الرواية التاريخيّة... تعبئة المساحات البيضاء

 

يستيقظ أحمد عبد الحيّ كيرة، المناضل الفدائيّ المصريّ، في رواية «1919» (2014) للكاتب أحمد مراد، لنعيش معه هواجسه ومخاوفه وقصص غرامه، الّتي لا أصْل موثَّقًا لها في الواقع، ومواقفه وكيفيّة تعامله مع تفاصيل عمليّاته الفدائيّة واختفائه بعد ذلك؛ ليذكّرنا كلّ هذا بحافظ نجيب الّذي أدّى دوره محمّد صبحي في مسلسل «فارس بلا جواد» (2002). رغم أنّ حافظ نجيب، كأحمد كيرة، شخصيّة حقيقيّة، إلّا أنّه كان محتالًا وليس فدائيًّا، مع ذلك فقد ألبسه المسلسل لبوس البطولة ليكون فارسًا بلا جواد، يناضل ضدّ الاحتلال الإنجليزيّ، تمامًا مثل أحمد، ويقوم بذلك تحت اسم حركيّ وهو "الثعلب". الثعلب كلمة معناها باللغة الإسبانيّة Zorro، وهو الاسم الّذي اختاره الكاتب الأمريكيّ جونستون مكوللي لشخصيّة روبنهوديّة تحارب في لوس أنجلوس ضدّ الاستعمار الإسبانيّ في بداية القرن التاسع عشر، في مجموعة قصص كتبها، وللمفارقة، في عام 1919.

 

الفنّان، المؤرّخ، التاريخ

إنّه لمن المستحيل أن يكشف التاريخ عن كلّ التفاصيل الّتي تُخرج أحمد كيرة من ذاته التاريخيّة (أحمد الفدائيّ) إلى ذات إنسانيّة (أحمد الرجل)، إذن، فماذا فعل أحمد مراد لاستنباط هذه التفاصيل؟ لا بدّ من أنّ مراد انغمس في ذاته وقراءاته، وربّما، أقول ربّما، قابل بعض المقاتلين المتقاعدين لفهم الذات البشريّة للفدائيّ المنظّم الّذي يعمل بشكل فرديّ، ويجنّد الآخرين، ويحاول إيجاد الدعم السياسيّ لتحرّكاته. أعطى مراد لأحمد كيرة الرجل سببًا وطنيًّا وعائليًّا وشخصيًّا دفعته إلى أن يصبح أحمد الفدائيّ، أو في هذه الحالة أحمد البطل، ليتحوّل لدى القارئ إلى شخصيّة متكاملة لا يمكن إيجادها في طيّات كتب التاريخ، إنّها في التاريخ مساحات بيضاء لا يجرؤ المؤرّخ على ملئها، ويتركها للفنّان الّذي يقوم بذلك على مسؤوليّته، كما قال تولستوي في مقدّمة «الحرب والسلام» (1867):

المؤرّخ لا ينظر إلى الشخصيّة التاريخيّة إلّا عبر الدور التاريخيّ الّذي أدّته في صنع التاريخ، في حين أنّ الفنّان يذهب إلى بناء الشخصيّة الّتي أدّت الدور عبر بناء خيال يضع الذات البشريّة في ظروف خارج ظرفها التاريخيّ...

"إنّ المؤرّخ الّذي يدرس الدور التاريخيّ الّذي قام به شخص في تحقيق هدف واحد من الأهداف، يقع على أبطال. أمّا الفنّان الّذي يدرس أفعال فرد من الأفراد في جميع ظروف الحياة، فإنّه لا يمكنه، ويجب عليه ألّا يرى أبطالًا إنّما هو يرى بشرًا".

أمّا هذا فيُفضي إلى أنّ المؤرّخ لا ينظر إلى الشخصيّة التاريخيّة إلّا عبر الدور التاريخيّ الّذي أدّته في صنع التاريخ، في حين أنّ الفنّان يذهب إلى بناء الشخصيّة الّتي أدّت الدور عبر بناء خيال يضع الذات البشريّة لتلك الشخصيّة في ظروف متعدّدة خارج الظرف التاريخيّ الّذي عُرِفت فيه، كالحديث مثلًا عن الإسكندر المقدونيّ في أوضاع خارج ساحة المعركة، أو كما قلنا سابقًا أحمد عبد الحيّ كيرة العاشق.

