حَلَق ميلاد ودولة الحراميّة

لوحة سهاد الخطيب

 

لا تحاول هذه السرديّة أن تلتزم بخطّ التراب الّذي يشير إلى نقطة بداية لعبة العَدْو. لقد فُطِرت على المشي منذ نزلت من لسان حاملها اللغويّ، الّذي تتعثّر مخارج الحروف عنده في طفولته السريعة. لم أجرّ قبل هذا النصّ سرديّات شفاهيّة عابرة نحو التدوين كما أفعل اليوم. عادة ما تجرّني السرديّة إلى الكتابة، غير أنّني أكافئ النثر بمعجزة مهد تكلّمت فيه ميلاد وليد دقّة صبيّة. ولعلّ من هبات اللغة علينا أنّ العَدْو صنو الركض، ومحيل لغويّ فطريّ على العدوّ الّذي يشتدّ بطشه باشتداد التضعيف عليه.

تعوّد والدها دائمًا، منذ ولادتها، على تأريخ كلّ ما يكتبه حسب تقويمها الميلاديّ، وبهذا المعنى فإنّ هذه السرديّة مدوّنة في بداية العام الثالث بعد ميلاد.

 تُحَتِّم عليّ البنية النصّيّة أن أضرب ملاحظة ضروريّة في البداية: لا أعرف كيف حبكت هذه القصّة تناصًّا بين فكرة القرط الأسير وبين كتاب قديم اسمه «العاشق الأسير»، دوّن فيه كاتبه الفرنسيّ جان جينيه يوميّاته مع الفدائيّين الفلسطينيّين في بيروت.

 

"هسّة بيوخذوه منّي الحراميّة"

كان يومنا سيكون عاديًّا، يصحو فيه النعاس ككلّ يوم من كسل الفجر، ويتثاءب فيه التثاؤب على حافّة الشفاه الّتي تنتبه إلى سيرورة الحياة، من رغوة الماء المخفوق بين سدود الأسنان الكثيرة.

وكان يمكن أن يكون يومًا عاديًّا، تُحْيي فيه الشمس خطوات الخبز نحو الفرن. كان يمكن أن يكون يومًا عاديًّا يمضغ فيه الناس رتابة الهزائم المتعاقبة على أحلامهم وأحلام أسلافهم، لولا أنّ ميلاد تسمّرت أمام مشهد وضع حَلَقٍ في أذنيّ، فاقتربت منّي - حين دعوتها إلى أن تضع واحدًا من خاصّتي - هامسة كأنّها تطلعني على سرّ مخيف: "بدّيش. هسّا بيوخذوه منّي الحراميّة". لم تقف ميلاد عند الملفوظ الّذي تدرّج من حلقها منسابًا، بل قالت ما قالت وهي تنبش في كيس أدوات الزينة؛ بحثًا عن الحمرة الّتي تراها مناسبة - إذ كانت تختار لي كلّ يوم من أيّامها الخمسة الّتي قضتها عندي - الحمرة الّتي عليّ وجوبًا وضعها قبل الخروج.

أعترف بأنّ عدوى ’التسمّر‘ انتقلت إليّ. كانت تتحرّك على نحو عاديّ بعد الجملة/ الحدث، وكنت أقرب إلى الحجر منه إلى البشر، أتأمّل دلالة العاديّ في كلماتها، وفي وعيها بالأشياء حولها. أمّا خافقي فيحكّ صوّان السؤال داخلي: كيف لطفلة السنوات الثلاث أن تحمل وعيًا مفجعًا بالشرط التاريخيّ اللئيم، الّذي يعصر طفولتها كما عصر من قبل سنوات من عمر أبيها الطويلة وراء القضبان؟ وربّما من هبات اللغة علينا أنّ الحَلْقَ يُحيل على حَلَقٍ تُوَشّى به الأذن، فإذا غصّت اللام فيه أحال على مخرج الحرف الأوّل. لقد أسر الحَلْقُ ساكن اللام، وظلّ الحَلَقُ بالفتح حرًّا، تروي من خلاله هذه البنت قصّة أسر حلقها، وأسر والدها.

انهالت أمامي في تلك الثواني - بينما تختار ميلاد لون الحمرة – عناوين، استطاع وليد دقّة أن يحملها بين أسنانه خارج السجن. إلى «صهر الوعي» (2010) أرمي، وإلى سرّ سيفه كما سرّ زيته، وغيرهما من الدراسات الّتي أفلتت من زوجة أبيه - كما يحلو له أن يصف علاقته باللغة العبريّة - فنزلت علينا بلسان عربيّ فصيح.

