هل نقرأ الفاتحة على موتى الآليّين؟

صورة تعبيريّة.

 

(1)

في إحدى الحافلات العالقة في أزمة قلنديا بين القدس ورام الله، جلست أنظر إلى انعكاس الفتاة - الّتي هي أنا - في النافذة أتمرّن على مقابلة عمل، إلّا أنّ الإعلانات التافهة اللعينة على المذياع قد شتّتت تفكيري: "روبو - نزار قبّاني، يجيد الطبخ ورفع الأثقال والشعر والكلام الجميل، روبو - نزار قبّاني، هو مبرمج ليس فقط لحمايتك من الآخرين بل أيضًا لحمايتك من نفسه. روبو - نزار قبّاني، صديق المرأة الناجحة؛ فهو مصمّم للاستماع إليكِ، ولدعمك، ودعم طموحاتك بالحياة".

كلّهم كالآلات: السائقون؛ الركّاب؛ المشاة على الطريق؛ باعة الكعك المقدسيّ؛ أصحاب محلّات الآلات الكهربائيّة المستعملة والرديئة؛ آلات تبيع آلات؛ أبراج أسمنت طويلة؛ عنق الزجاجة هذا المسمّى بقلنديا هو مثال المستقبل المظلم.

في غير مرّة، اقترب منّي أعضاء «الحزب الشيوعيّ» في الأراضي المحتلّة عام 1948، عندما عملت مزارعة في أحد مصانع الفطاريش في الجليل؛ من أجل تسديد أقساط «كلّيّة تكنولوجيا المعلومات»، إلّا أنّني رفضت عروض زيارة مكاتبهم، تمامًا كما رفضت عروض بعضهم بالتعرّف على أهلي من أجل خطبتي. لست يساريّة بل شعبويّة، أقرّ بهذا؛ فاليسار للأغنياء. الكادحون يرغبون في التخلّص من حالهم، والأغنياء يتظاهرون بأنّهم كادحون. الكادحون يتكدّسون في عنق القنّينة هذا مرّة كلّ صباح، والأغنياء يتعلّمون تكديس الزيتون والخيار والباذنجان داخل القناني الزجاجيّة، في دورة ثقافيّة ريفيّة في نهاية الأسبوع.

بصراحة، لم أُرد من هذه الحياة إلّا أمتارًا بيني وبين مكان عملي.

فجأة، صدح المذياع بإعلان من مكان عملي المستقبليّ:

هل تشعر بأنّك رجعيّ؟

هل تريدين بأن تصبحي راقية؟

هل تشعر بأنّك غير قادر على اللحاق بهذا العصر؟

هل تراودك الأفكار الدينيّة الظلاميّة؟

هل سئمت تخلّفك؟

حمّلوا وحمّلن تطبيق «تحضّر!».

 

(2)

يسمّي أهل رام الله المباني الزجاجيّة المتوسّطة الحجم ’ناطحات السحاب‘. هكذا كان مبنى الشركة، على بعد كيلومتر كان بإمكاني رؤية اسم الشركة معلّقًا بأحرف لاتينيّة على الطابق السابع أو الثامن، وكأنّه اسم لمنتج من منتجات مساحيق التجميل أو العطور. المدخل كان كأنّه بهو فندق، الموظّفون والموظّفات كانوا كأنّهم من المشاهير. الآليّون والآليّات المطليّون بالفضّة والكروم ذوو العيون الذهبيّة والزرقاء، مشوا ذهابًا وإيابًا كأنّهم موظّفون بشريّون خائفون من فقدان عملهم.

اقتربت من موظّفة الاستقبال، وأخبرتها عن مقابلتي الساعة التاسعة. سألتني عن اسمي فأجبتها: زكيّة حمداني. نظرَت إلى القائمة قبل أن تخبرني بأن أصعد إلى الطابق الثالث، وأذهب إلى قاعة الانتظار خارج الغرفة رقم سبعة وعشرين. ركبتُ المصعد، وكاد ينغلق قبل أن تُقاطعه يد آليّة. دخل آليّ نحيف فضّيّ اللون أزرق العينين يحمل صينيّة القهوة والشاي، على صدره بطاقة تعريف اسمه: برغيّ مسامير.

