«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

 

صدرت رواية «عائد إلى حيفا» في طبعتها الأولى عام 1969، قبل ثلاث سنوات تقريبًا من استشهاد كاتبها غسّان كنفاني عام 1972. منذ خمسين عامًا حتّى اليوم، نحن نفكّك بديهيّات الحياة المستعمَرة الّتي تركها لنا كنفاني بين سطور إرثه الأدبيّ، وهذه الرواية لا تصوّر لنا مشهدًا متحرّكًا عن النكبة والنكسة، بل تحاكِم أجسادنا المحاصَرة أيضًا أمام مرآة ذواتنا النادمة، الّتي حوّلت صدى هذا الندم إلى مقاومة فينيقيّة فشل الاستعمار الإسرائيليّ بشبكاته وامتداداته في تطبيعها مع العقليّة القربانيّة، بما تمثّلته من عمليّات تهجير، ونفي، وإبادة جماعيّة.

تضعنا الرواية داخل قوسين تاريخيّين: النكبة 1947-1949 والعودة إلى حيفا بعد النكسة عام 1967. لكنّها مع ذلك بمنزلة تشريح ’جيونفسيّ‘ للعلاقة المركّبة بين الأرض والجسد من جهة، والصدمة والزمن من جهة أخرى. كما تدعونا إلى النظر إلى ما هو أبعد من هذين الحدّين: استنطاق الحاضر وتفخيخ المستقبل.

 

شريط الصدمة

يفتتح كنفاني الرواية بعودة سعيد وزوجته صفيّة إلى حيفا المحتلّة، بعد عشرين عامًا من مغادرتها: "حين كان يقود سيّارته وسط شوارع حيفا كانت رائحة الحرب لا تزال هناك، بصورةٍ ما...". البداية، إذن، اصطدام إراديّ بالماضي، بالمكان الّذي حوّله احتلال المدينة إلى صدمة مستمرّة عزّزتها التغيّرات في أسماء الأماكن وأشكالها، التناقض الجنائزيّ بين آخر صورة للمدينة حين تركوها وبين الصورة الحاليّة، يُظْهِر بوضوح كيف شكّلت الحرب شريط صدمة يتكوّن من: الذاكرة، والصمت، والنسيان[1].

أعاد الاستعمار ترتيب المكان، وغيّر الأسماء ليبدو الفلسطينيّ كأنّه صاحب ذاكرة فصاميّة ترى حيفا القديمة في خيالها، وحيفا بعد احتلالها في واقعها، دون أن تكون قد شُفِيَتْ تمامًا من الصدمة الأولى...

سعى الاستعمار إلى تغيير المفهوم الطبيعيّ، لا للخسارة فحسب بل للذاكرة أيضًا؛ فالمفهوم الطبيعيّ للخسارة يقوم على أربع مراحل؛ أوّلها: مرحلة الطوارئ المليئة بالذكريات الاقتحاميّة كاسترجاع الأحداث، والأحلام، والكوابيس... إلخ. وهي تلي حدوث الصدمة مباشرة. ثانيها: الإنكار والتجنّب بمحاولة التناسي وترك الأماكن والأشخاص الّذين يعيدونه إلى ذكريات الحدث الصادم. ثالثها: التعافي على المدى القصير كمحاولة التقبّل الّتي لا تخلو من كوابيس وأفكار سلبيّة. ثمّ رابعًا، مرحلة التعافي على المدى القصير، وفيها يستمرّ بعض الأعراض، وقد تزول بالعلاج.

في الرواية، يظهر هذا الاختراق للترتيب الطبيعيّ لمراحل الصدمة، بعيش سعيد وصفيّة لها مرّة أخرى، بترتيب مختلف تمامًا: "فالشوارع بالنسبة إليه لمّا تتغيّر أسماؤها بعد". أعاد الاستعمار ترتيب المكان، وغيّر الأسماء ليبدو الفلسطينيّ كأنّه صاحب ذاكرة فصاميّة ترى حيفا القديمة في خيالها، وحيفا بعد احتلالها في واقعها، دون أن تكون قد شُفِيَتْ تمامًا من الصدمة الأولى؛ صدمة فقدان صفيّة وسعيد لابنهما خلدون خوفًا من القصف المستمرّ من جهة، وعجزهما عن العودة إلى البيت من جهة أخرى، واضطرارهما إلى النزوح إلى رام الله. هنا، أشعر كأنّ غسّان لا يعفينا من الصدمة الأولى، بل يذكّرنا بأنّ ذاكرتنا عن الماضي مصدر تهديد للاستعمار، لذا؛ يجب عليه تطبيعها مع المشهد الاستعماريّ بإخفاء آثار الحرب، والتحكّم في طريقة تشكيل الفلسطينيّ لذكرياته الجديدة عن المكان المحتلّ.

