أدب الأوبئة والجوائح... الإنسان يحكي محنته

أقنعة خلال انتشار الطاعون في مانيلا، الفلبّين (1912) | المتحف الوطنيّ للصحّة والطبّ

 

الإبداع عند الخطر

كما الحروب، فإنّ الجوائح أيضًا تُنتج أدبًا؛ هو أدب عابر للقارّات كما الجوائح ذاتها. وإذا نبّشنا في عدد الروايات الّتي كتبها أدباء، أو القصائد الّتي دوّنها شعراء، أو الأعمال الفنّيّة الّتي أدّاها فنّانون؛ رسّامون بريشاتهم، ومسرحيّون على خشبات المسارح، وممثّلون على شاشات السينما عبر التاريخ، فعلى الأرجح نجدها تتجاوز تلك الّتي خرجت إلى النور في ظروف ’طبيعيّة‘ وأكثر استقرارًا. إنّ الكوارث وما تخلّفه من تقلّبات مؤثّرة في حياة البشر والحجر، بما فيها الجوائح، تشكّل للمفارقة محرّكًا قويًّا للفكر، ومحفّزًا إبداعيًّا للخيال.     

وإن لم يكن بمقدور الإرث الأدبيّ، الّذي يلد من رحم الكوارث، أن يقدّم حلولًا سحريّة للأمم والشعوب، كأن يضع حدًّا للنزاعات والحروب، ويقضي على الفقر والجوع والبطالة والفساد والأوبئة والأمراض، إلّا أنّه يبقى ذا قيمة وأهمّيّة بالغتين لناحية توثيق التاريخ وأرشفته بأسلوب جاذب وممتع، وأحيانًا تهكّميّ. كما أنّ «أدب الكوارث» يُعَدّ بالنسبة إلى الأديب أو الشاعر أو الفنّان، وحتّى الإنسان البسيط أحيانًا، متنفّسًا للتخفيف من وطأة الألم والمعاناة عليه من جهة، وعلى القارئ من جهة أخرى.

وما يميّز «أدب الكوارث» أيضًا إبراز سمات الخير والشرّ الكامنة داخل الإنسان وسلوكيّاته المتناقضة، حيث تتغلّب أحيانًا أنانيّته على حرصه على الصالح العامّ بهدف النجاة...

وبالنسبة إلى الرواية في زمن الكوارث، فقد تكون أحداثها حصلت فعلًا أو متخيّلة جرى التنبّؤ بها مسبقًا، أو خياليّة أُنْجِزَت خلال وقوع كارثة ما أو بعدها، أو مستوحاة من الواقع مع الاستعانة بمخيّلة الكاتب. وعدا أنّها تتناول التغيّرات الّتي تطرأ على سلوكيّات البشر بالاتّجاهين، السلبيّ والإيجابيّ، إلّا أنّ الرواية، الّتي تلد من رحم الكوارث، يتخلّلها في العادة تناول قصص حبّ وفراق وألم وعذابات حصلت فعلًا، أو طوّرها أصحابها من مشاهداتهم الذاتيّة وواقعهم المعيش.

وما يميّز «أدب الكوارث» أيضًا إبراز سمات الخير والشرّ الكامنة داخل الإنسان وسلوكيّاته المتناقضة، حيث تتغلّب أحيانًا أنانيّته على حرصه على الصالح العامّ بهدف النجاة، ولا يهمّ إن كلّفه هذا إلحاق الأذى بالآخرين. وفي المقابل، فقد يتحوّل هذا الإنسان ذاته فجأة إلى حمَل وديع يُقْدِم على التضحيات من أجل المصلحة الجمعيّة للجماعة الّتي ينتمي إليها. إنّه - بلا شكّ - الشعور العامّ بالخطر الّذي يتهدّدنا... يقرّبنا من بعضنا بعضًا تارة ويجعل منّا أخيارًا، ويفرّقنا تارة أخرى فنتحوّل إلى غرباء يجمعنا الشرّ.

 

روايات أوبئة

وليس بالضرورة أن يكون هذا النوع من الإنتاج الأدبيّ وليد اللحظة؛ فقد يأتي متأخّرًا، بعد عام أو عقد أو حتّى قرن من الزمن. وفي بعض الأحيان، قد يكون متخيّلًا ومستبِقًا لوقوع الحدث، ولا ينتقص ذلك بالطبع من أهمّيّته أو من قيمة النصّ وإبداع صاحبه؛ فأحداث الرواية ليست سبقًا صحافيًّا يبحث عنه إعلاميّ بين زحمة الأخبار المتسارعة فحسب، بل هي عمل فنّيّ متأنٍّ قد يجري إنجازه على مراحل، ويستغرق فترات طويلة.