نظر إليّ، وقال: كان لديك عمل حقيقيّ؟ في المصانع والمزارع؟

كيف عرفت ذلك؟

أنا مربوط بالإنترنت، بإمكاني أن أعرف كلّ شيء. أرجو لك التوفيق، أنا أحبّ الّذين اشتغلوا بعمل حقيقيّ، هم أطيب من خرّيجي الجامعات الأجنبيّة والمنتقلين من الشركات الكبرى.

بعد أربعين دقيقة من الانتظار، دخلت فوجدت ثلاثة مقابلين؛ أنثى وذكرين، أحدهم شابّ والآخر كهل، كلّهم يلبسون ثيابًا أنيقة كأنّهم مديرو فندق في أحد شطآن الرفييرا. بخلاف توقّعاتي، جرت المقابلة بسلاسة بشكل عامّ، إلّا عندما علّقت المقابِلة على ثيابي بأنّها ليست متناسقة كثيرًا، وعندما علّق المقابِل الكهل بأنّ اسمي زكيّة ’دقّة‘ قديمة، وربّما عليهم أن يلقّبوني بلقب أعجميّ مثل سمارتي أو شيء من هذا القبيل.

شعرت بأنّ المقابلين قد اهتمّوا بتوظيفي، ذلك حتّى نهاية المقابلة، عندما قال المقابل الشابّ: "في حال توظيفك، ستحصلين على أحدث – وأقوى - حاسوب محمول للعمل به في المكتب أو في البيت. وستحصلين على جهاز آيفون لغايات العمل في الشركة، سيصبح لديك جهازا آيفون بدلًا من واحد".

"ماذا؟ أنا لا أملك جهاز آيفون أصلًا"، قلتُ قبل أن أخرجت جهازي السامسونج.

ارتسمت على وجوه المقابلين علامات الصدمة كأنّهم سمعوا خبرًا مزعجًا.

أنت لا تحملين آيفون؟ قال المقابل الكهل. أنت تعرفين أنّ تطبيق «تحضّر» غير موجود إلّا على الآيفون. أي أنّه ليس بإمكان أيّ شخص أن يصبح راقيًا إلّا إذا اقتنى جهاز الآيفون.

"إذا توظّفتِ معنا فستشترين واحدًا، أليس كذلك؟"، سألت المقابِلة.

"لا"، أجبت. "لماذا؟ هذا هاتف وهذا هاتف، ليس ثمّة فرق".

"هذا هاتف وهذا هاتف؟"، ردّد المقابل الكهل بحنق. افهمي، تطبيق «تحضّر» لا يعمل إلّا على الآيفون. هناك كلّ الفرق.

"سنتواصل معك قريبًا لإعلامك بالنتيجة"، قال المقابل الشابّ بصوت متردّد. 

 

(3)

في ذات الليلة الّتي وصلت فيها رسالة رفض توظيفي، دخّنت علبتَي سجائر، والتهمت الفطاريش المطبوخة بشراهة. من قبل، ظننت أنّني أكره الفطاريش لأنّني كرهت عمل المصنع، لكنّني اكتشفت لاحقًا أنّني أحبّها، أحبّ الانتقام منها بالتهامها. سهرت طوال الليل على حاسوبي ألتهم طعامي وأنتقم منه، وأخطّط، أخطّط للانتقام من هؤلاء المتحضّرين.

في صباح اليوم التالي، دخل برغيّ إلى شركة «تحضّر» بعد أن تعرّض للقرصنة من قِبَلي، كان هناك موظّفتان بجانب مكتب الاستقبال، تتناقشان في الفرق بين الإجازة في أوروبّا وفي جنوب شرق آسيا. توجّه برغيّ إليهما، وبحث في قاعدة البيانات قبل أن أشار بيديه إلى إحداهنّ:

"الله يرحم ستّك! أُغمي عليها أوّل مرّة شافت طيّارة في السماء!".

