«طفولتي حتّى الآن»... عبور إلى الضفّة الأخرى

كتاب «طفولتي حتّى الآن» | «الدار العربيّة للعلوم ناشرون» (2022)

 

حينما أطلق الروائيّ الكولومبيّ غابرييل غارسيا ماركيز العنان لمقولته الشهيرة "إنّ الحقيقة أفضل شكل أدبيّ"، لم يكن يقصد تمامًا الحقيقة العارية؛ ببساطة لأنّها ستصبح حقيقة تنقصها صياغة جماليّة في حاجة إلى وصف حسّيّ، وبعض مجاز، يمكنهما أن يشكّلا معًا منطقًا مقبولًا للتفاصيل والأحداث، حيث لا أدب سرديًّا يمكنه أن يتحقّق من دون تفاصيل؛ وهو ما ذهب إليه إبراهيم نصر الله في عمله السرديّ الأخير «طفولتي حتّى الآن»، الصادر عن «الدار العربيّة للعلوم ناشرون» (2022)، وعبّر عنه في الإهداء بقصد أو دون قصد حين كتب يقول: "عن الخيال الّذي عشته، والحقيقة الّتي عاشتني".

أقول "عمله السرديّ الأخير"؛ لأنّه عمل يقوم على أسلوب السرد المتقطّع، يتخطّى جنس الرواية بمفهومها التقليديّ الشائع، وينزاح قليلًا عن وصفه بالسيرة الذاتيّة بتعريفها المألوف؛ إذ توجد التفاصيل الحقيقيّة مقنّعة بالكثير من الحيل الأدبيّة التخييليّة، الّتي سمحت للكاتب أن يتحدّث عن الهمّ الجمعيّ ببُعد فرديّ، والعكس صحيح؛ ما خلق حالة من حالات الحوار الداخليّ والخارجيّ في آن؛ داخليّ بين شخوص العمل وكاتبه، وخارجيّ مع قارئه.

 

بين الحكاية والذاكرة 

الحكاية، إذن، حكاية شعب اقْتُلِع من أرضه، فبات جزءًا منه يحيا نصف حياة، في نصف أرضه، أو أقلّ قليلًا، والجزء الآخر في الشتات، وللأخير هذا ذكريات تتشابه تفاصيلها دون أن تتطابق، فلكلٍّ منهم حكايته الخاصّة والفريدة، لكنّها أيضًا حكاية جمعيّة تتقاطع فيها جرعات الألم، كما تتشابه ملامح الأمّهات؛ ببساطة لأنّ الفقر في اللجوء شريك أساسيّ في الحياة كما عبّر نصر الله بالقول: "إذا كان عدد أفراد العائلة خمسة، فالفقر سادسهم، سبعة، فالفقر ثامنهم، أمّا إذا كانوا فوق العشرة، فإنّ الفقر أمّهم وأبوهم".

توجد التفاصيل الحقيقيّة في «طفولتي حتّى الآن» مقنّعة بالكثير من الحيل الأدبيّة التخييليّة، الّتي سمحت للكاتب أن يتحدّث عن الهمّ الجمعيّ ببُعد فرديّ، والعكس صحيح...

ولأنّ الذاكرة الّتي لا تملك تذكرة عودة أكيدة، لا يمكنها أن تتقمّص دور العائد إلى الحياة، راح نصر الله في مفتتح طفولته الأولى تحت عنوان «قبل كلّ شيء، وبعد كلّ شيء» يتأبّط قلبه الصغير، ليفتح باب ما كان ولم يَعُد، باب وشوشات سعى أصحابها وراء وصولٍ تأخّر كثيرًا، قبل أن يستعير الكاتب صوت نور، شريكة الزمن الرمليّ، لتعبّر عن قلقه المشروع حيال الذاكرة، "أخاف على الماضي، أخشى ألّا يعود"، لتأتي الإجابة على لسانه هذه المرّة، سريعة وبديهيّة: "إن لم نستعد الماضي، فسنخسر المستقبل".

