«مديح لنساء العائلة»... ارتباك الحبكة وتيه القارئ

غلاف رواية «مديح لنساء العائلة»

 

يقول المسرحيّ الألمانيّ بريخت: "مَنْ لم يكن واقعيًّا خارج الكتابة، لا يكون واقعيًّا داخلها". إن أردنا العثور على هذه الواقعيّة، فلا شكّ في أنّنا سنجدها قويّة الحضور لدى الكاتب والأديب المقدسيّ محمود شقير، الّذي قدّم الكثير في جنس القصّة القصيرة بداية، ومن ثَمّ الرواية، فكان العديد من أعماله الروائيّة الواقعيّة مقدّمًا لمدينة القدس، وكذا الأمر العائلة الفلسطينيّة الممتدّة بشكل عامّ، والبدويّة بشكل خاصّ، والأخيرة لربّما لأنّ أصول الرجل عائدة إلى هذه الشريحة من المجتمع؛ ليشعر القارئ، كلّما قرأ جديدًا روائيًّا له، بأنّه يقرأ جزءًا من سيرته الشخصيّة.

سأقدّم في هذه المقالة قراءة في رواية «مديح لنساء العائلة» (دار هاشيت أنطوان، 2015) لمحمود شقير، الّتي وصلت إلى القائمة القصيرة «للبوكر» العربيّة عام 2016، متناولًا عددًا من المحاور، ما بين الشكل والمضمون: الواقعيّة الّتي أشرنا إليها قبلًا، وهو محور أساسيّ في كتابة شقير، وإشكاليّات الحبكة الروائيّة المقدّمة في الرواية، ومهمّة التأريخ الّذي يقوم به الكاتب على ضوء تجربته الإبداعيّة.

 

التشتّت والارتباك

تدور أحداث الرواية حول عشيرة بدويّة تعرّضت لتحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة عميقة، أفقدتها مكانتها وسطوتها من جهة، وشتّتت جمعها من جهة ثانية، حالها حال العديد من العائلات الفلسطينيّة ما بين العقدين الثالث والسابع من القرن العشرين.

الواقع الّذي يتناوله الكاتب، يشي بالتحوّلات العميقة الّتي تعرّضت إليها البنى الاجتماعيّة المستهدفة من قِبَل الاستعمار في المنطقة، حيث كان - ولا يزال - الهدف الواضح والجليّ، يذهب باتّجاه الوصول إلى حالة من التشظّي والتشرذم...

ويتلخّص الحدث الروائيّ فيها، في تكليف شيخ العشير ’منّان العبداللات‘، أحد أبنائه المكنّى ’محمّد الأصغر‘؛ تمييزًا عن أخويه اللذين يحملان الاسم الأوّل نفسه، أحدهما بلقب ’الكبير‘ والثاني بلقب ’الصغير‘؛ تكليفه بأن يجمع شتات العائلة، ويحمي نساءها، وأن يقوم بأعمال ترفع اسم عشيرة العبداللات الّتي اتّسعت وتشعّبت وتناثر أبناؤها في كلّ مكان. وعلى الرغم من قبول ’محمّد الأصغر‘، الموظّف البسيط في المحكمة الشرعيّة، بهذه المهمّة، إلّا أنّه فشل في تحقيق أيّ هدف منها، في ظلّ ما تعرّضت له البنى الاجتماعيّة في فلسطين من هجمة شرسة استهدفت موروثه وتقاليده وتاريخه؛ بغية تفكيك المجتمع من قواعده الأساسيّة.  

تقدّم الرواية حال العائلة الفلسطينيّة المرتبكة، وهي تتعرّض لأمرين في غاية الحساسيّة والخطورة: أمر التحوّل الاجتماعيّ الجذريّ من البداوة إلى المدنيّة، وهو أمر لم تشهده البادية الفلسطينيّة فحسب، ولكن شهده العديد من الجغرافيّات المجاورة. والأمر الآخر هو ارتباك المجتمع في ظلّ تبدّل السلطات الحاكمة للمكان، بداية من الحكم العثمانيّ، مرورًا بالاستعمار البريطانيّ والحكم الملكيّ، وصولًا إلى استعمار إحلاليّ صهيونيّ.

هذا الواقع الّذي يتناوله الكاتب، يشي بالتحوّلات العميقة الّتي تعرّضت إليها البنى الاجتماعيّة المستهدفة من قِبَل الاستعمار في المنطقة، حيث كان - ولا يزال - الهدف الواضح والجليّ، يذهب باتّجاه الوصول إلى حالة من التشظّي والتشرذم بشكل تعسّفيّ، يسلب الحقوق ويشتّت الجمع على نحو لا يدع مجالًا لتماسك هذه البنى الاجتماعيّة القائمة في هذه البقعة أو تلك، بصرف النظر عن مكوّنات تركيبتها الطبقيّة.

ولنا أن نلحظ تشتّت الانتماءات الفكريّة لعديد شخوص الرواية، فهذا يتمسّك بالحكم الملكيّ، وذاك ينظّر للشيوعيّة بوصفها الطريق الأمثل، وثالث يتقوقع حول المنطق العقائديّ في تعاطيه مع أفراد عائلته وعشيرته، ورابع تائه بين هذا وذاك، وهو ما نسمعه بشكل واضح وصريح بأصوات عدد من شخوص الرواية، كما هو ‘محمّد الكبير‘، و‘محمّد الصغير‘، و‘فليحان‘، الشخصيّة المحوريّة الأهمّ في هذه السرديّة.

