سيّاح الجحيم: الفلسطينيّ في البوسطة

أرشيف

 

كانت أوّل مرّة أرى فيها صحراء فلسطين الكبرى، أحاول استراق النظر من خلال شبك البوسطة المتناهي في الصغر. تحدّق بالصحراء الّتي لم تألفها من قبل، تحاول أن تحفظ تلالها وجبالها وقيعانها ومعرجاتها. من مفارقة الفلسطينيّ الّتي لا تنتهي، أن تتحوّل رحلة العذاب تلك إلى السجون الإسرائيليّة، عبر شبكة خطوط تجتاز الصحراء وتقطعها، إلى رحلة سياحة وتأمّل وانبهار؛ انبهار بالجغرافيا الّتي لم نكن نعرف عنها ولا عن ذاكرتها إلّا أقلّ القليل. شيء مستفزّ إلى درجة أنّك تلوم ذاكرتك والذاكرة الجماعيّة، الحاضرة فيها مدن الساحل وأرياف الجبال، وتغيب عنها صحراء السبع بمدنها وقراها.

تجلس على الحديد ’الِمْخَرْشَم‘ لساعات طويلة، وفي يديك وقدميك الحديد ’كلبشات‘ بالمعنى الحرفيّ للكلمة، وهي جمع ’كلبش‘ بمعنى قيد، وكلّ قيد يتكوّن من سوارين، ولكلّ سوار مفتاح وبينهما حلقات من حديد. لا أعرف مَنْ أوّل مَنْ شبّه الكلبشات بالسوار، لكن ما أعرفه أنّ مَنْ أطلق تسمية القيود على الأساور كان حالمًا أو مجنونًا بطريقة غير مألوفة؛ إذ كيف تُشَبَّه تلك اللعنة الحديديّة بالسوار؟ ولا أعرف أوّل مَنْ تكلبش وكلبش في تاريخ البشريّة، لكن ما أعرفه أنّ السجون الاستعماريّة الإسرائيليّة جاءت بما لم يأتِ به الأوائل.

 

إللّي ما بتسمّوا

ثمّة خريطة استعماريّة موازية لصحراء فلسطين إن جاز التعبير، عبر خطوط تربط «سجون الداروم» [الجنوب بالعبريّة] ببعضها بعضًا، لا أعرف متى أصبح جنوب فلسطين ’داروم‘، لكن ما أعرفه أنّ المنتصر هو القادر على مصادرة الأسماء وتحويرها، تلك الدولة الّتي أمعنت في لازمة إعادة التسمية وسرقتها، خلقت طبقة من الأسماء، وصنعت فوق الحيّز الأصليّ أحيازًا من تلفيق وادّعاء، تلك الدولة بتعبير جدّتي "إللّي ما بتسمّوا"؛ تنزع جدّتي هنا فعاليّة التسمية عن إسرائيل، وتجرّدها من أقوى أسلحتها الفتّاكة، الّتي شكّلت لها لجان تسمية على طول فترة استعمارها حتّى هذه اللحظة.

أن تسمّي الأشياء يعني أنّك تمتلكها، جدّتي تعطب ماكنة الأسماء وقدرة الخلق والهيمنة لإسرائيل، وتنزع عنها أبجديّات الوجود لديها، وتسلخ عنها تعريفها لنفسها.

كانت إسرائيل تكمل سيطرتها على الأرض وناسها بسيطرتها على الأسماء، التسمية فعل خلق وهيمنة. أن تسمّي الأشياء يعني أنّك تمتلكها، جدّتي تعطب ماكنة الأسماء وقدرة الخلق والهيمنة لإسرائيل، وتنزع عنها أبجديّات الوجود لديها، وتسلخ عنها تعريفها لنفسها.

