إلى الشاعر الحرّ المنسيّ في خياله

محمود درويش (1941 - 2008)

 

لم يمشِ إليّ نصّ بوقار كما تفعل هذه الخيوط الّتي تصعد أمامي الآن من قزّ الورقة، ولم أمشِ إلى نصّ بخوف كما أتعثّر الآن بين مخارج الأبجديّة المستترة وراء غيمة الفكرة.

هذه قصّتي. قصّتي أنا ومحمود درويش. أفرشها اليوم على مرأى الشمس كما توزّع بائعة الزهور الورد المخلّف من الأمس على دنِّ اليوم الجديد تحت الشمس القديمة، فتحنّط فكرة الجمال فيه لعاشق لا يسعه أن يختار وردة، فيكتفي بفكرتها مجفّفة كالمريميّة.

هذه قصّتي. قصّتي أنا ومحمود درويش. أفرشها اليوم على مرأى الشمس كما توزّع بائعة الزهور الورد المخلّف من الأمسِ على دنِّ اليوم الجديد تحت الشمس القديم...

إنّني أجزم أنّني أتفرّس هذه اللحظة في لون عينيه الشعريّتين بينما يحطّ سؤال نظّارته ــ الّتي يحبّ أن يرفعها بإصبعه دون قصد وهو يقرأ الشعر حين يتلمّظ آخر حرف انبجس من آياته كما يتلمّظ آخر رنين التصفيق الطويل ـ على أرنبة رغبتي في تأجيل هذا الفطام سنة أخرى. لقد كنت أؤجّل هذه الكتابة منذ سنتين لأنّني أعرف أنّه لن يغفر لي بعدها الحنين إلى حليب الشعرِ. يقول: الشعْرُ هو الشعْرُ. ويقصدُ: لا يحبّ البحر الالتفات، ويضيف بعد أن يشبك يديه قريبًا من وجهه: "والشعر لا يحبّ رائحة الحليب".

هكذا أمشي إلى اعتراف خبّأته منذ نزل عليّ ليلة السبت التاسع من (آب) أغسطس سنة ثمانية وألفين. لقد ماتت نخلة واقفة ودسّت رطبًا جنيًّا داخل كفّي قبيل انطفاء المجرّات والكواكب والقمر. هكذا جئت إلى العالم من الشعر بعد أن كبرت في واحة الأدب لأنّ الصدف شاءت أن أكون سليلة عاشقيْن للغة العربيّة، أدخلاني باكرًا جنّتهما السرّيّة المعتّقة برائحة كتب تحيي العظام وهي رميم! أذكر إلى اليوم موضع ديوانه الكبير المغلّف باللون الزهريّ في المكتبة.

انهمر الخبر على شَعري فبكى سواده وانحلّ على كتفي يدفّئ الفجيعة من برد الوداع اللاذع. كانت المرّة الأولى الّتي أختبر فيها تناقض حرارة الدمع ببرد الفجيعة المنبعثة من ياسمين آبّ. إنّه يلسع كما حبّات الماء الباردة الأولى على الجسد الحارّ.

لم أنتبه أنّ أمّي انتبهت إلى أنّني أحبّ محمود درويش حتّى نذر الإعلان المدّور في التلفزيون أفول بيت مدّور كان يشعرني أنّني أملك كلّ مدخول البشريّة من الطمأنينة بين يديه تمامًا كما يألف الفتى الحياة بين ذراعي أمّه. ما تزال دهشة عينيها مسمّرة أمام لحظتي الراهنة ومازلت أذكر ارتباكها أمام العويل الّذي تدفّق من صخور الصمت الّذي فشلت في كسره قبل أن تتّصل بوالدي المسافر لتخبره أنّ محمود درويش قد مات وأنّني فقدت الرغبة في اللغة.

