أوائل شاتيلا

كتاب «احلمي يا سيّدي» (2022)

 

كانت أفكار زين العابدين، أبو سكّر، سهلة الانسياب، تخرج من منبع في رأسه، وتنتهي في بحر كبير من القصص واللحظات الّتي يحكيها لنفسه. غيّره السفر كثيرًا، المكوث في بيت ابنه نضال أجبره على القعود والنظر، إمّا إلى الثلج المنهمر في ضواحي ستوكهولم، وإمّا إلى الناس يعبرون الشارع ويكملون السير، وهو على المقعد يتشرّب الشمس النادرة، رغم أن لا أحد ينظر إليه وأنّه ينظر إلى كلّ الناس. قعوده هكذا أجبره على أن يحاور نفسه، يحاول أن يتمرّن على كلّ القصص الّتي سيرويها إلى كلّ هؤلاء الغرباء يومًا ما، بالسويديّة طبعًا.

لكنْ نضال يؤثّر في هذا الحوار، اليوم يجد نفسه مرعوبًا من كيف يذكّره بِكره بأبي محمّد، حين يسمع ابنه يشتم كلّ البنات ولا سيّما العربيّات، وكيف يهرب من توبيخ أمّه على لسانه السليط، وعلى حقيقة أنّه يبدو مهووسًا إلى حدٍّ ما بالجنس. يقضي الوقت في الاستحمام والصلاة والذهاب إلى النادي الرياضيّ، يعمل أربعة أيّام في الأسبوع، ونهار الجمعة يصلّي ويلعب كرة القدم. لا يتزوّج نضال، رغم أنّ الزواج حديثه المتواصل ومشكلته الدائمة الّتي تتطلّب حلًّا، منذ سنة تراجع عن خطبته لفتاة سوريّة لم يتعرّف عليها سوى عبر الفيديو؛ لأنّه اكتشف أنّها لا تضع الحجاب أمام صديقاتها. كانت المرّة الأولى الّتي يسبّ الدين زين العابدين بهذا الشكل أمام ابنه، وكانت المرّة الأولى الّتي يقتنع بأنّ في ابنه لوثة ما، اعتلالًا عقليًّا. لم تكن المرّة الأولى الّتي تمنّى لو كان ياسر أقرب إليه، لكنّه هرب من سطوة نضال. كانت أمّه تردّد أمامه دائمًا أنّ البركة الّتي حمل هو بعضًا منها، ستكون للصغيرة الّتي حملت بها زوجته بعد عشر سنين. كانت تقول أشياء كهذه دائمًا، لم يرِد نضال أن يأخذ البركة، كان مشغولًا بحروب يخلقها لنفسه ولا ينتصر عليها.

 أخذ الحافلة في الصباح البارد مع نضال الّذي أنزله قرب السفارة اللبنانيّة وأكمل طريقه. لم يستقبله أحد في الغرفة الصغيرة الّتي انتظر فيها نحو الساعة، وحين ظهرت السيّدة أصرّت على أن تنصحه بالذهاب إلى سفارة فلسطين، قبل أن يرفع صوته قليلًا، فأنّبته لأنّه لم يحترم نفسه، ولم يشرح لها أنّه من لبنان، والأهمّ من ذلك، أنّها نسيت أنّ ثمّة فلسطينيّين يعيشون في لبنان، ومسموح لهم بالسفر. نسيت، هكذا قالت. وهكذا انصرف زين العابدين لأنّه أصلًا لم يكن لديه موعد واستصعب الحديث معها؛ استصعب كلّ هذا الموقف. كان يريد أن يستعلم فقط عن كيف ينظّم الأوراق المطلوبة منه للبدء في إجراءات الإقامة الدائمة.

نزل إلى الشارع، ومشى ليبحث عن مقهى، لكنّه لم يجد ما يبحث عنه، وكان يبحث عن القهوة الّتي يُسِرّ إليها هربًا من زوجته والحاجة وكلّ ضجيج المنزل. كانت القهوة قبل خطوات من «جامع الإمام عليّ»، وفيها يتجمّع تجّار الأقمشة منذ الاستقلال تقريبًا، في الأصل كانت ممرًّا ضمن أحد المداخل، ترتبط بقناطر سُدّت لاحقًا بباطون، وأصبحت حيطانًا بال الرجال عليها كثيرًا. تُركت القهوة وهُدمت الممرّات حين اكتشف الناس محاسن السكن في الطريق الجديدة. سمع مرّة من رجل كان يرتدي بدلة بيضاء وطربوشًا، أنّ كلّ هذه الممرّات قديمًا كانت تفضي إلى حوش واسع للنساء فحسب، يجلسن فيه بعد التسوّق ليدخّنّ النرجيلة ويرقصن. قال الرجل إنّ مفتي بيروت شخصيًّا طلب من التجّار طرد صاحب الحوش، وأتى إلى القهوة ليطلب منهم ذلك بعد صلاة الجمعة.