يمكننا القول إنّ إسرائيل الهاجسة بنا نحن السكّان الأصليّين، الّتي تحدّق بنا طوال الوقت، بعينين كبيرتين، وتشمّنا بأنفها الكبير، وتسمعنا عبر مكبّرات للصوت وميكرو صوت، وعلى طول تاريخها الاستعماريّ، تتفنّن في محاولة ضبطنا وهندستنا وتشويهنا ومراقبتنا والتوجّس منّا، دولة أشبه بـ «خربوط» (خربوط، شخصيّة كرتونيّة، كان يطلق تعاويذه السحريّة على اللغة، ويعيد السيطرة عليها بعد أن يحوّرها ويقوّرها ويحرّفها). إسرائيل حوّلت تلك الشخصيّة من فكرة إلى وجود؛ وجود محميّ بالقوّة العسكريّة، وحوّلت أسطورتها إلى تاريخ.

 

اشتهاء الصحراء

لطالما ألهبت الصحراء خيال الرحّالة الأوروبّيّين، ولطالما شكّلت استيهاماتهم الغربيّة عن الشرق مرجعيّتهم في تعرّف تلك الصحراء، الصحراء خميرة الأوروبّيّ المجازف في إعادة اكتشاف/ إعادة السيطرة، تلك المعرفة الّتي ترافق معها النهب والسيطرة والإبادة.

ولطالما أثارت الصحراء خيال المستعمِر المحموم والمُهَوَّس بالأصقاع والمجاهيل، الّذي حوّل الأرض إلى مجاهيل ومستنقعات وأرض قابلة للاكتشاف والسيطرة، تسكنها حيوانات ضارية وأفاعٍ زاحفة وطائرة، وخلق كثير، لا يرقى إلى البشر، ولا يرتقي في سلّم الآدميّة؛ ليجازف الأبيض في فتح ما استغلق! وتحضير تلك ‘القبائل الأصليّة‘ الّتي لا ترقى إلى مستوى الشعوب، إنّما قبائل تنقصها الحضارة والإيمان العميق. ألم يحّمل القدّيسون الأوائل ’زنابير‘ العهدين القديم والجديد، لسعاتهم الحضاريّة إلى السكّان الأصليّين الموهاك والشيروكي، حتّى أبادتهم حبًّا وعطفًا وحنانًا، وإنّ من الحبّ ما قتل؟ في عصر الاكتشافات الأوروبّيّة الّتي أطّرت وتأطّرت بنظريّات تصنيفيّة حادّة حول الأجناس والأعراق، جعلت الرجل الأبيض يطلق النار من قمّة تاريخه المتخيّل على مَنْ يسقط من غرباله التصنيفيّ.

إسرائيل بنت هذه الاستيهامات الغربيّة الأوروبّيّة، وبنت صناديق اكتشاف فلسطين، الّتي شكّلها المستعمِر الرحّالة في أواسط القرن الثامن عشر. وفي نفس الوقت، تفوّقت إسرائيل عن تلك المرجعيّة الأوروبّيّة المعرفيّة عن الشرق، بخلق ذاكرة شرقيّة لها تثبت وجودها فيه، عبر شرعنة أحقّيّتها بحكاية قصّته ورواية وجوده. لم يرَ الرحّالة الأوروبّيّ المتصهين في فكرته، الفلسطينيّ المقيم في المكان والزمان، وأنكر وجوده بالمعنى الأنطولوجيّ والسياسيّ إلّا كبقايا ومستحثّات تخدم فكرة الكتاب المقدّس وعهده القديم؛ لتبلغ تلك المرجعيّات الفائضة باستعماريّتها ذروتها مع مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، مع القيام المتوحّش لدولة إسرائيل.

 

جغرافيّة السجون

تتحرّك البوسطة قاطعة الصحراء ببطء بعد وقفة مضنية وإجراءات تفتيشيّة طويلة، جاعلة «سجن نفحة» خلفها، السجن الّذي كان يسمّيه الأسرى نفحة من عذاب الله، هو نفحة من عذاب إسرائيل وعقلها الأمنيّ، حيث أنزلت تلك الدولة كلّ جحيم الآلهة من سماواتها، وكثّفته في سجنها الصحراويّ الأثير، بعد أن توقّفت قليلًا عند شقيقه في الإرث الاستعماريّ؛ «سجن ريمون» الصحراويّ، متّجهة نحو «سجن النقب» (كتسيعوت) الصحراويّ، الّذي أقامه الغزاة الإسرائيليّون عام 1988، إبّان «انتفاضة الحجارة» على أراضي عوجا الحفير؛ ليزجّ به الألف المنتفضين؛ ليشكّل استمراريّة للسجن الّذي أقامه الإنجليز إبّان الحقبة الانتدابيّة لقمع «الثورة الفلسطينيّة الكبرى» عام 1936.

