ترينيداد بعد جلاء الاستعمار البريطانيّ، محاولًا تعرية الطبقات المقهورة في المجتمع الترينيداديّ، مازجًا الواقعيّة القذرة بالواقعيّة السحريّة، والسخرية بالحزن، بنفس ملحميّ، وطابع تجديديّ، وتُعَدّ أعمال نايبول الروائيّة ضمن الأدب والفكر لنزعة ما بعد الكولونياليّة.

 

الخطّ الحكائيّ

تدور رواية «بيت للسيّد بيسواس» حول شخصيّة موهان بيسواس، الّذي وُلِدَ ملعونًا ومنبوذًا في عائلة مهاجرة من الهند، غير مُرَحَّبٍ به بين سكّان جزيرة ترينيداد الكاريبيّة؛ إذ تنبّأ العرّافون الهنود بأنّ الطفل سيكون سببًا في مقتل أبيه، ودمار عائلته وتشرّدها. وذلك ما حدث، حين مات أبوه في طفولته المبكّرة؛ ما اضطرّ الأمّ إلى اللجوء مع أولادها إلى بيت أختهم الكبرى. بقيت العائلة ترزح تحت الفقر، حتّى أصبح موهان شابًّا؛ فقرّر الرحيل بحثًا عن رزقه، وبمساعدة أحد الأصدقاء، دخل في مجال كتابة اليافطات.

تدور رواية «بيت للسيّد بيسواس» حول شخصيّة موهان بيسواس، الّذي وُلِدَ ملعونًا ومنبوذًا في عائلة مهاجرة من الهند، غير مُرَحَّبٍ به بين سكّان جزيرة ترينيداد الكاريبيّة...

وذات يوم، في أثناء عمله في بيت عائلة ثريّة، غازل إحدى بناتها، وهذا الغزل اعتبرته أسرتها طلب زواج، فيجد موهان نفسه جزءًا من هذه الأسرة القويّة. بذلك؛ تبدأ محاولاته في التحرّر من تحكّم أسرة زوجته وهيمنتها، بالبحث الدائم عن وظيفة وبيت مستقلّين. عمله في الصحافة، وخاصّة كتابة المقالات، مثّل منعطفًا مهمًّا في حياته؛ إذ نجح وأصبح صحافيًّا مشهورًا، إلّا أنّه ظلّ يبحث عن بيته الخاصّ، الّذي حصل عليه في النهاية.

 

الحلم ببيت خاصّ/ الطموح في بلد مستقلّ

أصبح البيت هاجس موهان، شغل ذهنه وحياته، إلى درجة أنّه ما عاد يفكّر في شيء غيره. كأنّ البيت، هنا، رمز إلى ما هو أبعد وأعمق، ليس مجرّد بناء أو مكان للتباهي الاجتماعيّ، وعلاوة على أنّه ضرورة، في بلد يعاني من الفقر والجهل في زمن ما بعد الكولونياليّة. البيت حلم المضطهد بالخلاص والحرّيّة والاستقلال؛ إذ تتمحور حوله مفاصل حياته. يريد السيّد بيسواس بيتًا لنفسه، بعيدًا عن عسف أسرة زوجته المتنفّذة؛ ما جعله يعيش متشرّدًا طوال خمسة وثلاثين عامًا.

ثمّة رغبة خفيّة داخل كلّ واحد منّا في تأسيس بيت، مكان آمن نحتمي بجدرانه، نؤثّثه كما نحبّ، نختار تفاصيله وألوانه. وممّا لا شكّ فيه أنّ المكان الّذي نحلم بالعيش فيه، يسكن تفكيرنا ويأسر خيالنا، والمكان الّذي يشغلنا إلى هذه الدرجة، يرتقي فوق أبعاده المادّيّة، إلى هندسة الأرواح وتشكيل الحيوات؛ إذ نحمّله مشاعرنا وطموحاتنا الأثيرة.

البطل، في الرواية، هو البيت؛ المكان في المقام الأوّل، أمّا الشخصيّات فنجدها تدور حوله بقصصها، ونلاحظ ذلك من العنوان. ترصد الرواية أحوال سكّان جزيرة ترينيداد بعد زوال الاستعمار، ونيلها لاستقلال لم يحمل لها السعادة أو مقوّمات عيش كريم؛ إذ بقيت تابعة لدولة الاستعمار، حالمة ببيت/ دولة حرّة.

البيت يشير برمزيّة عالية إلى انبثاق ما بعد كولونياليّ؛ إذ يحوز الشعب الترينيداديّ على حصّته من الأرض، كما يحوز بطل الرواية، بيسواس، على حصّته، ولكن كيف شكّل البيت الّذي يحوزه؟ ويأتي الجواب في نهاية المطاف، حين يملك بيسواس بيتًا رديئًا فاحش الثمن.