يتذكّر زين العابدين هذا النهار وهذا الرجل كأنّه ضدّ النسيان، كان نهارًا ماطرًا، وكانت القهوة فارغة من الزبائن ما عداه والرجل الّذي ارتدى البدلة البيضاء، الّذي كان يدخّن نارجيلته وينظر كثيرًا إلى الساعة الفضّيّة في يده. تحوّل هذا الرجل إلى حكواتي، وباح له بأشياء غريبة حتّى خفّ المطر. حين توقّف المطر وفُتح باب القهوة السميك، وضع قروشه على الطاولة، وتأبّط أقمشته الملفوفة بورق خياطة ومشى. هكذا كنت تعرف أبناء العائلات المستورة، كانوا يكتبون في دفاتر من ورق خياطة. تهيّأ له أنّه شمّ رائحة الدفاتر الّتي كانت الوكالة توزّعها عليهم في أوّل العام الدراسيّ. كان اسم الوكالة محفورًا على غلاف سميك. شمّ رائحة الأستاذ وسيم الّذي مشى معه يومًا ما من المدرسة؛ ليتعرّف إلى عمّه للمرّة الأولى. مشى تحت ذراعه، كان يبكي وكان الأستاذ وسيم يطلب منه الكفّ عن البكاء. لم يقل لأحد سوى لزهرة إنّه بكى؛ لأنّه كان مقتنعًا بأنّه سيرى أباه وستكون المفاجأة.

كان زين العابدين يهرب من حياته إلى هذه القهوة؛ ليشرب شايًا ويدخّن قدر المستطاع. هناك تعرّف على داوود سِنُّو الّذي أصبح لاحقًا يُعرف بـ ’سليم المِستري‘، كان رفيقًا ثوريًّا مكلَّفًا بخلق وحدة عمّاليّة من أبناء عائلات الملعب البلديّ الفقيرة، ومسؤولًا عن التنسيق مع الكوادر الفلسطينيّة، الّتي ظلّت تكبر وتدفّقت من شاتيلا إلى محطّة الدنا، وفي اتّجاه مخيّم الداعوق. آنذاك كان الملعب البلديّ محاطًا بالتراب الأحمر، ولم يكن يشبه الحيّ الّذي تركه؛ ليركب الطائرة هذه المرّة إلى فرنسا ومن بعدها إلى ستوكهولم. لا يزال صوت القحبة من السفارة في رأسه، أزعجته كثيرًا. ومن يعرف زين العابدين يعرف أنّه بارد الطبع، لكنّه ليس بارد الإحساس. نسيت أخت الشرموطة أنّ هناك فلسطينيّين في لبنان، يقول لنفسه ويمشي بين الناس، يعلمون أنّه غريب عنهم، وهو يعلم أنّه غريب بينهم.

 يردّ على مكالمة نضال، ويخبر ابنه بالحاجة إلى حجز المواعيد في السفارة، وأنّه تمشّى وضاع قليلًا. لم تكن المرّة الأولى الّتي يطلب زين العابدين من أحد المارّة أن يكلّم ابنه على الهاتف، لا يرضى الكثيرون من أوّل مرّة، عادةً ما يطلب من النساء الأكبر سنًّا، دائمًا ما يضحك السويديّون بقلق حين يقوم بهذا، ومن بعدها يخبره نضال عن موقعه من البيت: "آه ... بابا اسمع ... يعني ساعة تقريبًا من البيت". ويطلب منه الانتظار في مكان ما؛ ليرسل سيّارة لاصطحابه. يرسل إليه عادة سيّارة تاكسي يعمل عليها محمّد صبحي الهارب من غزّة، والمؤمن أيضًا كابنه. وقف ينظر إلى السيّدة تتكلّم مع ابنه، وتصدر أصوات الدهشة، وتردّ الهاتف له. (سنكيو جود جود سنكيو). يمدّ يده في الهواء ويضربها على صدره كعربون شكر، فترتبك السيّدة وتقوم بنفس الحركة. يكمل الحديث ليعرف كيف سيصل إلى البيت.

 جلس على المقعد لنصف ساعة تقريبًا يتجمّد من البرد، قبل أن يسمع صوت محمّد يناديه. كان يفكّر في سليم المستري، أسيتّصل فعلًا به؟ كانت الفكرة مستحيلة، وقد قالها لزوجته مئات المرّات. حسب أنّ الصوت الآتي من الراديو في السيّارة لمارسيل خليفة، لكن اتّضح أنّه أغنية دينيّة عن فلسطين في الجنّة. يرتبك زين العابدين في مواقف كهذه، يحسّ بأنّه كافر حين لا يستسيغ الأغاني الدينيّة، وحين يضطرّ إلى الذهاب إلى صلاة الجمعة مع نضال. يستغفر الله دائمًا وهو يصلّي الجمعة؛ لأنّه يصلّي مجبرًا كأنّ الله متطلِّبْ، يشعر بأنّه يُشعِر الله بأنّه ربّ ثقيل الدم، يورّطه في صلاة جماعة لا يحبّ أحدًا من مصلّيها. وحدها زهرة تقول له: (ترحش يا زلمة، هو إبنك ولّا أنت إبنو؟). يتراءى لزين العابدين أنّه بدأ يخسر منذ أن خرج من شاتيلا.

 

* من كتاب «احلمي يا سيّدي»، للكاتبة الفلسطينيّة النسويّة سارة أبو غزال، من إصدار «دار خان الجنوب» في برين، وهو متتالية قصصيّة تعتمد فيها الكاتبة على التاريخ الشفويّ، وتدخل في تفاصيل الحياة اليوميّة لمخيّم شاتيلا الفلسطينيّ في بيروت.

 


 

سارة أبو غزال

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة نسويّة تسكن مدريد، تستلهم كتاباتها السرديّة من التاريخ الشفويّ للنساء، وتستكشف تقاطع الخطاب النسويّ مع التراث الشعبيّ الفلسطينيّ. تنشر القصص القصيرة والمقالات في عدّة منابر أدبيّة ونقديّة.