يذهب الخيال التاريخيّ خطوة إضافيّة في «فارس بلا جواد»، حيث الشخصيّة الحقيقيّة انسلخت عن معظم ظرفها التاريخيّ الّذي أوصلها إلينا؛ فحافظ نجيب المحتال تحوّل إلى أحمد كيرة آخر ولكن بأسلوب مختلف تمامًا عن الأعمال الفدائيّة، بل إلى مهارات في التنكّر والتقليد للتجسّس والاحتيال على المحتلّ لإيقاعه في المتاعب. ولقلّة ما عُرف عن حافظ نجيب فإنّ تعبئة المساحات البيضاء الّتي حصلت في المسلسل كانت جامحة، وأجرؤ على أن أقول جميلة.

 

الشخصيّة الحقيقيّة في الخيال التاريخيّ

الخيال التاريخيّ لا يكتفي باستنطاق الشخصيّات الحقيقيّة الّتي عاشت أحداثًا حقيقيّة، بل يضيف أيضًا شخصيّات خياليّة تكون في روايات كـ«1919» جزءًا من المساحات البيضاء المعبّأة. ولكن ماذا لو كانت الشخصيّات الخياليّة هي أساس القصّة؟ أما زالت تلك تعبئة؟

في الغالب هي ليست كذلك، إلّا أنّها وسيلة لإيضاح أنماط الحياة في حقبة ما. تمامًا كما قام الكاتب الإسبانيّ أرتورو بيريث ريبيرتيه، عندما كتب «مغامرات الكابتن ألاتريسته»، بعد أن رأى أنّ منهاج التاريخ الّذي تدرسه ابنته في المدرسة لا يصوّر بشكل سليم ما يُسمّى بالحقبة الذهبيّة من الإمبراطوريّة الإسبانيّة؛ فكتب سلسلة روائيّة شخصيّاتها خياليّة، اتّخذت من تلك الفترة عمودها الفقريّ ليصوّرها كما اقتنع بأنّها يجب أن تصوَّر.

يمكن وضع Zorro أيضًا إلى جانب ألاتريسته في تصويره حقبة زمنيّة معيّنة مستعينًا بشخصيّات لا تمتّ إلى الواقع بصلة. إلّا أنّ رضوى عاشور في «ثلاثيّة غرناطة» (1998)، وهنرييت عبودي في «وداعًا يا ماردين» (2009)، جعلتا من العمود الفقريّ أحداثًا حقيقيّة وشخصيّات واقعيّة، تحدث في خلفيّات أحداث الرواية، وتؤثّر في شخصيّاتها دون أن تتفاعل في ما بينها بشكل مباشر، في حين أنّ العمود الفقريّ في رواية «عزازيل» (2008) ليوسف زيدان لا يكتفي بكونه خلفيّة لقصّة الراهب هيبا الخياليّ، بل هيبا يتفاعل مع شخصيّات لها أصل واقعيّ، فهو يحضر درسًا للفيلسوفة هيباتيا، ويتعرّف إليها، ويشهد على قتلها، كما حضر خطبة لأسقف الإسكندريّة كيريلّوس، وصارت بينه وبين الأسقف نسطور أحاديث أثّرت كلّها فيه مباشرة، بل إنّ زيدان جعل من الشخصيّة الوهميّة - هيبا - مؤثّرًا في الشخصيّة الحقيقيّة ’نسطور‘ في موضع من الرواية، رغم أنّ الأوّل هو الشخصيّة الرئيسيّة، تمامًا كالشخصيّات الخياليّة المؤثّرة في أحمد كيرة، الّتي لم يكن هدفها سوى تعبئة المساحات البيضاء.

لخيال التاريخيّ لا يكتفي باستنطاق الشخصيّات الحقيقيّة الّتي عاشت أحداثًا حقيقيّة، بل يضيف أيضًا شخصيّات خياليّة تكون في روايات كـ«1919» جزءًا من المساحات البيضاء المعبّأة...