قال لي بعض الأسرى "مجنون"، أيّ جنون هذا؟ كيف نصنّف نحن الأسرى ’مرضانا‘ وفق تلك المعايير؟ أيّ جنون غير هذا الجنون الّذي نحيا فيه؟

البوسطة تتحرّك داخل جغرافيّة السجون تلك؛ سجون الجنوب جميعها، من «سجن نفحة» جنوبًا متّجهة إلى «سجن عسقلان»، ومن ثَمَّ «سجن الرملة» إلى «سجن عوفر»، حيث المحاكم العسكريّة وزبانية سياط القانون؛ فإسرائيل المحافظة على وجودها، بالعنف المُؤَسَّس على القوّة والجبروت عبر شبكة قوانين، تتّهم الفلسطينيّ وتشرعن موته؛ فمَنْ لم يمت بسيف إسرائيل مات بقانونها.

تتوقّف البوسطة عند كلّ سجن، وتحمل معها في كلّ مرّة أسرى أو كما كنت أسمّيهم آنذاك ’سيّاح الجحيم‘. مرّة في إحدى رحلات البوسطة الطويلة، ركب معنا في مركبتها المقسّمة إلى حارات وأقسام وطاقات، أسير يرتدي ملابس الأسرى السياسيّين، اللون البنّيّ، تمييزًا لهم من الأسرى الجنائيّين باللون البرتقاليّ، الّذين كانوا يركبون معنا في نفس البوسطة. حاولت إدارة السجون فرض هذا الزيّ على الأسرى السياسيّين، إلّا أنّهم قاوموه بشدّة ورفضوا ارتداءه. كان هذا الأسير يتحرّك بشكل جنونيّ قاطعًا ذهابًا وإيابًا، كان يُخْرِج أصواتًا غريبة؛ شيئًا أشبه بالزعيق، ثمّ يتوقّف ويقترب منّي، ويحرّك يديه في الهواء، ويفتح فمه بطريقة غريبة. قال لي بعض الأسرى "مجنون"، أيّ جنون هذا؟ كيف نصنّف نحن الأسرى ’مرضانا‘ وفق تلك المعايير؟ أيّ جنون غير هذا الجنون الّذي نحيا فيه؟ أيّ عقليّة وسخة ومريضة أنتجت كلّ هذه السجون الاستعماريّة؟ وأيّ عقليّة حوّلت المدن الفلسطينيّة إلى سجون أكبر؟ إسرائيل أكبر حالة جنون وهستيريا في التاريخ الحديث. كلّ شيء هنا يحيل إلى الجنون واللاسواء.

لم أدرِ وقتذاك ما قصّته، لكن ما أعرفه أنّ سياسات الجنون الّتي تتبعها إدارة السجون مستهدفةً الجسد الفلسطينيّ وذاكرته وزمنه ومكانه، راكم الفلسطينيّ في مواجهتها سياسات التفطّن والانتباه؛ ليخرج الفلسطينيّ من فم الوحش زمنًا آخر وبُعْدًا أنطولوجيًّا مغايرًا.

 

ليست كعيون عليا

مرّة من مرّات البوسطة الّتي لا تنتهي، وقد أعياني التعب، سمعت صوتًا قادمًا من قسم آخر من أقسام البوسطة، أسير يغنّي بصوت عذب أغنية «عَ هدير البوسطة»، أغنية أعاد توزيعها من جديد؛ لتأخذ شكل التباريح. صرخت المجنّدة مبرطمة: اسكت. هي تصرخ وهو يواصل الغناء، ثمّ بدأت تضرب على حديد قاطع البوسطة.