خلّفت تلك الليلة الطويلة صداعًا لم ينته إلى اليوم. خلّفت هشاشة لا تخفّف حدّتها المياه العذبة الساخنة الطبيعيّة؛ فمنذ ذلك المساء - الّذي صار اليوم بعيدًا - صرت أنكسر بلا توقّف أمام أيّ جنازة تمرّ دون أن يعرفني بالضرورة صاحبها الميّت، ودون أن يدرك ضرورة أنّ نشيجي حلال على مَنْ أعرف ومَنْ لا أعرف أكثر. نعم، إنّ دموعي العذبة الساخنة الطبيعيّة وحدها من عجنت طين الشعر وبلّلت شفتيه لتسدّ الثغور الّتي نخرها غيابه في هشاشتي.

لماذا تحدجني بهذه النظرة يا محمود درويش الآن؟ ألستَ من يلحّ عليّ منذ سنتين أن أدلق هذا البوح السرّيّ أمام قرّائك العلنيين؟ لست أحمّلك وزر هشاشتي، بيد أنّي مدينة لك بهشاشة وزري الّذي جعلته طيّعًا مثل يدي في يدكَ نحو أسطورة العشب والشعر.

حاول أبي مرارًا أن يحكّ صوّان اللوعة الّتي قصمت طفولتي وحوّلتني فجأةً إلى أرملة. دخّن كثيرًا وهو يستمع إليّ أحدّثه عنك وعن حضورك الحيّ المتواتر في منامي. كنت أسحبه من سريره لينصت إلى تراتيلك الساخنة مثل رغيف الصباح، إذ كنت أخاف أن يفضحها نوره فتتبخّر مثل ماء السراب، وأيّ سراب أنَ يوثّب حواسّ الصحراء حول رهبتي. أسمع هسيس التفعيلة، تفعيلتك ولا تقع حدقتي عليها. لقد كنت أوقظه كلّما حكّ حجر البادية جلد الكلإ الشحيح ونشبت رغبة بحر من الرمل المتحرّك في جرّي إلى خيمة الشعر على ضربيها، وأيًّا كانت الشين مفتوحة أو مكسورة إلى بحر فرّ من عروض الخليل وتلميذه الأخفش تحت الأرض. ما أعمق هذه السرديّة الّتي تذكّيها شعريّة استعادتك الآن: ماذا لو أشار الدليل إلى اسمك في زمن الخليل؟ كنت لتصير بحرًا من الشعرِ محمودًا ومرتّبًا مثل الحواسّ الخمس. هكذا سخرت أنفتكَ العالية من طفل يبكيك، لكنّك يا محمود درويش بحر الشعر... كلّ الشعر وكلّ شعر وكلّ بحر!

منذ ذلك المساء ــ الّذي صار اليوم بعيدًا ـ صرت أنكسر بلا توقّف أمام أيّ جنازة تمرّ دون أن يعرفني بالضرورة صاحبها الميّت، ودون أن يدرك ضرورة أنّ نشيجي حلال على مَنْ أعرف ومَنْ لا أعرف أكثر...

هكذا أصدر أبي قرارًا في البيت فمنع أن يهمس أحد باسمك أمامي مدّة طويلة، وأن يدقّ جملة رأس فاعلها الموت حين تكونه. عمّم الفرمان على كلّ الزوّار واصطحبني يوم الأربعينيّة إلى بيت الشعر في تونس. بذل ما في وسعه ليحرف ذائقتي أكثر نحو سميح القاسم الّذي حضر يومها أو ربّما رأى في قصيدته صورة أبلغ من ثوب عزيز مصر المعافى من أنياب الذئب. قال لي ونحن نخرج عائدين: إنّ علاقتكما، أيّ أنت وسميح، أشبه بظلّ الشمعة الكبيرة الّتي تحجب ظلّ شمعة أخرى؛ إذ بقي هو في حيفا وخرجت أنت إلى الكون. لم أستسغ الحقيقة المنسابة من فصاحته الّتي ورثت قسطًا كبيرًا منها عنه وأجبت ببرود: لذا كانوا يسمّونك محمود درويش في الجامعة.