ثمّ لاحت لي ميلاد فجأة شخصيّة مثل السمّور والأرنب وجود. كأنّها في غرفة الحمّام – أين روت لي ميلاد قصّة حلقها المسروق - تلك تكتب فصلًا جديدًا من سرّ جديد. جعلت إسرائيل من خبزنا العاديّ اليوميّ حدثًا استثنائيًّا، فلا يمكن تحت دولة الاستعمار الّتي تعيش في ظلّها ميلاد أن أقترح عليها، ببساطة ودون تحفّظات، حَلَقًا تضعه في باريس قبل فسحة التنزّه فيها؛ لأنّه يخمش يومها، ويذكّرها بحَلَقِ الباندا الأسير الّذي جاءت إسرائيل مدجّجة إلى بيتها في باقة لتصادره. ليس من حقّ أبويها أن يملكا شيئًا باسميهما، لا بطاقة بنكيّة، ولا راتبًا يُصْرَف على حسابيهما، ولا بطاقة ائتمان، ولا بيتًا، ولا سيّارة. وليس من حقّ بيتها في باقة الغربيّة أن يأوي باندا تمثّل لصبيّة صغيرة على شكل حَلَق. إنّها الدولة الّتي تفعل كلّ ما في وسع عتادها العسكريّ، وجيوب مخابراتها الطويلة والقصيرة، حتّى تقلب أحلام طفلة إلى كوابيس. هكذا صهرت ميلاد وعيها الطفوليّ في مشهديّة لا يُفْترَض أن تعيشها، فكان أن رأت وهي صغيرة حَلَقَ باندا يؤسر مع علبته المخمليّة من بيتها، دون أن يحترم القانون أنّه قاصر عن فعل كهذا، كما لم يحترم القانون ذاته أنّ صاحبته طفلة قاصر عن هزّة مشينة كهذه.

 

معاقبة الباندا

وطفقت أفكّر في مغزى "الجيش الّذي لا يُقْهَر"، من مصادرة حَلَق باندا، من بنيّة صغيرة لا تعرف من الأرض سوى تورّط ساقيها في المشي حديثًا عليها، ولا تعرف من البلاد الواسعة المختنقة سوى البيت والحضانة، وبيت ’تيتا إمّي‘، أي جدّتها كما تناديها.

هل تعاقب ’الدولة‘ الشرّيرة وليدًا فتصادر حَلَقَ ابنته؟ هل تعاقب ميلادًا جاء يَسِمُ وليدًا بمقولة الأبوّة؟ أم تعاقب الباندا لأنّه انتصر لطفولة بريئة، فاستحال حَلَقًا تسعد به بنت في سنّ السنوات الثلاث؟

لم يكفِ أشرار هذا الفيلم البائس أنّ وليدًا قضى أربعين عامًا من عمر الدولة - دولتهم المزعومة - في السجن؟

نعم، كان يجب أن تقتحم الفكرة الصهيونيّة الوعي الفلسطينيّ المنصهر في دم ميلاد دقّة، حتّى تعرف أنّ دولة الاستعمار تأسر البشر كما الحجر، كما حَلَقٍ على هيئة باندا، إذا شعرت بالنقص.

هكذا وفّرت طاحونة القمع الصهيونيّة على وليد درسًا كان لا بدّ من أن يعطيه لميلاد، عن معنى أن تكون فلسطينيًّا، وعن معنى أن تكون فلسطينيًّا داخل ما اتّفقت الخيانة الدوليّة على تسميته ’الخطّ الأخضر‘، وعن معنى أن تكون فلسطينيًّا هاربًا من فكرة الأسر الّتي تشدّ وثاق أبيك، إلى فكرة الحرّيّة الّتي تسمح لك أن ترى الباندا ولو حَلَقًا، وعن معنى أن تكون فلسطينيًّا لأب أسير غفلت عنه كلّ الصفقات، وتناست كيانه ’أوسلو‘؛ مدينةً واتّفاقًا.