ضحكت وقتها من مفارقة الزمن الفلسطينيّ الّذي لا ينتهي، كيف تتشابه بوسطة فيروز بجماليّتها وجماليّة ركّابها وعيون عَلْيا الجميلة، مع هذا الجحيم؟ وأيّ هدير لهذه البوسطة الّتي تحوّل الوقت إلى وقت لا ينتهي، والزمن الفلسطينيّ إلى زمن من عذاب؟ تتحوّل الرحلة عبر البوسطة، الّتي قد تقطعها ’بالوضع الطبيعيّ‘ بساعات معدودة من أقصى حدود الجنوب إلى «سجن الرملة»، تتحوّل مع البوسطة إلى أيّام وليالٍ، وأين عيون عليا، يا صاحبة الصوت الصباحيّ وأمامي عيون مجنّدة من فرقة «النَّحْشونْ»، تجلس خلف زجاج مقوًّى، وخلف الزجاج شبك من حديد، تحدّق بنا من خلف بندقيّة تتقن القتل أكثر ممّا تتقن الحور؟ تلك العيون الّتي في طرفها موت ترسله إلينا كلّما علا ضجيجنا.

لا أعرف مَنْ أطلق على تلك المقبرة المتنقّلة اسم «بوسطة»، ومَنْ حرمنا حتّى هذه اللحظة من التمتّع بأغنية فيروز، فلا تستمع للأغنية، إلّا وتتذكّر البوسطة وويلاتها...

لا أعرف مَنْ أطلق على تلك المقبرة المتنقّلة اسم «بوسطة»، ومَنْ حرمنا حتّى هذه اللحظة من التمتّع بأغنية فيروز، فلا تستمع للأغنية، إلّا وتتذكّر البوسطة وويلاتها؛ إن كانت بوسطة عليا تنقل الركّاب من ضيعة حملايا إلى تنّورين، وتتفتّح على جماليّة الرحلة، فبوسطتنا كانت تنقلنا عبر الجغرافيا المضيّعة والمضاعة، عبر شبكة من السجون تبتلع آلاف الأسرى في بطن الوحش، فركّاب بوسطة إسرائيل، لا يملكون رفاهية الرحلة ورفاهية الوقت ورفاهية الخدمة، و‘بالهم مش فاضي‘ كركّاب ضيعة تنّورين، لكنّهم يملكون جماليّة من نوع آخر، هم المهجوسون بأمل الخلاص والتحرّر والحرّيّة، وهم أبناء الجغرافيا المهمّشة الّتي هُمِّشَ حضورها في السياسة الفلسطينيّة الجديدة، المتولّدة عن تحوّل حركتها من مشروع تحرّريّ، تحلم بلملمة الجغرافيّات، وتهجس بمكوّنات الهويّة، إلى سلطة تفلت من يدها الجغرافيا والهويّة، وتكتفي بأقلّ القليل، عبر سياسات فَلَسْطَنَة جديدة تنسى أكثر ممّا تتذكّر. هم أبناء الضيعة المتراكمة، هم أبناء طبقات من الضيعات، يتحوّل فيها الأسير إلى طارئ عن فلسطينيّته، وحمل زائد على ذاكرة شعبه؛ وهذا هو الجنون بعينه.

أمّا ‘جنون الأسرى‘ فهو الحلم الخالص بالتحرّر، وهو الصحّة النفسيّة السويّة بحلمها بالتحرّر من كلّ هذا اللاسواء الّذي يُسَمّى إسرائيل. وهل التحرّر يستوي من دون جنون؟ وهل الخلاص يلد من رتابة المألوف وعقلانيّته المفرطة بالتصنيف؟ أيّ جنون هذا الّذي مكّن ستّة أسرى من حفر نفق طويل بمعدّات بسيطة ليحرّروا أنفسهم لأيّام عديدة؟ إنّه الجنون الّذي تُوْلَدُ منه لحظة الأمل، وهو الجنون في أسمى جماليّاته، الجنون الّذي يفيض إصرارًا وأحلامًا، وتُرْفَعُ له القبّعة احترامًا وإجلالًا.

 


 

عديّ البرغوثي

 

 

 

كاتب فلسطينيّ، حاصل على البكالوريوس في التاريخ والآثار، والماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من جامعة بيرزيت. يعمل مدرّسًا في رام الله.