حصّة جغرافيا من الطائرة | قصّة

جورجيا أوكيفي

 

دون أن أتكلّف عناء السؤال لموظّف الطيران، أجد تذكرتي تشير في معظم المرّات إلى مقعد جانب النافذة، بل في مرّتين كان مقعدي في الخانة «ب»، ثمّ يعلن كابتن الطائرة إقلاع الرحلة دون أن يجلس على يميني أو يساري أحد الركّاب. خلال الرحلة، لا أحاول خلق حديث مع الغرباء فوق الغيوم؛ ولهذا أرجو في كلّ مرّة أن يكون الغريب جانبي كثير السكوت، أو غير موجود من الأساس، لكن قبل الوصول إلى هذا الجزء من النصّ، وبما أنّني ابن الضفّة الغربيّة، فعليّ دائمًا أن أتحرّك شرقًا إلى الأردنّ قبل أيّ رحلة طيران، ومن هناك تبدأ القصص (لنقفز قليلًا عن مقدّمة الحكاية في تجاوز المعابر الحدوديّة؛ لأنّ لحظتها سأضطرّ إلى العودة إلى عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين، أو ما قبل ذلك).

المشهد الأوّل: ختم على الجواز، واستراحة مع الشاورما المفتقدة في الغربة. ساعة بعد ذلك، تقلع الطائرة من «مطار الملكة علياء الدوليّ»، وتحلّق في سماء عمّان البهيّة لفترة وجيزة، الّتي تبدو كأحجار الليجو يتوسّطها بعض ناطحات السحاب إن شئنا تسميتها كذلك. بعد لحظات معدودات، يبدأ الواحد فينا نحن المسافرين على متن الطائرة، الحاملي الجوازات الفلسطينيّة، بإدراك سخرية الحكاية؛ بأنّه كان علينا قطع مسافة نحو سبعين كيلومترًا في نهار كامل؛ لنعودها في ربع ساعة فقط أو أقلّ، كأنّها ضريبة وقت ومشقّة إضافيّة على الفلسطينيّ.

المشهد الثاني: الوصول إلى الحدود الفلسطينيّة. وهنا، يختار كابتن الطائرة أن يمرّ فوق نابلس أو رام الله، وخلالها أحاول معرفة القرى والبلدات، من خلال الشوارع الالتفافيّة أو الامتداد العمرانيّ للمدن، فأرى «جامعة النجاح» مرّة، وأدرك مدخل البيرة الشماليّ مرّة، وأرى من بعيد، عاصمة قريبة "تراها العين حيث تديرها". في هذه المدّة القصيرة، أحبّ أن ألتفت إلى عشوائيّة القرى، واكتظاظ بيوتها، والتباين بين قديمها وجديدها، على أن أنتبه متحسّرًا إلى ما يتخلّل الفراغات بينها وما فيها من انتظام وحداثة مصطنعة أوروبّيّة البنيان. أرى التضاريس الّتي تعلّمناها في كتب الجغرافيا الابتدائيّة. ثمّ دون سابق إنذار، يخرج إليك جدار الفصل العنصريّ كثعبان يتلوّى.

المشهد الثالث: يتوسّع البؤبؤ، ويحاول المرء ألّا يرمش حتّى لا يضيّع جزءًا من الثانية في لملمة ما يمكنه من فلسطين الداخل المحتلّة، المساحة الفانتازيّة الممنوعة. يلاحظ قرًى أشبه بأخواتها قبل الجدار، وشوارع كذلك، ومدنًا يحبّ أن يزورها قبل أن يسأل نفسه: متى هو؟ ويجيب في سرّه: قل عسى أن يكون قريبًا. يودّ لو أنّه يحادث طاقم الطائرة؛ ليشيروا إلى الكابتن بأن يخفّف السرعة، فلا ضير من ’كزدورة‘ في الجوّ، أو أن يجوبها من الجنوب إلى الشمال بدلًا من أن يجتاز المسافة بالعرض. لكنّ الأمنيات لا تتحقّق بهذه السهولة؛ ليظهر فورًا من خلف النافذة الساحل المشتهى، والأزرق المحبوس في المخيّلات؛ ليضرب سؤال آخر المكنونات كلّها: كيف حصل هذا؟ كيف من الممكن أن يجتاز الواحد ’دولة‘ بدقيقة واحدة فقط؟