صهرت هذه المصادرة وعي ميلاد الفطريّ في وجعها الطفوليّ، من حَلَقٍ مسلوب من خزانة غرفتها عنوة. وها هي تكتب مرّة أخرى سيرة والدها، ومن ورائه جيل كامل من الأسرى الفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر، الّذين لم يروا منذ سنوات طويلة لا خطًّا ولا لونًا أخضر ولا باندا.

تفعل سناء - والدتها - ما في وسعها لتصرفها عن التفكير في الحادث؛ بأن تعيد إلى متخيّلها الذهنيّ فكرة الأب الخارق، الّذي يقاتل ’الحراميّة‘ ليعيد لأميرته كلّ متاعها المأسور عندهم.

ولعلّ أيضًا من آيات اللغة العجيبة، كما القدر، أنّ الباندا ووليدًا يشتركان في فكرة الأسر؛ فكلاهما اليوم أسير. ومن قسوة المشهد على طفولة ميلاد دقّة أنّ لها في الأسر والدًا تزوره مرّتين شهريًّا بشكل دوريّ، بعد معارك في المحاكم لسنة ونصف سنة من ولادتها، تثبت أحقّيّة الاسم والفعل، وأنّ لها حَلَقَ باندا تفتقده أذناها لن تعرف طريقًا لزيارته أبدًا.

 

سخريةٌ مِنْ أسلاكهم الشائكة

إنّها يوميّات ميلاد تحت دولة غاشمة سلبتها حقّها الطبيعيّ في وجود والدها إلى جانبها، كما قضمت حقّه الطبيعيّ في احتضانها أو في رؤية البحر، سيّان. ألم تقل له مرّة ميلاد إنّه لن يستطيع رؤية البحر لأنّه لا باب في السجن ليفتح؟ أيّة أبجديّة تزحف على لسان طفلة، تشكّل وعيها التامّ بالعامّ والخاصّ والخارج والداخل في حولين كاملين؟ أحالتني هذه اليوميّة الصغيرة الّتي نثرتها ميلاد أمامي على كتاب أبيها «يوميّات المقاومة في مخيّم جنين» (2004). تصفّف ميلاد كتب والدها كما تصفّف شعرها الذهبيّ بعناية ودقّة مذهلتين. وها هي اليوم تخبر عن أسرار قرط أسير؛ باندا آخر لا يحبّ الاستعمار، ويحلم بأن يتحرّر من السجن.

نعم، لعلّ أقسى ما في الموضوع أنّ ميلاد لا تعرف بعدُ أنّ الحقيقة قاسية. تستعمل بنت السنوات الثلاث عبارة ’حقيقيّ‘ للدلالة على أيّ متخيّل ذهنيّ تعتبره يطابق دلاليًّا معنى الحقيقة أو الملموس، لكنّها لا تعي بَعْدُ أنّ ما تجترحه من معانٍ ’قاسية‘ على طفولتها، هو انعكاس دقيق وعميق لصورة الفلسطينيّ داخل كلّ الخطوط الخضر وخارجها، بل انعكاس قاهر لصورة الفلسطينيّ الّذي لا خطوط حمرًا أمام التعدّي عليه، وعلى حرمة الإنسان الفلسطينيّ بمعزل عن جنسه وسنّه، ولون بطاقة الهويّة الّتي يحملها.

تسخر الذات الأسيرة من فكرة العزل أو التغييب وراء جدران السجون، عندما تنجح نطفة صغيرة في أن تنفخ في روح الوطن المسلوب انتصارًا صغيرًا قيمته المعنويّة لا تقلّ عن تحرير بلدة كاملة من عائلة يهوديّة بولنديّة صدّقت أسطورة أرض الميعاد.

قال لي وليد مرّة إنّهم؛ أي الأسرى، بهذه الطريق وبسواها من الأساليب المبتدَعة "يسخرون من أسوارهم، ومن أسلاكهم الشائكة". تلوح الجملة للوهلة الأولى عاطفيّة جدًّا، ومبهرة جدًّا، وثوريّة جدًّا، بيد أنّها ليست كذلك عندما يكتبها أسير أبقته ’إسرائيل‘ في سجونها لمدّة تناهز سنّها، ثمّ خرجت تلاحق حَلَقَ ابنته.