لكن ماذا عن الشخصيّات الوهميّة في الأحداث الوهميّة؟ أهي أيضًا خيال تاريخيّ؟ في رواية «جزيرة الكنز» (1883) لروبرت لويس ستيفنسُن، لم يكن العنصر التاريخيّ أحداثًا تشكّل خلفيّة لشخصيّات الرواية، بقدر ما كانت محاولة الكاتب تخيّل نمط الحياة على سفينة في القرن الثامن عشر، فاكتفى الخيال التاريخيّ بالأزياء ونظام السفينة واللهجة؛ ممّا يحرّك الشعور بوجود ’الماضي‘ في العمل الفنّيّ. كذلك الأمر في دراما الفانتازيا السوريّة كمسلسلات «الجوارح» (1995) و«الكواسر» (1998) و«المسلوب (2001) ... إلخ، الّتي لا تمتّ بواقعٍ حدث، لا بالشخصيّات أو بالخلفيّة.

 

التاريخ البديل

يبقى النوع الأخير من الخيال التاريخيّ وهو التاريخ البديل، وهو معنيّ بالأساس بكيفيّة الصيرورة التاريخيّة للعالم، في حال تغيّرت نتائج أحداث كبيرة حدثت في الماضي. أبرز تلك الأعمال هي الأفلام والروايات الأمريكيّة الّتي تتخيّل العالم بعد الحرب العالميّة الثانية، في حال ربحت ألمانيا النازيّة الحرب. حجم هائل من المساحات البيضاء.

السؤال الأعمّ هنا هو: ما الخيال التاريخيّ؟ تصفه «جمعيّة الرواية التاريخيّة» الإنجليزيّة بأنّه أيّ عمل كُتِب بعد 50 عامًا أو أكثر من حدوث أحداثه، في حين أنّ بعض الأكاديميّين يختلفون في عدد السنوات، ويكتفون بـ25 سنة. ويعمّم البعض بقولهم إنّ أيّ كاتب أو كاتبة يُجري بحثًا تاريخيًّا لعمل، يصحّ تصنيفه خيالًا تاريخيًّا. حتّى لو قلنا إنّ كاتبة ما أجرت بحثًا تاريخيًّا لروايتها المعاصرة لزمن جدّها، فتبقى الرواية حينئذ خيالًا تاريخيًّا.

كلّ هذه التعريفات تتّخذ من الكاتب ركيزة لها، ولكن ماذا عن القارئ؟ فمثلًا جميع روايات تشارلز ديكنز أحداثها وقعت في القرن التاسع عشر، وهي بالتالي معاصرة للكاتب باستثناء «قصّة مدينتين» (1859) الّتي وقعت أثناء الثورة الفرنسيّة، في القرن الأسبق لحياته هو، وبذلك صُنّفت لدى النقّاد بأنّها رواية خيال تاريخيّ دون غيرها من أعماله. لكن أليس القارئ في القرن الحادي والعشرين سينظر إلى رواياته جميعًا كروايات خيال تاريخيّ لأنّها حدثت في زمن سابق؟

التعبئة للمساحات البيضاء في الأدب، يمكنها أن تعطي قراءات نقديّة في التاريخ، سواء على الصعيد الفكريّ البحت، أو يمكنها الإضاءة على تلك النظرة المتداولة في الثقافة الشعبيّة...

التعريف الأكاديميّ الجافّ لهذا الجنس الأدبيّ لا أهمّيّة له في نهاية المطاف؛ فهو كما أوضحت الأكاديميّة والناقدة والروائيّة البريطانيّة إيما داروين، في كتابها «Writing Fictional History» يمكن تعريفه من وجهات نظر عدّة، إضافة إلى الكاتب والقارئ، منها الناشر والصحافيّ والبائع والناقد.

لهذا أريد أن أختم بأنّ هذه التعبئة للمساحات البيضاء في الأدب، يمكنها أن تعطي قراءات نقديّة في التاريخ، سواء على الصعيد الفكريّ البحت، أو يمكنها الإضاءة على تلك النظرة المتداولة في الثقافة الشعبيّة، الّتي هي الآن في صلب التأريخ للتاريخ الثقافيّ للشعوب.

 


 

عمر زكريّا

 

 

 

مؤلّف، روائيّ وكاتب أدب غير تخييليّ يقيم في عمّان، يكتب في عدد من المجلّات العربيّة وصدرت له رواية «القرطبيّ، يستيقظ في الإسكندريّة» عن «منشورات ضفاف» (2021).