رواية «الطاعون» للكاتب الفرنسيّ ألبير كامو، على سبيل المثال، الّتي تدور أحداثها المتخيّلة حول انتشار هذا الوباء في مدينة وهران الجزائريّة، صدرت عام 1947، علمًا أنّ وباء الطاعون كان قد اجتاح قارّات العالم في فترات متباينة بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر. تدور أحداث الرواية الكلاسيكيّة عن طبيب، البطل، اسمه برنار، يكتشف الوباء للمرّة الأولى، ويسعى إلى إيجاد علاج له. ومن خلال ذلك يجري طرح أسئلة فلسفيّة وجوديّة تواجه الإنسان في حالات خطر الموت الجماعيّ المباغت.

ثمّ إنّ رواية «الحبّ في زمن الكوليرا»، للأديب الكولومبيّ غابرييل غارسيا ماركيز، كانت قد نُشِرَت بالإسبانيّة عام 1985، بينما كان وباء الكوليرا قد ظهر للمرّة الأولى، كما يتردّد، في القرن التاسع عشر. وتدور أحداث الرواية حول قصّة حبّ بين فلورينتينو أريثا وفيرمينا داثا، منذ المراهقة إلى ما بعد بلوغهما السبعين. وتسرد الرواية التغيّرات الاجتماعيّة والسياسيّة والنفسيّة الّتي طرأت على حياة العاشقَين خلال تلك الفترة؛ بسبب الحرب الأهليّة الدائرة في منطقة الكاريبي، وانتشار وباء الكوليرا، وترصد بدقّة التحوّلات الاقتصاديّة والأدبيّة والديموغرافيّة في المكان الّذي تدور أحداث الرواية فيه أيضًا.

نجد رواية «إيبولا» للروائيّ السودانيّ أمير تاج السرّ، الّتي تدور أحداثها عام 1976. صدرت الرواية للمرّة الأولى عام 2012؛ أي بعام واحد قبل الانتشار الواسع لهذا الوباء في أفريقيا عام 2013.

ومن جزر الكاريبي إلى جمهوريّة الكونغو ومنطقة أنزارا جنوب السودان في القارّة السوداء، حيث نجد رواية «إيبولا» للروائيّ السودانيّ أمير تاج السرّ، الّتي تدور أحداثها عام 1976. صدرت الرواية للمرّة الأولى عام 2012؛ أي بعام واحد قبل الانتشار الواسع لهذا الوباء في أفريقيا عام 2013. يقع الشابّ لويس نوا، الّذي كان يعمل في مصنع للنسيج في منطقة أنزارا جنوب السودان، يقع في حبّ فتاة تعمل بائعة ماء متجوّلة اسمها تينا، فيتزوّجها. يضطرّ نوا من ثَمّ إلى السفر إلى كنشاسا، عاصمة الكونغو، في مهمّة عمل، وهناك يخون العامل البسيط زوجته مع إحدى الخادمات الّتي تعمل في نُزُل للفقراء. يلاحق «إيبولا» جسد نوا، ويستوطن في دمه، ويتنقّل معه بين كنشاسا وأنزارا، مسقط رأسه.    

 

كورونا أدبًا

ومع انتشار كورونا منذ نحو عامين ونيّف، بدأنا نشهد نتائج الاستثمار الأدبيّ في كورونا عالميًّا. ومن بعض الروايات الّتي صدرت عربيًّا اثنتان تحملان عنوان «حبّ في زمن الكورونا»: الأولى، للشابّة اللبنانيّة ستيفاني عويني، الصادرة عن «دار أبعاد للطباعة والنشر» عام 2021، وهي الثانية لكاتبتها بعد «ليلة جامحة» الصادرة عام 2020، إضافة إلى عدد من قصص الأطفال المنشورة سابقًا.

تسلّط الكاتبة عويني الضوء على التغيّرات النفسيّة والاجتماعيّة على البشر في زمن الجوائح، وعلى الصراع بين الخير والشرّ في الإنسان عندما لا يستطيع إيجاد الحلول لمشاكله المستعصية، حيث يزداد أنانيّة وعدائيّة. وتجسّد الكاتبة فكرتها من خلال تخيّل جماعة اسمها «المطهّرون»، تظهر مع انتشار الجائحة، مهمّتها ملاحقة المصابين وقتلهم. وبالمقابل، تُبْرِز الكاتبة السمات الإيجابيّة الّتي ترافق الإنسان في المحن الجماعيّة، كرفضه إلحاق الأذى بالآخرين، ومواساتهم، وتقديم يد العون لهم، في إشارة منها إلى أنّ الخير والشرّ غالبًا ما يجتمعان عند وقوع الكوارث.

