لا أحد ينظر إلى ظهره في المرآة

إيريكا لايتون

 

ورثت سمرة جسدي النحيل الّذي أسكنه عن أمّي، كما ورثت عنها القلق المعجون بخوف مستمرّ. وعن أبي ورثت كثافة شعره وتجعّده، كما إقباله على الحياة. بقيت بين هذين النقيضين؛ الخوف والإقبال، في كرّ وفرّ أحاول الموازنة بينهما، كلاعب السيرك الّذي يمشي على الحبل. لم أكن أعرف، قبل ذلك اليوم، أنّ شعيرات صغيرة كانت تنام على سمرة ظهري.

لا أحد ينظر إلى ظهره في المرآة،

 ليس في السابعة من العمر على الأقلّ.

بقي أثر ذلك النهار مدفونًا في داخلي، وكأنّه شوكة انغرزت ولم أقوَ على سحبها من تحت جلدي، فالتحم فوقها.

أذكر جسدي العاري إلّا من سروالي، وأنا أتمدّد على السرير البارد الّذي كان يغطّيه شرشف رماديّ، تغيّره الممرّضة كلّما تغيّر مريض. لا أدري لماذا شغلني لونه الباهت، ربّما لأنّه كان على النقيض من سروالي الأبيض الفضفاض الّذي توزّعت فوقه رسومات ملوّنة لفراشات أو لأشكال تريد أن تكونها. رأيتني أحلّق فوق الجميع خارج ذلك الجسد الأسمر، كالفراشات كنت أحلّق فوقه، كنت أراني أنا الّتي تحلّق فوق جسدي، وأنا الأخرى المحشورة داخله، وكنّا جميعًا ننتظر الطبيب، أنا وأمّي والممرّضة.

كانت أمّي تقف على يسار السرير وقد تقوّس ظهرها، كأنّه لم يعد يستقيم بسبب الحِمل الّذي كان على كتفيها؛ فبدا جسدها في شكله أقرب إلى علامة السؤال في انحناءتها. كلّ شيء من حولي كان أبيض، إلّا وجه أمّي الّذي لبسته سمرة جوزيّة اللون ناعمة ونضرة. أمّا الممرّضة فكانت تقف على يميني وبدت مرتاحة في وقفة ظهرها المستقيمة كالمسطرة. كان وجهها مستديرًا ونضر البياض، كقرص جبن طريّ. أمّا زرقة عينيها فكانت صافية، كمياه عذبة.

كنت قد دخلت مستشفى «بلنسون» في بيتح تكفا، أو كما نسمّيها نحن «ملبس»، لأوّل مرّة قبل سنتين بسبب حصاة في الكلية، وبقيت هناك قرابة الأسبوع أهلوس لارتفاع شديد في حرارة جسدي، إلى درجة تيبّست فيها شفتاي وسكنهما الألم، وبدا لي كأنّه لن يرحل أبدًا. شعرت كأنّ دمي يغلي ويتحرّك داخل جسدي كموج هائج محبوس يتلاطم ويزيده إنهاكًا. وكلّما زاد تدفّقه زادت نوبات التعب والغيبوبة الّتي كنت أسقط بها. أذكر تلك الليلة الّتي رأيت فيها القلق يملأ عينَي أمّي البنّيّتين فاتّسعتا، وأصبح وجهها عينين. أمّي تقول إنّ حرارتي فاقت الأربعين في تلك الليلة الّتي قضتها إلى جانبي في المستشفى، فهرعت بي الممرّضة إلى حوض ملأته بماء بارد، ووضعوني فيه لبعض الوقت. أذكر لحظة أنزلوني إلى الماء البارد. أذكرها بوضوح شديد، كان جسدي كحديد ساخن طشّه الماء وغمره. لا أدري لماذا لم يعطوني واحدًا من تلك الأدوية الّتي تخفّض حرارة الجسد. ربّما لمّا تكن شركات الأدوية قد اخترعتها بعد في ثمانينات القرن الماضي، أو لعلّها لم تكن تنفع معي، أو ربّما لأنّني كنت بعد في سنّ صغيرة، لكن يبدو أنّ جسدي النحيل كان أقوى ممّا اعتقدت، فخرجت الحصاة منه دون عمليّة، وتفتّتت بالدواء، أو هكذا قيل لي.