تحاول أمّي منذ ذلك التاريخ أن تغري منامي بطوق الحمامة وبوزارتيْ ابن زيدون.

أنتقي - وأنت تنظر إلى نظرتي إليك الآن - سلّم أفكاري لأحمّصها كما البنّ على هذا المشاع الّذي أسموه بياض الورقة. ألم يفلح العرب القدامى في فنّ الفِراسةِ؟ فليتفرّسوا في أثر البنّ الممزوجِ بطعم  محروق كلّما ازددت في الغياب سنة كلّما نمت مرارة البنّ أكثر في عشب اللغة. إنّه السلّم الّذي أستعيره دائمًا من أحمد المنسيّ في ملحمة حيفا كلّما أومأ مارسيل خليفة إلى جيش آلاته لينطلق الجنّاز: جنّاز لصورة حيفا في أفئدة اللاجئين مثلك وجنّاز لصورتك في أفئدة الميّتين بعدك مثلي. فلنذكّر القارئ الغريب الآن عن هذه السطورِ أو المولع بفنّ النميمة الّتي يوقد الرغبة فيها هذا الاعتراف، أنّ معجزة أحمد العربيِ جعلت الأعناق تشرئبّ من سلّمه إلى حيفا وأنّه وهبني - بعد السلّم - نيلًا كاملًا اسمه الكرمل؛ إذ أوحى إليّ من أعلى السلّم أن فصليّة أدرتها لسنوات تحيل على مدينة حرمت منها لسنوات فصيل ممكن لجنين استثنائيّ.

ثمّ عليّ أن أستند على أدوات الربط أكثر لأربط بين شعري المسدل على ليل الغياب الطويل وبين كبّة الصوف الّتي أتحسّس من انطياع خيوطها لأصابعي مكمن السطر الأوّل من كلّ نصّ. لقد جئت بالنذر أحمر هذه المرّة، مَنْ قال إنّ الأحمر لون الدم؟ إنّه لون الشعر المحفوظ في عينين أعياهما بياض لعبة الشعر الخطر ولم تمرّ ريح يوسف عليهما. كان عليّ أن أحبُكَ القميص وحدي من بصيلات شعري ومن خيوط الصوف. آه كم تبدو الخيوط حنونة على أيّامي المثخنة من أسئلة الضرورة الكثيفة.

لعلّ فكرة الخيط فعّالة (هل يحبّ الشعر صيغة المبالغة؟) لأنّه يشدّني إلى الواقعيّ كلّما أسرت الفرسُ بي إلى الخياليّ!

محمود درويش هو محمود درويش... يقرأ كثيرًا ولا يتكلّم إلاّ لمامًا. أفكّر دائمًا في جملته: "كم أنتَ حرّ ومنسيّ في خيالك"، منذ قرّرتَ أن توارى آمالنا في لقائك الثرى. أقول وأنا ألقّم القلم على إبرة الصوف ليفحّ الحرف: كم هو حرّ ومنسيّ في خياله الآن! يشرب قهوته، يحلق ذقنه، يقرأ جريدته، يستحمّ، يغيّر بيجامته، يلبس حذاءه (كلّما نظرت إلى حذاء تذكّرت قولك إنّ الأناقة تبدأ من الحذاء فهل في ما وراء الموت تحتفظ الشعريّة بذات مقاييس الذائقة؟).

ومحمود درويش علّمني أن أصفّف شَعري وطريقة تقبّلي الشِعريّ. علّمني أن أغمّس الشعر في النثر وأن أحبّ النثر كلّما أحببته أكثر. علّمني أن أفرط حبّات التشبيه من عنق الفرس العربيّة الأصيلة لأبحث في عين الفرس عن محَار الاستعارة الضروريّة ليكتمل المعنى في غربال النثر، حين أجلس في ظهيرة آبّ الرطبة أنقّي النثر من الشعر بغربال جدّتي العتيق. كان يردّد لي دائمًا "الشعريّ هو العتيق". وروّضني لأدرُسَ القمح المعدّ للسابلة والعصافير توريةً أو تشبيهًا "لم يؤتها إلاّ في المطالع".