في رحلة العودة، يتململ الفلسطينيّ في مقعده مرّات ومرّات، ويتحدّث إلى البحر المتوسّط طويلًا، ويساوره الشكّ في أنّ البلاد قد أُزيحت، كأنّ الحالة ينقصها مثل هكذا افتراضات وتأويلات. يحاول البحر أن يقصّ حكايات عليه لئلّا يضجر، فيفشل. علاقة البحر متوتّرة مع ابن الضفّة الغربيّة. كيف لغريبَين أن يخلقا حديثًا دون مقدّمات؟ تحاول السماء أن تتدخّل في المشهد بتقديم قصّة أطفال بالرسومات، هنا غيمة على شكل عجوز أبيض يطعم قطّة بيضاء تتشبّث بمظلّة رماديّة، تطير فوق شاحنة بيضاء إلى صفحات وصفحات من الخيالات المتغيّرة من نافذة إلى أخرى. هنا، أكاد أجزم لو أنّ مخرج فيلم يصوّر المشهد من خارج الطائرة، لكان الناتج رؤوسًا حانية تتّكئ على النافذة كأنّها تقرّب المسافة بوصة نحو البلاد، وعيونًا تحدّق طويلًا آملة بالوصول، وشتائم لقصّة الأطفال إن أطالت رسوماتها بالغيوم، وأخفت الساحل الفلسطينيّ.

المشهد الرابع: حيفا! بمجرّد أن يُكْشَف الستار عن البلاد، تسترق العين نظرة سريعة على امتداد البلاد، ثمّ تستريح مطوّلًا عند حيفا. كيف لا وهذا النتوء في الشاطئ كان هاجسًا مؤرّقًا في مقاعد الدراسة؟ كثيرًا ما طُلِبَ منّا أن نرسم خارطة فلسطين، وكانت البداية عند المعظم من طبريّا، نمسك بالأقلام نحو الأعلى ونرسم أوّل قوس، ثمّ إلى اليسار مع تعرّجات بسيطة في الحدود اللبنانيّة، وصولًا إلى مياه المتوسّط، وبعدها نشرع في رسم الساحل. ننتهي من عكّا، فتهتزّ أقلام الرصاص إذ علينا رسم نتوء حيفا، فيتفنّن كلّ واحد في تشكيله لأنّ مَنْ يتقنه كأنّه انتهى من الصعب، وما تبقّى خطوط سهلة التكوين. يهزّ المسافر رأسه قائلًا في نفسه: إذن، هكذا أنت يا حيفا!

تكملة الحكاية: بلاد مشتهاة، وجدار عنصريّ، وقرًى تنتظرنا بعد يومٍ؛ لأنّ علينا أن ننتهي من ختم الجواز في مطار الأردنّ، واجتياز المعابر، فكاتب القصّة عنيد لم يرضخ لمحاولاتي بأن أقفز من الطائرة بمظلّة نحو حضن البيت، وبحر ميّت ونهر لا يكاد يبين، وعمّان. وقبل أن تنزل من الطائرة يطرق السؤال باب الحقيقة مرّة أخرى: كيف اجتزنا ’دولة‘ بدقيقة!

 


 

أحمد جابر

 

 

قاصّ وكاتب من فلسطين. حاصل على الماجستير في «هندسة الطرق والمواصلات». حائز على جائزة مؤسّسة «عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ» (2017)، عن مجموعته القصصيّة «السيّد أزرق في السينما».