هذه السرقة دليل جديد على فشل المنظومة الأمنيّة الصهيونيّة، مثل فشل منظومتها الحضاريّة أو الثقافيّة الّتي تريد دائمًا أن تفاخر بها، في حين أنّه نجاح صغير ساحق آخر لأبي ميلاد الّذي لم تزعزع سنوات الأسر الطويلة وعيه الذكيّ والحادّ، بضرورة الإبقاء على ما يحلو له تسميته دائمًا "صمود الذات الأسيرة"؛ إذ يعتقد دائمًا أنّ صمود الذات الأسيرة يعني الحفاظ عليها قيمةً إنسانيّة ووطنيّة.

كان يجب على الجيش في زيّ إدارته المدنيّة أن يقتحم بيت وليد دقّة في باقة، وأن يسرق منه حَلَقَ ميلاد. لقد حملهم صمود ذات وليد دقّة الأسيرة على ذلك، وبهذا المعنى فشلوا وانتصر مرّة أخرى من وراء قضبان عسقلان. كان يجب أن ترى ميلاد - سليلة الذات الأسيرة - جيشًا مدجّجًا لتكتمل في مخيّلتها البريئة الصغيرة حبكة السرد الأولى، وكان يجب أن تحوّل أيّ صوت يحاكي صراخهم، وحركة أقدامهم العنيفة الّتي - لا شكّ - أرعبتها في ذلك اليوم، إلى جملة بسيطة تقولها وتمرّ: "شو هالصوت؟".

لقد أيقظت حركة أقدامهم الشرّيرة وعي ميلاد، فأمست تعرف الآن أنّ الأصوات لا تتشابه، وأنّ ثمّة أصواتًا يمكن أن تجعل طفلة صغيرة، في بيت باريسيّ في الضاحية الجنوبيّة من العاصمة، تهتزّ بينما هي تلعب وتبحث بسرعة عن إجابة مطمئنة، تشفعها بكلمة "يُمّا"؛ تعبيرًا في هذا السياق عن خوفها.

 

حركة تحت أسوارهم 

ساعد هذا الاقتحام ميلاد على تعرّف معنى ’الجلبة‘، وعلى تمييز لغة مباينة للغة ’ماما سناء‘ و’تيتا إمّي‘، وأن تُغْني زادها اللغويّ اليافع بكلمات من قبيل ’حراميّة‘ أو ’بتخزي‘، في إشارة إلى عدم رضاها عن السيّارة الّتي جلبتها أمّها، بدلًا من سيّارتها الّتي صودرت دون موجب ودون حقّ، و"شو هالصوت". وأصبحت ميلاد تعرف أنّ ’السوار‘ الّذي صودر منها، فضلًا على الحَلَق، صورة عن السوار الّذي يقيّد معصمَي والدها، وربّما سيذكّي هذا الجناس الرغبة عندها عندما تكبر، فتكتب سيرة والدها سورًا وسوارًا.

مَنَحَ هذا الاقتحام وليدًا عنوانًا آخر للانتصار، وفرصة أخرى للسخرية من الجدران ومن الأسلاك الشائكة، بعيدًا عن مياه ’الأسر الراكدة‘.

نعم، صادروا ما صادروا - ولهم مع هذا الفعل تاريخ طويل - غير أنّهم لم يمنعوا جودًا من القفز ليرى والده، ولم يسلبوا من السمّور ومن الأرنب انتماءهما إلى فلسطين، ولمّا ينضب زيت السرّ بعد.

وجاءت ميلاد باريس بحثًا عن أميرات الـ «ديزني لاند». أميرات تحافظ ميلاد في نطقها على نعمة المدّ وتقلب الراء لامًا. نعم، تخاف ميلاد من الأصوات لكنّها تلوّح للأميرات على كتفَي والدتها، مثل قائد اسمه وليد دقّة. لقد تعلّمت هذه البنت، باكرًا جدًّا، أنّ إقبال الإنسان الفلسطينيّ على الحياة بنهم، فعل يهزم إرادة السجّان في عزل العقل الفلسطينيّ عن الحياة.

لقد سبقت ميلاد جودًا إلى السجن لترى والدها، وسبقته إلى فرنسا تعانق أميراتها. وهذا الميلاد الّذي تبشّر به كلّ السرديّات "حركة تحت أسوارهم"، كما قال لي مرّة والدها.

 


 

إشراق كرونة

 

 

 

كاتبة تونسيّة، باحثة وطالبة دكتوراه، وأستاذة في «جامعة ليون»، فرنسا، وتكتب في الأدب العربيّ في عدد من المجلّات الثقافيّة.