 

سلبيّة المرأة وتيه القارئ

حينما نتحدّث عن رواية من المفترض أنّها تنتصر للمرأة، نجد أنّ غالبيّة النماذج النسائيّة المقدّمة سلبيّة، أو غير مناصرة للمرأة، فنجد أنّ الشخصيّة النسائيّة الرئيسيّة في العمل، ’وضحا‘، ترى النار أنثى، والحسد ينطلق من الأنثى، وكذلك الغيرة والنميمة والعتمة، فنقرأها تقول: " أنا أعرف أنّ النار أنثى، وأنا لا أحبّها ولا أكرهها، لكنّني أظلّ في خشية منها لأنّها لا أمان لها، مع أنّها تعطينا الدفء وقضاء أمور لا يمكن تجاهلها" (ص 60). في ما لم يأخذ صوت مريم، زوجة الابن ‘محمّد الكبير‘، المساحة المستحقّة، وهي الشخصيّة النسائيّة الّتي تمثّل النموذج الإيجابيّ الوحيد لربّما في الرواية؛ وهو ما يطرح علينا سؤال العنوان ومدى ارتباطه بالمضمون أو الحكاية موضوع السرد، خاصّة أنّ الحبكة بمثل هذا المحمول، إنّما تزيح مفعول الرؤية الكامنة في العنوان.

ميزة تعدّد أصوات الرواة الّتي اتّكأ عليها شقير، وبدلًا من توسيع المساحة النصّيّة لتخليق حالة من التشويق والإثارة والتخييل، أظنّ أنّها أربكت القارئ...

على الرغم من اقتراح شخصيّة العمل الرئيسيّة ’محمّد الأصغر‘ على أبيه، تضمين شجرة العائلة أسماء نسائها، وهي الإشارة الأكثر وضوحًا، إن لم تكن الوحيدة، ارتباطًا بالعنوان، غير أنّ ميزة تعدّد أصوات الرواة الّتي اتّكأ عليها شقير، وبدلًا من توسيع المساحة النصّيّة لتخليق حالة من التشويق والإثارة والتخييل، أظنّ أنّها أربكت القارئ، خاصّة أنّ أسماء شخوص العمل فيها من التشابه ما يزيد من هذا الإرباك إلى حدّ القطع مع تسلسل الأحداث، فهذا ’فليحان ابن مثيلة’ أخو ’محمّد ابن وضحا’ زوجة ’منّان ابن صبحا’، و’أبو محمّد الصغير’ و’محمّد الأصغر’ ابنا ضرّتيها ‘وصفيّة’ و’سميحة’، وهكذا تداخلت أصوات الرواة، فتاهَ القارئ. وذلك فضلًا على تفرّع السرد إلى قضايا جانبيّة وتفصيليّة، غيّبت من حضور الحدث موضوع العمل، الّذي من المفترض أن يشكّل الإطار العامّ أو بؤرة الحكاية لكلّ التفاصيل اللاحقة أو الفرعيّة، وهو بالأساس ليس حدثًا ذا شأن عظيم يمكنه أن يشكّل محمولًا لعمل روائيّ.

 

يُحْسَب للرواية

يُحْسَب للكاتب أنّه نجح إلى حدّ بعيد في خروجه عن نمطيّة المعالجة الفلسطينيّة لهذه المساحة التاريخيّة، الممتدّة منذ ما قبل النكبة ومرورًا بالنكسة، وصولًا إلى ما بعد الخروج من بيروت، مقدّمًا صورة واضحة، وربّما مؤلمة، عن حال التشظّي السياسيّ والاجتماعيّ جرّاء غياب الوعي الكافي للمجابهة. فضلًا على ممارسة فعل النقد الاجتماعيّ لعديد الظواهر، بداية من تشوّهات النظام العشائريّ، وتعريجًا على العادات والتقاليد البالية، وتوقّفًا أمام مشاكل الحركة الوطنيّة ومنظومتها الفكريّة الحزبيّة.

يبدو هذا العمل متأثّرًا من خبرة شقير الطويلة في مهنة الصحافة، فجاء تحقيبها التاريخيّ بأسلوب السهل الممتنع، بالاستناد إلى عنصر التدوين؛ ليؤدّي دورًا مهمًّا في هذه السرديّة، باعتبار المدوّن مؤرّخًا بارعًا في رصد التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة لهذا المجتمع أو ذاك، فكيف وحال المدوّن هنا يجتهد لتأريخ حالة شعب تعرّض - ولا يزال – إلى عمليّة محو شملت، في ما شملت، كلّ عناصر التاريخ بما فيه التاريخ الشفويّ، وهو ما جابهته هذه السرديّة بيقظة واضحة، ووعي لافت؛ وهذا ما يدفعنا إلى القول: إنّ رواية «مديح لنساء العائلة» لمحمود شقير نجحت فعلًا في رصد التحوّلات، لكنّها لم تحقّق تحبيكًا سرديًّا خلّاقًا.

 


 

أحمد زكارنة

 

 

كاتب وإعلاميّ فلسطينيّ، يعمل مذيعًا في «الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون الفلسطينيّة»، صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان «ما لم أكنه» بالإضافة إلى كتاب «وعي الهزيمة». يكتب المقالة في الشأنين الأدبيّ والسياسيّ في عدد من المنابر العربيّة.