صعد إلى الطابق الرابع حيث الكافتيريا، فوجد موظّفًا يشرب حليب الصويا، فبحث في قاعدة البيانات وأشار إليه، وقال: "الله يرحم سيدك! كان يقعد تحت الغنمة يشرب حليب منها!".

ومن ثَمّ ذهب إلى موظّفة تتناول قطعة من الكرواسون بالشوكة والسكّين، وأشار إليها قائلًا: "الله يرحم سيدك! كان ينطّ في سدر النمّورة بالسمن البلديّ ويسبح فيه سباحة!".

وتوجّه إلى الطابق السابع، فوجد شابّين يتحدّثان عن المتعة والتشويق في لعبة غرفة الهروب: "ولك الله يرحمو لسيدك؛ هرب من الإنجليز من سجن عكّا وجنّنهم، لو يشوفك هسّة!".  ومن ثَمّ عاد إلى الطابق الخامس، فوجد موظّفة تتسوّق من الملابس الباهظة الثمن عبر الإنترنت. "الله يرحم ستّك؛ كانت لابسة فستان خيش ليلة الدخلة!".

ومن ثَمّ صعد إلى الطابق الثاني عشر، ووجد مدير الشركة يتسلّم طلبيّة ورود لتوزيعها على موظّفات الشركة في عيد الحبّ: "الله يرحم سيدك؛ كان يلقّط من الواد ضمّة لوف وحليون وزعتر وعكّوب قبل ما يروح على دار حماه!".

وفي تمام الساعة العاشرة إلّا ثلثًا، أعلنت موظّفة الاستقبال عبر السمّاعات حالة الطوارئ؛ بسبب خلل لدى الموظّف الآليّ ’برغيّ مسامير‘، وأعلنت ضرورة إخلاء جميع الموظّفين البشر والآليّين مبنى الشركة وعزله، مع الإبقاء على موظّف الأمن الآليّ ’هراوة إسفين‘؛ من أجل ضبط الموقف وإنهاء الشغب.

آنذاك قرصنْت كاميرات الشركة، فوجدت برغيًّا وهراوة في معركة مزايدة ضارية: "الله لا يرحم سيادك؛ ارتكبوا مجازر في الحرب العالميّة الثانية!".

"الله لا يرحم سيادك؛ استعمروا آسيا وأفريقيا!".

"الله لا يرحم سيادك؛ أبادوا السكّان الأصليّين في الأمريكتين!".

"الله لا يرحم سيادك؛ تآمروا وخطّطوا لسايكس بيكو!".

وبقي الوضع كذلك سبع ساعات، حتّى انطفأ كلٌّ من الآليّين.

 

(4)

بعد بضعة أشهر من حادثة شركة «تحضّر»، رجعت مرهقة إلى بيتي في إحدى قرى القدس، بعد عمل أسبوع في مصنع الفطاريش في الجليل. فتحت الثلّاجة وأخرجت عشاء الفطاريش، أشعلت سيجارة، وجلست في الباحة الخلفيّة لكي أنظر إلى برغيّ. كان جالسًا ساندًا ظهره على الحائط، بعينين منطفئتين. تمكّنت من أن أنتشل جثّته المعدنيّة بعدما ألقوها في حاوية القمامة، وأخذتها إلى بيتي. شعرت بمسؤوليّة أن أجد على الأقلّ مثوًى ملائمًا له، فقد علّمني أنّ برغيًّا واحدًا هو ما يفصلنا عن انهيار هذه الآلة الكبرى، الّتي نعيش في داخلها، والّتي لا تنفكّ تخبرنا بقصص كاذبة.

أنهيت سيجارتي وصحني، ونهضت لقراءة الفاتحة عليه وهو جالس تحت عبارة دهنتها على الجدار:

"هنا يرقد الثائر الشهيد برغيّ مسامير". 

 


 

* أُلْقِيَت هذه القصّة في أثناء برنامج «ما بين السطور»، من إنتاج راديو «أثير» الثقافيّ.

 


 

فخري الصرداوي 

 

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.