وتتخلّل الرواية قصّة حبّ تنشأ بين عمر وأنابيلا؛ إذ يلتقي الحبيبان في مركز للحجر الصحّيّ بعد فشل الأخيرة في علاقتها الأولى بفادي، الّذي كان يعمل على إيصال المؤن الغذائيّة إلى أهل الضيعة في بداية انتشار الجائحة. ومن حين لآخر، تعرّج عويني على أوضاع البلد المتردّية على مستويات عدّة؛ بسبب المنظومة السياسيّة الفاسدة الحاكمة.

أمّا الرواية الثانية الّتي تحمل الاسم ذاته، ويُفْتَرَض أن تكون قد صدرت في مستهلّ العام الجاري، فللكاتب والصحافيّ الأردنيّ عبد الرحمن طهبوب.

تقاطع الروايتان لناحية تناول العطب الأخلاقيّ الّذي أصاب الإنسانيّة في زمن جائحة كورونا؛ وهو الأمر الّذي يستدعي، من وجهة نظر طهبوب، إيجاد لقاح يعيد البوصلة للبشريّة، ويستردّ إنسانيّتها الّتي فقدت.

ولا تقتصر الإصدارات على هاتين الروايتين العربيّتين بالطبع؛ فاللائحة تطول، وغدت الروايات تغزو المكتبات، وتتدفّق على معارض الكتب حول العالم؛ فقد شكّلت الجائحة، وخاصّة خلال الشهور الأولى من ظهورها، حيث العزل المنزليّ المشدّد، دافعًا قويًّا وراء عودة الكثيرين إلى قراءة ما كُتِب في الماضي بهذا الصدد، وتدوين ما يجري في الحاضر، عدا التنبّؤ أيضًا بما ينتظرنا مستقبلًا.

إنّه الخوف من المجهول، إنّه صراع البقاء الّذي يجعل كلّ هذه التناقضات تطفو على السطح عندما تحلّ كارثة جمعيّة ما بالبشريّة. ولا يختلف الأمر سواء كانت أحداث الرواية واقعيّة، أو متخيّلة، أو سابقة لحدوث الكارثة، أو متخيّلة تالية لها...

فقد كان للشاعرة والروائيّة المغربيّة عائشة البصري حصّة بالمساهمة من خلال روايتها «كجثّة في رواية بوليسيّة»، الّتي تصف فيها مخاوفها من القادم الغامض أثناء فترة العزل. وكتب الروائيّ المصريّ عزّت القمحاوي رواية «غربة المنازل»، والجزائريّ واسيني الأعرج «ليليّات رمادة»، والكويتيّ طالب الرفاعي «لون الغد».

أمّا عالميًّا فقد صدر - على سبيل المثال لا الحصر - عن الروائيّ الإيطاليّ، باولو جيوردانو، رواية «عدوى»، وعن الكاتبة الأمريكيّة، جودي بيكولت، رواية «ليتك كنت هنا». وهذا ليس إلّا القليل ممّا نُشِر من روايات حتّى اللحظة، وما أتوقّع أنّه سوف يُنْجَز مستقبلًا.

تختلف الأزمان والأماكن والشخوص، إلّا أنّ قواسم مشتركة نجدها في العديد من الروايات الّتي تلد من رحم الكوارث، تتباين في الأبعاد الّتي تسلّط الضوء عليها، في تفاصيلها، وحبكتها، وأسلوب السرد والعرض اللغويّ، لكنّها غالبًا ما تتقاطع في تناول سلوكيّات الإنسان المتناقضة عندما تحلّ المحن بجماعة ما، فتُبْرِز تطرّفه، وأنانيّته، وقسوته، وكرمه، وجشعه، وحكمته، وسذاجته، وشعبويّته.

إنّه الخوف من المجهول، إنّه صراع البقاء الّذي يجعل كلّ هذه التناقضات تطفو على السطح عندما تحلّ كارثة جمعيّة ما بالبشريّة. ولا يختلف الأمر سواء كانت أحداث الرواية واقعيّة، أو متخيّلة، أو سابقة لحدوث الكارثة، أو متخيّلة تالية لها تستلهم من وقائعها على الأرض.

 


 

رنا بشارة

 

 

مواليد القدس، خرّيجة جامعة بيرزيت عام 1987، تخصّص لغويّات وترجمة. عملت منتجة ومترجمة في عدد من شبكات التلفزة الأجنبيّة، وفي القطاع الأهليّ الفلسطينيّ. لها مدوّنة بعنوان «صور رعد ورد»، تتناول فيها حياة أربعة أجيال من فلسطينيّي القدس.