بعد تلك الحادثة، أصبحت أمّي تأخذني مرّة في السنة إلى المستشفى لإجراء الفحوصات، نعود بعدها في اليوم نفسه إلى بلدتي. كان المستشفى يبعد عن بلدتي مسافة عشرين بلدة صغيرة وحقولًا واسعة، نقطعها أنا وأمّي بركوب حافلتين. أمّا الزمن فكنت أقيسه بقطع عقرب الساعة، القصير الخطى وثقيلها، لدورتين كاملتين قبل أن نصل إلى المستشفى.

كنت أجلس هناك أستمع إلى كلمات أمّي تخرج بعبريّة متلعثمة، تطيل الحديث مع الممرّضة ثمّ تنتقل بسرعة إلى موضوع آخر إذا شعرت أنّ مسافة صمت ستفترش المحادثة العابرة. لم تكن العبريّة قد جلست بارتياح على لساني حيث لمّا أقطع السنوات السبع بعد. كنت أتقن بعض جملها، وعلاقتي بها أصبحت مع مرور الوقت معقّدة في أحسن الأحوال، على الرغم من إتقاني لها. وكأنّ غربالًا سميكًا قديم الخيوط يقف بيني وبين تلك اللغة فتتوه الكثير من التفاصيل بتكهّن المعاني الّتي علقت على خيوطه.

كانت الممرّضة كثيرة الابتسام، أثنت على شعري الطويل وجديلتي. ابتسمت أمّي لذلك، خاصّة أنّها كانت تعاني الأمرّين من تمشيط شعري المجعّد في محاولة لجعله أملس كشعر الشقراوات والمشقِّرات لشعورهنّ. لا أدري لماذا ارتبطت هذه الصورة بأخرى، ليوم مشمس تركت فيه شعري المجعّد يجاري الريح، وغمرني شعور من السعادة لأنّني بدأت أتركه على طبيعته.

بعد طول انتظار، دخل الطبيب إلى الغرفة، أبيض البشرة كبياض اللفت. كان أشكنازيّ اللسان يلفظ حرف الراء غاء والعين ألف في العبريّة. كان مستعجلًا كعادة كلّ الأطبّاء الّذين عرفتهم أو أغلبهم. تفحّص رأسي وبطني ورجليّ. وشعرت وهو يقلّب جسدي كأنّني حبّة بندورة يقلّبها زبون على عجل أو دمية يتناولها طفل ويتفحّصها بملل أكبر. ثمّ طلب منّي أن أجلس ليفحص ظهري. لكنّه توقّف فجأة عند ظهري. ثمّ مرّر يده فوقه وبرطم شيئًا، بتلك اللغة الّتي بيني وبينها غربال، لم أفهمه وخرج بسرعة. شعرت ببرد شديد جاء من جهة الباب الّذي ترك نصفه مفتوحًا فاقشعرّ جسدي وتبثّرت مساماته.

 وما إن انطفأت القشعريرة الّتي ارتسمت فوق جسدي وإذا به واقفًا مجدّدًا أمامي مع طبيب آخر وجهه شاحب البياض. تفحّصا ظهري مجدّدًا. كانت ثماني عيون تنظر إلى ظهري الّذي لم أستطع أن أنظر إليه حتّى وأنا خارج جسدي، أبحلق بجسدي الممدّد على السرير وبها ينظرون إلى ظهري الّذي تغطّيه رؤوسهم. ثمّ قهقه الطبيبان وبرطما شيئًا لم أفهمه. نظرت إلى وجه أمّي فلاحظت أنّ سمرته شحبت. ثمّ رأيت شفتيه المرتبكتين تستعجلان لارتداء ابتسامة مُحْرِجِة. أمّا الممرّضة اللطيفة فضاعت ابتسامتها وسط احتقان وجهها بالاحمرار. لم أفهم ما الّذي يحدث لكن أدركت أنّ شيئًا ما لم يكن على ما يرام. كنت ما زلت أحلّق فوق الجميع وهم ينظرون إلى جسدي ويتفحّصون ظهري. خرج الطبيبان وظلّ صدى تلك القهقهات عالقًا في الجوّ من حولنا.

ساعدتني أمّي على ارتداء ملابسي، وخرجنا متوجّهين إلى محطّة الباص وهي تقبض على يدي بقوّة وكأنّها تخشى أن أفلت منها. كان الجوّ حارًّا والظهيرة شديدة الصفرة، فاحتمينا بظلّ العمارات الّتي امتدّت على طول الطريق. قطعنا الطريق والصمت ثالثنا إلى أن وصلنا المحطّة. وركبنا الحافلة على عجل.