 

معاناة الشعوب

صحيح أنّ الإمبراطوريّات الأوروبّيّة انهارت وانسحبت عسكريًّا من مستعمراتها المنتشرة في قارّات العالم، إلّا أنّ الشعوب الّتي استعمرتها تعرّضت لعمليّة استلاب ممنهجة، فظلّت أسيرة المستعمِر ثقافيًّا ومعرفيًّا، تعرّضت هويّتها لخطر المحو، وثقافتها للتهميش، وإرادتها للتدمير، وكينونتها للتفكّك؛ بتأثير القهر الاستعماريّ، الّذي فتك بهذه الشعوب لفترات طويلة، ولم تتحرّر نهائيًّا من تبعات الاستعمار وما ترتّب عليه؛ إذ سلّمت أسواقها لشركاته.

تمظهرت في الرواية شخصيّات مأزومة، مقهورة، تصارع لإثبات ذواتها، من الجيل الجديد من أبناء السكّان الأصليّين للمستعمرات، تجابه باستماتة مشاعر الهلع في عالم موحش مغلق...

من هنا، تمظهرت في الرواية شخصيّات مأزومة، مقهورة، تصارع لإثبات ذواتها، من الجيل الجديد من أبناء السكّان الأصليّين للمستعمرات، تجابه باستماتة مشاعر الهلع في عالم موحش مغلق.

يصف نايبول تردّي أوضاع الطبقات الاجتماعيّة المقهورة بعد جلاء الاستعمار البريطانيّ، الّذي تركها تتخبّط في أزمات ثقافيّة واقتصاديّة. إنّ حياة أهالي ترينيداد، من عمّال وحرفيّين وفلّاحين وتجّار صغار، كانت موضوع روايته، بما فيها من بؤس وعنف وقسوة، مع التركيز على تفاصيل حياة المهاجرين الهنود المنتمين إلى طائفة «البراهما»، وفضح زعماء الطائفة وزيف ممارساتهم الدينيّة، الّتي تهدف إلى استغلال المساكين وسرقتهم، كلّ ذلك عبر لغة حزينة شفّافة، ونبرة هادئة، وحساسيّة عالية بقدرتها على التقاط التفاصيل والمواقف الّتي تهيمن عليها الفوضى.

هذه الشخصيّات، تسعى دائمًا إلى إثبات قيمتها الإنسانيّة، ومكانتها في العالم، لنفسها أوّلًا؛ إذ تعاني وتصارع من أجل استقلالها، والشعور بأهمّيّتها.

 

الانبثاق ما بعد الكولونياليّ

سعت الرواية الحديثة إلى الحرث في «أرضٍ بكر»؛ فحاول الروائيّون الحداثيّون الأوائل التجريب في الأشكال الروائيّة، من حيث السرد والوصف وبناء الشخوص، إلّا أنّ الأعمال الروائيّة ظلّت محافظة على أنماطها ومناخاتها القديمة، أمّا الروايات المتأخّرة الّتي كتبها روائيّون عاشوا في مجتمعاتهم، بعد جلاء الاستعمار، فقد كانت متشبّعة بثقافة مغايرة؛ فجاءت بأنماط كتابيّة جديدة، غير مفتعلة، منبثقة من رحم التغييرات الّتي أحدثها الاستعمار؛ وهو ما دفع الروائيّين نحو تغييرات ثوريّة في الكتابة، لم يكن للأدب عهد بها.

هذه الروايات الّتي انبثقت بعد جلاء الاستعمار، شكّلت طفرة في الرواية الحديثة، وصارت توسَم في العقود اللاحقة بـ «الأدب ما بعد الكولونياليّ»، سعى الكتّاب من خلالها إلى زعزعة الأساطير الكولونياليّة حول المستعمرات، ومغامرات الرجل الأبيض، والحواجز بين الثقافات.

هذه الروايات الّتي انبثقت بعد جلاء الاستعمار، شكّلت طفرة في الرواية الحديثة، وصارت توسَم في العقود اللاحقة بـ «الأدب ما بعد الكولونياليّ»...

في الرواية، يبدي بيسواس رغبته في أن يصبح كاتبًا، حين يشتري بما يملكه من مال آلة كاتبة، ثمّ التحاقه بورشات لتعليم كتابة القصّة القصيرة، ورغم محاولاته الفاشلة، إلّا أنّه لا ييأس، ويواصل الكتابة الصحافيّة الّتي يحقّق فيها نجاحًا كبيرًا. يحاول بيسواس أن يحكي حكايته، من وجهة نظره، هو الّذي وقع عليه نير الاستعمار، لا مغامرة/ حكاية الرجل الأبيض؛ فتغدو الكتابة فعلًا خلاصيًّا، وتأكيدًا للهويّة، وإثباتًا للذات، وحكاية مضادّة لحكاية الآخر «المستعمِر».

 


 

محمّد جبعيتي

 

 

 

كاتب من فلسطين، حاصل على الماجستير في الأدب العربيّ، يعمل في مجالي التعليم والصحافة. ممّا صدر له: «غاسل صحون يقرأ شوبنهاور» (دار الآداب)، و«عالم 9» (دار الآداب).