استخدم الاستعمار ضجيج الحرب لحماية إعادة هندسته للمكان والذاكرة بصمت. إلّا أنّ شريط الصدمة هذا لم يقتصر على حيفا، ولا على فترتَي النكبة والنكسة، بل يمكننا رؤيته اليوم في حواجز التفتيش، الاستيلاء على الأراضي وجدار الفصل العنصريّ: أشرطة صدمة فرديّة وجماعيّة متفاوتة. هذه أمثلة لم تكن موجودة في زمن كنفاني، لكنّه في رأيي كان قادرًا على التنبّؤ بها أدبيًّا حين مثّل طريقة تعامل سعيد وصفيّة مع العودة إلى حيفا بعد الحرب.

 

الجغرافيا النفسيّة وتعليق الذاتيّة

إذا قارنّا بين حال سعيد وصفيّة العائدين إلى حيفا بعد الحرب، وحال ابنهما خلدون/ دوف، وقد نشأ في كنف عائلة يهوديّة، نرى تقاطعًا كبيرًا بين مصطلح غي ديبورد ’الجغرافيا النفسيّة‘، الّذي نشأ عام 1955، لقراءة آليّة تأثير التخطيط الحضريّ في عواطف الناس وتحرّكاتهم، وبين لاتكافؤ الوعي الّذي دلّل عليه كنفاني لحظة لمّ شمل العائلة. لم يعمل غسّان على رَمْنَسَة العودة، وإنّما نظر إليها من زاوية مختلفة تمامًا، وهي العودة إلى ما لم يعد ملكك، لا على مستوى البيت والأثاث فحسب، بل العائلة والذوات أيضًا.

كبر خلدون/ دوف في بيته القديم، لكنّه حصل على بيئة إدراكيّة مختلفة، تقرأ المكان وسكّانه بالمفاهيم الّتي جاءت بها العائلة اليهوديّة. حتّى حين اصطدم على نحو مباشر بعائلته العربيّة، لم يشعر بأنّ شيئًا تغيّر، وقال: "إنّ الإنسان هو في نهاية الأمر قضيّة"، مدلّلًا على تركهما له ونزوحهما مقابل تربية المرأة اليهوديّة له عشرين سنة، وكأنّه ابن من أبنائها. نتأكّد هنا من تشابك الصلة بين الجغرافيا والهويّة، وكيف تصبح مسألة التخلّي عن خلدون/ دوف مساويةً للتخلّي عن الوطن، بل تُشَرْعِن الاحتلال الّذي اعتنى بهذه الأرض المتخلّى عنها.

تنتج الجغرافيا النفسيّة لاتكافؤًا في الذاكرة. إنّ شريط الصدمة الّذي يسير بتدوير من عجلة الزمن عند سعيد وصفيّة، ما هو إلّا حالة جبن طويلة حالت دون عودة العائلة بحثًا عن ابنها المفقود بالنسبة إلى خلدون/ دوف.

سأستعين بمصطلح جيل دولوز ’الجسد دون أعضاء‘، الّذي تأسّس على الفصل بين الجسد البيولوجيّ والجسد بصفته مركّبًا عاطفيًّا، وهو لا يقتصر على منح المستعمِر الحقّ في جرح الفلسطينيّ فحسب، باعتباره كائنًا لا يملك الحقّ في الألم، وإنّما يصوّر خلدون/ دوف الّذي يخدم في الجيش على أنّه ينتمي روحيًّا إلى عائلته اليهوديّة، مع الإقصاء التامّ للعائلة البيولوجيّة العربيّة الّتي ينتمي إليها. وهذا من وجهة نظري تشابك معقّد وخادع للطريقة الّتي يحوّل الاستعماريّ فيها الفلسطينيّ إلى كائن مفصول عن ذاته الّتي تشعر وتحسّ، حين يكون على الطرف الآخر من المعادلة، مقابل تحوّل هذه الذات نفسها إلى سبيل لتعزيز الانتماء الروحيّ للعائلة اليهوديّة، حين يتعلّق الأمر بالخدمة العسكريّة. فيجيب خلدون/ دوف: "كان عليكم ألّا تخرجوا من حيفا".

