ضحكتْ سيلينا

Illuvis

 

لم أكن أعرفها من قبل، ولم أكن قد رأيتها إلّا حين عرّفتني صديقتنا المشتركة عليها. كنت آنذاك في حالة مزرية، لم أحلق شعري ولحيتي منذ أسابيع، في يدي كتابان عن الانتحار، وفي وجهي كآبة لا تُضاهى.

وحين وقفتُ في طريق الجامعة الرئيسيّ للتكلّم معهما، أخبرتني صديقتي بأنّ الفتاة - الّتي أحببتُها قبل أن أدخل الجامعة، ودرسنا معًا التخصّص نفسه، وشاركتني كلّ شيء في حياتي منذ سنوات طويلة، وبسببها أحمل هذين الكتابين - تجلس بينما نتكلّم ورائي تمامًا، دون أن تعيرني نظرة واحدة. تجلس بملابس جديدة خضراء اللون، بوضعيّة لا تتّخذها إلّا حين تكون سعيدة، مع شابّ جديد كثيابها.

حينذاك، أخبرتُ الفتاتين أمامي – بعد أن سألتني باهتمامٍ صديقة صديقتي عن محتوى الكتابين – بأشياء عن الانتحار، كيف أنّ الشخص الّذي ينتحر بالنار – أو ربّما غرقًا – يريد أن يتطهّر من ذنب مخيف، وأنّ الّذي يرمي بنفسه من علوّ شاهق، يبحث عن لحظات حرّيّة في الهواء تُشْعِره بالتخلّص من جسده.

أخبرتهما بأنّ الانتحار إجراء عقابيّ يمارسه المنتحر ضدّ سبب ألمه، حين يعلم أنّ بقايا ضميره ستوجعه إلى الأبد، فيضمن انتقامًا – ولو شكليًّا – لذاته، وخلودًا في ذاكرة مَنْ يحبّ، فقالت لي صديقة صديقتي بالإنجليزيّة، وبنبرة كطرقة الشاكوش: "أنت لست مميّزًا كما تظنّ نفسك"، وأضافت بالعربيّة: "ربّما أحزنها الأمر في البداية، لكنّها ستتخطّاه في ما بعد، كما تخطّتك الآن".

بعدها، أمسكتْ يدي كأنّها تواسيني وتعتذر في الوقت نفسه، وضحكتْ تلك الضحكة الّتي ستكون القصّة - الّتي سأكتبها في ما بعد - محاولةً لوصفها، فعرفتُ على الفور أنّها ستكون سيلينا!

عندما تبتسم ابتسامة عفويّة، كوقت يقوم طفل أمامك بعمل لا ينتمي إلى مرحلته العمريّة، فإنّ جزءًا في الدماغ يسمّى ’العقد القاعديّة‘ يأخذ على عاتقه أمرها، بينما حين يُطْلَب منك أن تبتسم، أو تطلب أنت ذلك من نفسك، فإنّ القشرة الحركيّة في مقدّمة المخّ (الأقلّ كفايَةً بأضعاف) هي مَنْ تقوم بذلك، فتخرج الابتسامة صفراء كملابس مليئة ببقع الدهون بعد الغسيل، ومنفّرة كابتسامة بائع متجوّل أمام بابك نصف المفتوح، بعد أن أغلقوا عشرات الأبواب في وجهه.

لكنّ سيلينا كانت ماهرة بشكل لا مثيل له بكلّ أنواع الابتسامات، كأنّ الابتسام موهبتها الحقيقيّة، كأنّ كلّ أجزاء دماغها، بشكل عفويّ أو إجباريّ، تترك كلّ شيء تقوم به - ولو كان تنظيم التنفّس أو ضربات القلب - وتحرّك بمهارة أصابع على أوتار من ماءٍ كلّ عضلات وجهها، حتّى تلك الموجودة في أعلى جبهتها.