- ما الّذي قاله الطبيب؟

سألت أمّي وأنا أنظر إلى الخارج الّذي بدا متّسخًا من خلف زجاج نافذة الحافلة. احتلّت مؤخّرتي الصغيرة النصف الأماميّ من مقعد الحافلة. ثمّ بدأت أحرّك ساقيّ بشكل فوضويّ في محاولة لشغر المسافة الفارغة بين سؤالي وجوابها. ألقيت بثقل رأسي على زجاج الحافلة وأنا أنتظر جوابها دون أن أنظر إليها. كانت ما تزال صامتة وكأنّ لسانها ضلّ طريقه داخل فمها. شعرت وكأنّ جسدي أصبح أذنًا واحدة ووحيدة ألقيتها تجاهها كي أسمع كلّ نفس وتفصيل في جوابها. سمعتها تسحب كلّ الهواء الّذي حولنا وتحشره في رئتيها قبل أن تطلق تنهيدة طويلة.

- قال إنّه لم ير بنتًا ‘شَعورَة‘ مثلك من قبل...

ثمّ سكتت وكأنّ قلبها لم يطاوعها على أن تكمل النصف الآخر من الجملة. شعرت أنّ أذني تكبر لأنّها لم تفهم ما تقوله والدتي. وكأنّ ذبذبات صوتها حبال انقطعت قبل وصول معناها.

- يلعن أبوه ويلعن فشته...

أدركت من هذه الشتيمة، الّتي تستخدمها عادة عندما يكون الغضب قد التهم قلبها، أنّ حدسي كان في محلّه وأنّه قال شيئًا سيّئًا. ثمّ قلت بكلمات بالكاد خرجت من فمي ولا أعتقد أنّها سمعتها... "أنا مش شعورة"... وصمتّ.

 

- "كالقرود ظهرك يكسوه الشعر"، هكذا قال. سمّاك "قردة صغيرة"، وأتى بالطبيب الآخر ليتفرّج على ظهرك. قردة صغيرة... قردة صغيرة... ابن الكلب.

ثمّ تعثّر لسانها وعضّت على شفتيها وسكتت، وكأنّها كانت تحبس حزنًا مقهورًا داخلها فخافت أن أراه فأغلقت فمها وحبست دمعها. لعلّها شعرت بقهر لأنّها لم تقل شيئًا، وبلعت لسانها عندما أتى بطبيب آخر يتفرّج على ظهري وقال إنّني كالقردة.

عضّني الحزن كذئب وشعرت كأنّه قضم قطعة من قلبي الصغير. تنمّل لساني وثقل. ولا أدري لماذا علقت في ذهني ضحكته هو والطبيب الآخر الّذي جاء به لينظر إلى ظهري. لم أقل شيئًا. سكتنا أنا وأمّي طوال بقيّة الطريق، لم ينظر أيٌّ منّا إلى الآخر، وكنّا ننظر إلى الدنيا المتّسخة من خلف زجاج الحافلة. وشعرت بثقل ظهري، ظهر القردة، الّتي كنتها دونما أدري. وبقيت أنظر إلى الدنيا المتّسخة من خلف زجاج الحافلة.

عندما عدت إلى البيت ذهبت مباشرة إلى غرفة والديّ، وفتحت أحد أبواب خزانة الملابس الضخمة الّتي كانت تجمع ملابس العائلة كلّها. كانت هناك مرآة طويلة معلّقة على باب الخزانة من الداخل. ثمّ طلبت من أخي أن يأتي بالمرآة الصغيرة من الحمّام ويمسكها لكي أرى ظهر القردة الّتي كنتها دون أن أدري. كان الشعر ناعمًا بالكاد تمكن رؤيته. أخي قال إنّ نساء الأشكناز اللواتي يعرفهنّ الطبيب يلبسن جلدًا أبيض كالحليب لا شعر عليه. نظرت إلى ظهري الأسمر الّذي رأيته لأوّل مرّة، فلا أحد ينظر إلى ظهره بالمرآة، ليس في سنّ السابعة. ثقل ظهري وبدأت منذ ذلك اليوم بحمله وأنا متّكئة على ظهر قردة كنتها دون أن أدري.

 

* من مجموعة قصصيّة للكاتبة لمّا تصدر بعد.

 


 

ابتسام عازم

 

 

 

ابتسام عازم: روائيّة وصحافيّة من مواليد طيّبة بني صعب، تقيم حاليًّا في نيويورك. صدرت لها بالعربيّة روايتان «سارق النوم: غريب حيفاوي» (2011) و«سفر الاختفاء»  (2014) عن «دار الجمل» (بيروت/ بغداد).