تنتج الجغرافيا النفسيّة لاتكافؤًا في الذاكرة. إنّ شريط الصدمة الّذي يسير بتدوير من عجلة الزمن عند سعيد وصفيّة، ما هو إلّا حالة جبن طويلة حالت دون عودة العائلة بحثًا عن ابنها المفقود بالنسبة إلى خلدون/ دوف.

 

مقاومتا الرواية

لا يقف كنفاني عند العودة بوصفها نوعًا من الهزيمة والتشبّث في الذاكرة، بل يقترح نهاية تتطلّع إلى حرب مستمرّة من أجل استرجاع الأرض. صحيح أنّ النكبة خلال 1947-1949 والنكسة عام 1967 تركتا كمًّا هائلًا من الصدمات، لكنّ المقاومة تكمن في الحدّ الّذي يصل بين الصدمة والفاعليّة[2].

إنّ تفخيخ الجسد كما قدّمه كنفاني يكمن في المقاومة العنفيّة الّتي لا تنتظر نقاشًا حول الأحقّيّة التاريخيّة والزمنيّة، وإنّما تتطلّع نحو المستقبل آملةً تصحيح أخطاء الماضي، وهي ممثّلة بخالد، الابن الآخر لسعيد وصفيّة. من جهة أخرى، يمثّل خلدون/ دوف الماضي بصدماته ونكباته ونكساته الّتي على الفلسطينيّ أن يشفى من آثارها.

يقدّم كنفاني آليّتين للمقاومة في نهاية الرواية: المقاومة العنفيّة والمقاومة بالذاكرة. وكأنّه يوصينا بألّا ننسى، لكن دون أن تكون هذه الذكرى سببًا في تجديد خوفنا من الماضي، بل سبيلًا للثأر والعودة. ولعلّي سأستغلّ المقاومة الخفيّة لإظهار الصمت الفلسطينيّ كآليّة من آليّات المقاومة في الحياة اليوميّة، حين تكون المقاومة العنفيّة غائبة عن الحيّز.

 

المقاومة بالصمت

قلنا سابقًا إنّ الاستعمار سعى منذ النكبة حتّى اليوم إلى تعليق ذاتيّة الفلسطينيّ بعد فصلها عن جسده، لا بالجغرافيا النفسيّة فحسب واستغلال الصدمة، بل بالعنف المقنَّن وتوظيف جسد الفلسطينيّ نفسه لتشريع هذا العنف أمام المؤسّسات الدوليّة والحقوقيّة. كما تنوّعت آليّات الإقصاء من حواجز التفتيش حتّى جدار الفصل العنصريّ، وصولًا إلى الاستهدافات الفرديّة للأراضي الفلسطينيّة؛ فكيف بوسع الذوات أن تقاوم بالصمت؟

شرحت لنا الرواية خطاب الصمت بطريقة لولبيّة، فهو مصدر لإخفاء الهيمنة والمقاومة في الوقت نفسه، ولا ينبغي النظر إليه بطريقته المألوفة في سياق علم النفس والاستعمار الاستيطانيّ...

لم يغب الصمت لحظة عن مشاهد الرواية وشخصيّاتها، يمكن القول إنّ سعيدًا أتقن صمت الخسارة والمقاومة في آن؛ إذ ظهر الأوّل في طريق العودة إلى حيفا على نحوٍ استنكاريّ، تأمّليّ. وظهر الأخير في طريق العودة إلى رام الله على نحوٍ تفاؤليّ احتجاجيّ. ولا يمكن نسيان اللحظات الّتي وثّق الصمت فيها نفسه جزءًا من البيت القديم في حيفا، الأثاث الّذي ظلّ مكانه شاهدًا صامتًا على تاريخ ينكره الاستعمار، كذلك لحظات الصمت المتبادَلة بين العائلتين وبين خلدون/ دوف وسعيد.

شرحت لنا الرواية خطاب الصمت بطريقة لولبيّة، فهو مصدر لإخفاء الهيمنة والمقاومة في الوقت نفسه، ولا ينبغي النظر إليه بطريقته المألوفة في سياق علم النفس والاستعمار الاستيطانيّ، فهو في هذه الحالة وإن كان الاستعمار يستخدمه آليّةً من آليّات القمع وتعليق الذاتيّة، وإن كان علم النفس يراه سبيلًا للحماية، إلّا أنّه يُظهر صمتًا عقابيًّا واحتجاجيًّا في مواطن عدّة لحظة اشتباكه مع العدوّ في حيّز غير عنفيّ بالضرورة (البيت في الرواية). مثلًا، حين كان سعيد يصمت لفترة قبل الردّ على خلدون، كان يُجْبِر الآخر على الاعتراف بذاتيّته، على رؤيته وعلى انتظار ردّ فعله.