هكذا هيّأ الكاتب قارئه، إلى أين سيقودنا المسير بين ردهات سرديّة صيغت لتؤكّد، أنّ مسيرة شعب، كما الشعب الفلسطينيّ، لم تكن دائمًا متّكئة على قدمين، وإنّما كانت ولا تزال محلّقة بجناحين: جناح الحقّ وجناح الأمل. وإن تجلّى تحليق إبراهيم الفتى وشركائه، قاسم وبشير ونبيل، في فضاء مطار خطّه بمدرجه على الجدار الخارجيّ للبيت المأوى، أو المأوى البيت، لا فرق، طالما كان بيتًا مؤقّتًا بات دائمًا، إذ يقول نصر الله: "وعدنا إلى بيوتنا ونمنا، وحين استيقظنا عدنا إلى تلك الميتات كلّها من جديد، ونجونا".

النجاة ما بين زمنين، أو مكانين، ليست حدثًا قدريًّا، بقدر ما هي وقت إضافيّ، دُوِّنَ استدراك متأخّر لحكايات الموت، بوصفها مقابلًا دلاليًّا لموت الحكايات، وهو ما يمكننا أن نفهمه من قول الراوي على لسان العمّة: "دائمًا أحسّ بأنّ الصليب المعلّق في رقبتي نجا، لكنّ المسيح مات"، وتتساءل: "لماذا ينجو الصليب في كلّ مرّة يكون هناك قتل، ويموت المصلوب؟". الصليب المعلّق هنا، قد يكون البيت بما يرمز إليه المفتاح المحفور فوق صدور الأمّهات، في ما المسيح المصلوب، هو المُهَجَّر بفعل فاعل تعمّد تغييبه إمّا اقتلاعًا وإمّا قتلًا.

على الرغم من كون "الحزن نصف الموت" كما تؤكّد عايشة الأمّ، إلّا أنّ سرّ قوّة الحياة الكامن في الطقوس الاعتياديّة للناس، حيث الأفراح لا تقلّ أهمّيّة عن الأحزان، والرقص عن العويل، استمرّت الأعراس، تمامًا كما تُفْتَح بيوت العزاء، ما دفع الضابط إلى "التحقيق مع الجائعين للفرح"، ليس بهدف التحقيق، لكن بحثًا عن جواب محيّر: أين يكمن الفرح بالضبط؟ أفي الرأس، أم في القلب؟

 

تقعّر الذاكرة يكوّن الرؤية

نصر الله، بذكاء لافت، حرّك الزمن الروائيّ لسرديّته بالكشف لا بالستر، فنجده مرّة يقول: "أخبرت جورج بلا مقدّمات، أنّني أكتب الشعر، وأنّ نور أوّل مَنْ يقرأ قصائدي، وأمّا فصول روايتي فهي تقرؤها أوّلًا بأوّل"، لنلحظ أنّه في هذا المقطع تحديدًا جمع ما بين الماضي والحاضر؛ ففي الماضي، يخبر جورج أنّه يكتب الشعر الّذي تقرؤه نور، وفي الحاضر تقوم نور بفعل مضارع لتقرأ أوّلًا بأوّل فصول روايته الّتي بين أيدينا؛ بل يدوّن تعقيبها أيضًا مع نهاية كلّ فصل، في ما نسمعه في مقطع لاحق يقول: "لا أعرف متى يبدأ العمر بتغيير سرعته، هل من اللحظة الّتي نولد فيها؟ بالتأكيد، لكنّ إدراكنا لسرعته هو لحظة وجودنا الحقيقيّة، أو لعلّ ذلك إدراكنا لبداية رحلة غيابنا"، ولننتبه إلى أنّ حديثه هنا بصوت الراوي العليم المطّلع على ما كان، وما يمكن أن يكون، أَوَلَم يعمد إلى كسر نمطيّة الزمن في تسلسله التقليديّ والمنطقيّ؟