عدتُ إلى الحياة بعد شهرين من الانغلاق؛ حلقتُ لحيتي الّتي لم تكن مليئة بالفراشات كلحية والت ويتمان، أكلتُ طعامًا دسمًا بعد أن كانت وجباتي السابقة تشبه طعام المستشفيات، وشاهدتُ وثائقيًّا عن أعشاش الطيور. سهرتُ مع أصدقائي حتّى الصباح، فغبتُ عن محاضرتي الأولى نائمًا بلا أحلام. استيقظتُ على صوت سيلينا في رأسي يقول لي: "استبدل الكتابين". وجدتُ نفسي أمام رفّ كتب سينمائيّة، فاستعرتُ «المصباح السحريّ» لـبيرغمان، و«مذكّرات فيلّيني». ذهبتُ إلى محاضرتي متأخّرًا، مقلّدًا مشية تشارلي تشابلن، واضعًا قلم رصاص فوق أذني، فضحكتِ القاعة كلّها عليّ، حتّى دفاتر المحاضرات.

حين خرجتُ، شاهدتُ سيلينا وضحكتها جالستَين في المكان نفسه مع شخص يحمل الكتابين اللّذين أعدتُهما.  وفي اليوم التالي، شاهدتُها وضحكتها مع آخَر يبكي، وهكذا في باقي الأيّام. وأحيانًا، كنت ألمحها وحيدة مع ضحكتها، فنتشارك الطريق إلى محاضراتنا، أو نجلس قرب شجرة اللوز أمام متجر الكتب.

أخبرتني سيلينا أنّها تحبّ الروحانيّات كثيرًا، تعمل في مؤسّسة خيريّة بأجر رمزيّ، وتصرف جلّه على شراء المجموعات الشعريّة المكدّسة على رفوف المكتبات، الّتي لا يمسح عنها الغبار أحد.

"أحبّ القصائد" قالت، "أتركها تتسرّب داخلي كما تتشرّب الأرض طوال أيّام ليلة ماطرة، ولا أستخدم ذكاء عقلي أبدًا!".

حدّثتني أيضًا عن رغبتها في أن تصبح راهبة على طريقتها الخاصّة، تسافر من مدينة إلى أخرى (حازمةً ضحكاتها، فكّرتُ) لتقرأ الشعر مع الأطفال.

كان مريدو سيلينا يعدّون لها مهرجانات احتفائيّة في ساحات الجامعة. ذات يوم، وبينما كنت أمشي بلا هدف في الطرقات، سمعتُ كمانًا من جهة المكتبة، وحين اتّضح العزف، أصبح مقطوعة تحاول أن تحاكي صوت سيلينا حين تضحك، فتبعتُها كجملٍ يشمّ رائحة الماء.

وجدتُ العشرات يتربّعون على الأرض، ويستمعون إلى المقطوعة. بعدها، أخذ مكان العازف روائيّ قرأ فصلًا من آخر كتبه، جعل فيه الضحكة شخصيّة ثوريّة تتمرّد على الحكومة، وتقود جيشًا من الجماهير إلى قصر الحاكم الّذي يتهاوى أمام الغمّازتين. تبعه طالب فلسفة أعدّ دراسة عن الضحك السقراطيّ، ثمّ باحث علميّ أجرى سلسلة تجارب أسمع فيها ضحكتها لخلايا سرطانيّة فتابت على الفور، متحوّلة إلى خلايا مناعيّة.  وبعدهم طلّاب اقتصاد وطبّ وفنون جميلة، وحتّى تربية بدنيّة، وغيرهم كثيرون وكثيرات؛ فلسيلينا أيضًا مريدات طهّرتهنّ ضحكتها - كما قلن لي - من الحسد الأنثويّ.

أخيرًا، جاء دوري، مددتُ يدي إلى جيبي فوجدتُ قصيدة، لم أتذكّر متى كتبتُها، أو إن كنت الكاتب، لكنّي وقفتُ على المنصّة، وأنشدتُ مقلّدًا «سفر التكوين»:

"ضحكتِ فخلق الله الأرض كي تبصر الكائنات الكنز

وحين علم الملائكة أنّ في الأرض مَنْ سيسفك الدماء

خافوا أن تتوقّف سيلينا عن الضحك

قالوا: فليضحك خدّاها ولو لم يضحك فمها

قالوا: ألا يكفي أنّ الأرض ملعونة بالتعب؟

قالوا: كي لا تُعْبَد الأوثان؛ اضحكي سيلينا

فحمّلوها ثقل غمّازتين من نبيذ كروم عدن

وقالوا: ها هو عزازيل الغيور

يحمل حقائبه نحو البسيطة

لأنّ الربّ سمّاها أرض سيلينا".