كثيرًا ما نرى هذا النوع من المقاومة على حواجز التفتيش، ونقاط التماسّ المباشر مع الاحتلال، إنّ تسليح الذات بما هو غير مرئيّ بمنزلة ردّ على محاولات الاستعمار السيطرة على بديهيّات الحياة. النظرة والإيماءة لغة صامتة، مقاوِمة. كذلك رفض تطبيع الصدمة بالحفاظ على الصور القديمة، أسماء الطرقات، القرى والخريطة. على المستوى الفرديّ، يقاوم الفلّاح صدمة سرقة المستعمِر لجزء من أرضه بتحويل حيّز الصدمة والموت إلى مصدر للفرح والحياة. الحضور اليوميّ الصامت، فعل الزراعة الصامت، وتجاعيد الوجه الّتي اكتسبت منذ عشرات السنين الطابع الجبليّ الخشن والقاسي للأرض. إنّها بمنزلة مقاومة توثيقيّة ‘جيوبيولوجيّة‘، إن صحّ القول.

 

مناطق الصدمة

قرأت كوفاكس[3] مثلًا مناطق الحرب الّتي تحوّلت إلى آثار دالّة على الماضي الأليم، كالمقابر الجماعيّة والنصب التذكاريّة إلى مواقع هروب من الصدمة وتوثيق لها في آن، لكنّ قراءتها في السياق الفلسطينيّ يبيّن أنّ ممارستنا للحياة اليوميّة واصطدامنا المباشر بالأراضي والمناطق الّتي شهدت حربًا متواصلة أو متقطّعة، بمنزلة زيارة طوعيّة أو غير طوعيّة إلى مناطق الصدمة، في ما تكون الزيارة الطوعيّة مقاومة باختيار الفلّاح زراعة أرضه، وباختيار الفتيات والفتية في قرية اللبّن الشرقيّة – قضاء نابلس - مثلًا، الذهاب إلى مدرستهم الّتي تَبْعُد قليلًا عن القرية، تحت أنظار الجيش، هو إصرار على تحويل مواقع الموت إلى مواقع تُسْتَقى منها المعرفة، دون أن تكون هذه المقاومة ظاهرة بشكل ملحوظ.

في الختام، إنّ التأمّل في إرث غسّان كنفاني، ومقاربته مع الواقع الحاليّ، يفتح لنا منافذ عدّة للتفكير في ذات الفلسطينيّ مصدرًا خفيًّا للمقاومة اليوميّة جنبًا إلى جنب مع المقاومة العنفيّة، الّتي أصرّ كنفاني على حضورها في أعماله الأدبيّة؛ فتفخيخ الجسد على المستوى الفدائيّ لا يحرم فاعليّة تفخيخه على المستوى الفكريّ الداخليّ.

نحن اليوم كما أعتقد، نحتاج إلى تدريب ذواتنا على المقاومة ببديهيّات الحياة الّتي يسعى الاستعمار إلى تطبيعها مع العنف؛ لئلّا نكتشف سرقته لها رويدًا رويدًا. من الضروريّ أن نتأمّل لولبيّة شريط الصدمة، لا على مستوى الجغرافيا فحسب، بل الذات أيضًا. لكن، مع التفكير المستمرّ في آليّات مبتكرة لتعليق تعليق الذاتيّة.

 

* تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ خاصّ يتزامن مع مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


إحالات

[1] Fereshteh, Kovacs. “From Traumascape to Trauma-escape ‘Memory versus Oblivion’. ResearchGate. (Sep 2015).

[2] Nadera, Shalhoub-Kevorkian. “Palestinian Children as Tools for ‘Legalized’ State Violence.” Borderlands. 2014.

[3] مصدر سابق.

[4] تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ خاصّ يتزامن مع مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


 

دنيا الطيّب

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة من مواليد مدينة بيت لحم عام 1999، دَرَسَتْ «الإعلام» في «جامعة بير زيت»، وصدرت لها عدّة روايات، وتكتب في عدد من المنابر الإعلاميّة الفلسطينيّة والعربيّة.