وظّف نصر الله البنية الزمانيّة في سرديّته في بعدها الإنسانيّ، المكوّن للأحداث وحيثيّات ترتيبها المميّز بين زمن السرد وزمن القصّة، بوصفها مظهرًا حسّيًّا حيًّا وشريكًا، وُزّع بين مركز وهامش؛ مركز الماضي، وهامش الحاضر، وإلى الجوار منه المستقبل، حيث تتقعّر الذاكرة لتتكوّن الرؤية؛ فهي ذاكرته مع عايشة الأمّ الّتي أفنت حياتها في تحدّيات متتالية، لتقول: هذا الّذي تقرؤون الآن، أنا وإن غبت. هي ذاكرة العمّة المدفأة، بكلّ ما ترمز إليه فكرة الحاجة إلى احتواء ما في حضن وطن مسلوب، وهي رؤيته وشركاء الحلم، نور وقاسم وبشير ونبيل، كلّما أعلن رحلة جديدة، ركبوا بساط الخيال.

وظّف نصر الله البنية الزمانيّة في سرديّته في بعدها الإنسانيّ، المكوّن للأحداث وحيثيّات ترتيبها المميّز بين زمن السرد وزمن القصّة، بوصفها مظهرًا حسّيًّا حيًّا وشريكًا، وُزّع بين مركز وهامش...

ولأنّ "الناس جُنّوا (...) والماء في البئر كان الموت لا الحياة"، كان السؤال: مَنْ يستطيع أن يتذكّر عطشه وهو يغرق؟"، والاقتباس هنا معكوس؛ لأنّ عطش نصر الله في هذه السرديّة كما عطش الناس، لم يكن للماء، قدرَ ما كان للطفولة وحكاياتها الّتي لم تبرح الذاكرة، ليس لأنّه يعيش ’نوستالجيا‘، لكن لأنّ الحنين هنا، حيلة دفاعيّة تؤكّد أنّ الحاضر عبثيّ وسخيف، لم يحقّق ولو جزءًا بسيطًا من حلم تلبّس فردًا من جماعة، وجماعة من أمّة، كلّ حلمها أن يعود اللّاجئ سالمًا إلى بيته وأرضه وشجره.

في هذه السرديّة، "يبقى الموت موتًا، ولا انحياز إليه؛ لأنّ المسألة لا تشبه صندوق اقتراع من تلك الصناديق الّتي حُكم علينا الذهاب إليها دائمًا، للاختيار بين سيّئ وأسوأ". ليصبح السؤال: مَنِ السيّئ؟ ومَنِ الأسوأ؛ الغرباء أم الأقرباء؟ في إشارة نقد سياسيّ واضح للحالة العربيّة بكليّتها، والفلسطينيّة بخصوصيّتها.

في هذه السرديّة خدش للذائقة العامّة، بفعل المسّ بكلّ ما قرأت هذه الذائقة قبل التورّط في «طفولتي حتّى الآن»؛ فهي ليست مجرّد سرديّة تقول حكاية إنسان، لكنّها جمْع ذكريات من لحم ودمّ، ترى شخوصها مرّة إلى جانبك، ومرّات أمامك، تصدم عينك فرحًا ووجعًا، وفي الحالتين تبكي، لتقول: إنّها حكاية كُتِبَت لتعبُر بنا إلى الضفّة الأخرى من الحلم، حلم الحرّيّة والتحرّر من نكبة وقعت، ولا تزال فصولها تتكرّر.

 


 

أحمد زكارنة

 

كاتب وإعلاميّ فلسطينيّ، يعمل مذيعًا في «الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون الفلسطينيّة»، صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان «ما لم أكنه» بالإضافة إلى كتاب «وعي الهزيمة». يكتب المقالة في الشأنين الأدبيّ والسياسيّ في عدد من المنابر العربيّة.