***

 

اختفتْ سيلينا بعد ذلك؛ فانتكستْ حالتي كما لم تنتكس من قبل. كنت أعمل في مركز لغويّات في الجامعة، وكانت الفتاة القديمة تجلس أمامي، لقد اخترنا معًا من دون أن ندري العمل نفسه، لم يرضَ أحد منّا أن ينسحب ويترك الساحة للآخر.

في ذلك اليوم، وبعد أن غادر باقي زملائنا المكتب، بقينا نعمل على نظام المركز كلٌّ على حدة. لم نتبادل كلمة واحدة، فقد انقطع حبل الكلام بيننا، منذ أوقفتُها في منتصف الجامعة أمام الجميع، صارخًا في وجهها كمَنْ يمسك لصًّا.

كان الوجود قربها بـ "صمت الآماد الأبديّ"، بعد سنوات من أحاديث حاولتُ مرّة أن أحصيها ففشلتُ، يشبه ابتلاع خمس صبّارات وثلاث زجاجات موادّ مطهّرة؛ فأحاطتني - فور مغادرة المكان - دوّامة من السوداويّة، حتّى أنّ لحيتي الخفيفة زادت في الليل على قبضة يدي.

بحثتُ عن سيلينا، فعلمتُ أنّها سافرت في رحلة روحيّة بعيدة. كنت أعلم مكانها حين أسمع في نشرات الأخبار عن أشياء نادرة تحصل في مكان ما من العالم، كسقوط الثلج في بلد لأوّل مرّة منذ العصر الجليديّ، أو اكتشاف مئات الأزواج من طائر منقرض، أو انتخاب شاعر رئيس وزراء.

كان غياب سيلينا وحضور الّتي لا أحبّ تسميتها عصيبًا عليّ، كنت أمشي مضطربًا في ساحات الجامعة ساعات متواصلة، لاحظتُ وقتذاك زيادة عجيبة في عدد الملتحين، الماشين مثلي ومثل شخص ينتظر خبر ولادة زوجته، الّتي حذّرها الطبيب من الحمل بعد فشل المحاولة قبل ذلك أربع مرّات.

استمرّ الأمر أسابيع لا أذكر عددها، وبينما كنّا نهيم ذات يوم بلا بصيرة، سمعنا أحدهم يهتف بصوتٍ هزّ أركان الجامعة والمدينة الّتي تحتويها: "عادت سيلينا، عادت سيلينا".

حينذاك، شاهدنا أنفسنا تغادر الجامعة أفواجًا، كأنّنا خيوط تحرّكها يد لامرئيّة، متّجهين على الأقدام نحو بيتها، الّذي بدا أنّ الجميع يعرفون طريقه، دون أن يعلم أيٌّ منّا كيف يعرفه.

وقفنا تحت نافذتها، كانت مغلقة، فارتجفنا جميعًا. وقفنا حائرين ننظر في وجوه بعضنا بعضًا، حتّى أخذ فمي ينادي وحده سيلينا، فقلّدني الجميع صارخين: "سيلينا، سيلينا، سيلينا".

فُتِحَتِ النافذة، أطلّت سيلينا برأسها الجميل، نظرتْ إلينا نظرة عتاب لذيذ، ثمّ ضحكتْ لنا... فأبصرناها، بعد طول انتظار، تلك الضحكة المرصّعة بغمّازتين تنفخ الفراشات في بوقهما.

عادت سيلينا إلى غرفتها، تركتْ النافذة مفتوحة، تأخّرتْ ضحكتها قليلًا باللحاق بها. نظرنا إلى بعضنا بعضًا، فأبصرنا ذقوننا وخدودنا تلمع، وضحكاتٍ صنعتْها ’العقد القاعديّة‘ تقرص الأذنين.

 

 

* القصّة من مجموعة «جيجي وأرنب علي»، الحاصلة على جائزة «عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ» لعام 2019، والصادرة حديثًا عن «الدار الأهليّة للنشر والتوزيع».

 


 

أمير حمد

 

 

وُلِدَ في القدس ويقيم فيها. درس بكالوريوس علم الحاسوب من «جامعة بيرزيت». حصلتْ مجموعته القصصيّة الأولى «جيجي وأرنب علي»، وكذلك مجموعته الشعريّة الأولى «بحثت عن مفاتيحهم في الأقفال»، على جائزتَي «مسابقة الكاتب الشابّ» (2019)، الّتي نظّمتها «مؤسّسة عبد المحسن القطّان».