علّمني محمود درويش أن أرتقي بنصّي إلى مصافّ النخبويّ. علّمني أن أنأى بنفسي عن حوض المثقّفين الّذين يستسلمون لرائحة النعنع المغرية. لقد كان يؤثر المريميّة...

علّمني محمود درويش أن أرتقي بنصّي إلى مصافّ النخبويّ. علّمني أن أنأى بنفسي عن حوض المثقّفين الّذين يستسلمون لرائحة النعنع المغرية. لقد كان يؤثر المريميّة. علّمني أن أحبّ فلسطين فأقدّمها إلى الدانوب بصفاء أشدّ من زرقته لغةً وصورة. علّمني أنّ السؤال الحقيقيّ للشعر في جبّة ريتسوس لا ابن قتيبة؛ فالقرّاء الخالدون هم سمة الجماليّ المطبوع لا التلقّي المصنوع. علّمني أن أنصت إلى الأصمعيّ وأنّ أستجيب لنداء الشعر عند المفضّل الضّبيّ. علّمني أن أجترح جماليّة الرثاء من مالك بن نويرة على تقديم واجب عزاء مهمّ لكنّه ليس ضروريًّا للخنساء. علّمني أن أقرأ المعرّيّ وأنساه، وعلّمني أنّ الشعر ينحدر من سلالة أبي الطيّب المتنبّي فكان جدّه الشعريّ وصار اليوم هو جدّي الشعريّ.

علّمني أن أصيّر طين الشعر نثرًا يخلدُ. لقد أورثني الرغبة في الخلود دون الانصراف عن حبّ الحياة. لكنّ للخلود ثمنًا باهظًا لعلّ أشدّه الطريق الوعرة في رتابة اليوميّ كما في صرامة الشعريّ وفي انتقاء الخامّ الشعريّ ودسّه تحت مسام الجوهر النثريّ.

لقد أعطاني محمود درويش ما لم أحلم به يومًا: لغةً صالحة للكتابة والخلود.

نصحني دائمًا أن أتخلّى عن عادتي في تلمّس كتبه قبل كلّ وضع. يقول "لا تنصتي إلى جيرار جينت دائمًا"، بيد أنّني أعترف أنّ ذلك لم يكن سهل الترويض في نفسي. كنت أخاف ألاّ أرى صورة قامتي الصغيرة في ظلّه الطويل فأطمئنّ قبل أيّ كتابة إلى أنّ نصوصه في لوحي الداخلي محفوظةً من كلّ نسيان. كان يضحك كثيرًا ويشبّه هذه اللحمة بعلاقة الطفل بإبهامه.

هنا... عاد ليقول: "أنصتي إلى جيرار جينت"، فلقد قرأت قبلكِ المعرّيّ ونسيته. شُمّي آثار كفيّ وانسي أنّني قلت يومًا إنّ المتنبّي جدّي الشعريّ.

محمود درويش... أخذ دموعًا كثيرة من مآقيّ، لكنّه كما الشعر سخيّ. وهبني سرّ الكتابة وسرّ اللغة وكنه الجماليّ العميق.

منذ اليوم سأطوي جبّتكَ وأخبّئها في خزانة عمري لنخرج إلى الأبجديّة اثنين، فما أجمل أن أكون حفيدة للبحر- الشعر، وما أجمل أن تشرب الشاي مع المتنبّي هادئيْن.

 


 

إشراق كرونة

 

 

 

كاتبة تونسيّة، باحثة وطالبة دكتوراه، وأستاذة في «جامعة ليون»، فرنسا، وتكتب في الأدب العربيّ في عدد من المجلّات الثقافيّة.