حنين إلى جربة

حومة السوق، جربة | جراتس أ بروكي

 

أمشي في بهو المسافة النحويّة بين التعريف في ’بيت‘ العنوان، وتنكير البيت أوّل المتن. أتسلّق سريعًا الفرق الإعرابيّ بينهما؛ إذ تحكّني الغريزة، وبعض الجينات، وطبيعة العمل الّذي جعل قامتي الصغيرة تقف أمام طلبة من أعراق مختلفة، لا يحبّون بالضرورة اللغة العربيّة لذات السبب.

لكنّني جئت أكتب اليوم باللغة الّتي أحبّها، عن البيت الّذي أحببت أن تستقرّ حقائبي فيه أخيرًا.

أصبحت منذ اغتربت أفتّش عن الأغاني الشعبيّة للجنوب التونسيّ بشكل خاصّ؛ تعويضًا عن الحنين الجارف الّذي يهيل دموعه على رموشي، حتّى لا تكاد بصيرتي ترى شيئًا. لاحظت أنّ معظم الأغاني الشعبيّة يدور في فلك معجم واحد؛ البحر والباخرة والشواطئ والنسمة ’الشرقيّة‘؛ أي النسيم العليل البارد.

ومن الأغاني الّتي صارت أختًا حنونًا لغربتي، واحدة شعبيّة، قرأت أنّها اشتهرت في ثمانينات القرن الماضي، عن "البابور اللّي هزّ رقيّة".

ومن الأغاني الّتي صارت أختًا حنونًا لغربتي، واحدة شعبيّة، قرأت أنّها اشتهرت في ثمانينات القرن الماضي، عن "البابور اللّي هزّ رقيّة". والبابور في العامّيّة التونسيّة القديمة نسبيًّا اليوم، تعني الباخرة أو المركب... كلّ ما يشقّ عباب الماء. ومن آيات ما اكتشفت بعد أن فككت بصعوبة كلمات الأغنية، أنّ ’رقيّة‘ حملها ’بابور‘ جديد عند المغيب ليلة العيد، فما كان من صاحب الكلمات المكلوم عشقًا وشعرًا إلّا أن يستجدي طيف طللها، فيطلب منها محرمتها ليمسح "دمع عينيه". مَنْ علّم صاحب هذه الكلمات البسيطة المغموسة في وجع الإنسان الأسمى أنّ للبحر طللًا يمكن اقتفاء أثره؟ ولست أفهم أيّ طرب يحدث في النفوس حتّى يغنّي أهل الجزيرة، جزيرة جربة، مسقط رأس أبي وقلبي، هذه الأغنية في محافل أعراسهم؟ لم أعرف هذه الأغنية طيلة السنوات الثلاث والعشرين الّتي عشتها في تونس. حطّ بابور رقيّة في محطّة عمري الثلاثينيّة يمسح دمع عينيّ من غبش الغربة.

هكذا يحرجني الواقع بمسلّمةٍ عليّ قبولها؛ فمفهوم البيت في الغربة يختلف عن البيت في الوطن؛ وهذا ما أوجع الحقيقة المتوارية في وعيي الداخليّ وأنا أقرأ سطور الرسالة الإلكترونيّة، تهنّئ انتظاري الطويل ببيت في مدينة فرساي الفرنسيّة، على مسافة ليست بعيدة عن قصر فرساي، حيث يقف تمثال لويس الرابع عشر متّعظًا من التاريخ، ومن الأسطورة؛ ساخرًا من فرحي بسقف لا يضاهي مساحة إسطبل أحد خيوله الّتي أفلت مثلما أفل، ومثلما سنأفل نحن كلّنا، وتلك سخرية القدر الكبيرة.

هذه نبوءة رواها النيل عن الثقات، وصدّقها يوسف بن يعقوب. عجافٌ سنواتي السبع الماضية؛ فماذا يساوي إنسان لا يكفّ عن حمل حقائبه؟ ليست هذه شعريّة جديدة جادت بها قريحتي عن ثنائيّة الوطن والحقيبة، لكنّه تفجّع تفجّر في غربتي مثل نزيف داخليّ. وبهذا المعنى؛ فإنّ البيت يحقّق شعريّة بالنسبة إليّ، بعيدة عن باشلار وأمكنته الّتي يرصّها بقبوه ومتاعه وذكرياته، في نظريّته مثلما أرصّ كتبي في المكتبة الّتي استقرّت أخيرًا في صدر البيت. وبعيدًا عن فلسفة ميشال فوكو عن المكان واللامكان والبُعْد الفارّ بين المفهومين، الّذي يلوح له وهو يمجّ سيجارته الباذخة.

 منذ الآن، سأرمي كلّ سيوفي عند مدخل قصر لويس الرابع عشر - يمكنني أن أجرّده من رفعة اللقب بفعل الجيرة الجديدة بيننا! - وسأجلس سيّدة على نفسي وعلى البيت، أحتسي فنجان قهوة عربيّة مطعَّمة بالهيل، وبحبّي لفلسطين الّتي جاءت منها، في فنجان بسيط رماديّ اللون.

سأختار لنبتاتي الصغيرة ركنًا قارًّا من الشرفة، أوصيهم بها وبالبيت خيًرا كلّما غادرته نحو العمل. قلت لنفسي المغتربة معي "فلنأتِ بياسمينة".

ومنذ اليوم، سأرتّب كبب الصوف الكثيرة في سلّة من القصب؛ فتصبح جزءًا من ديكور البيت الجديد. هكذا يُدْغَم الأدب في البيت، مثل قُبْلَة العاشقَين الأولى، وهكذا يتآلفان. ولن أخفي عن أيّ زائر قصّة كبب الصوف؛ فلكلّ كبّة سيحطّ بناظرَيه عليها عنوان أحد النصوص الّتي خلّفتها. أيّ غربة تجعلنا نرى في مفهوم الزائر سرابًا مثل الماء في الصحراء؟ ألم يأتِ الشعر من البيت؟ وهل إلّا خيوط حبكتها حاجة جدّي العربيّ القديم إلى خيمة؟ هأنذا أمشي على خطى أجدادي الأُوَل في الشعر وفي البيت. وأحبّ أن يشتدّ عود الصداقة بين البيت - بيتي - وبيت من الشعر يذكّي نار الحنين إلى أوّل منزل. وبهذا المعنى أقول لأشيائي الكثيرة، في غربتي الكبيرة، إنّني منذ الآن من أهل البيت، أعني بيت الشعر.

ومنذ اليوم، سأفرش الأرض بما شئت من الأحلام، الّتي لم أكن أستطيع النظر إليها وأنا أركض في زحمة غربة اسمها باريس. غربة تشيخ معها أحلامي في غفلة منّي، وتتآكل قدرتي على الجري وراء إنعاشها. منذ اليوم، سيصبح ممكنًا بالنسبة إليّ أن أعلّق فساتيني بتؤدة ثابتة، دون أن يلكزها لفظ المؤقّت. سأراها في نفس المكان من الخزانة اليوم وبعد سنة بنفس الطريقة، وبنفس الترتيب. ومنذ الآن، سأختار لنبتاتي الصغيرة ركنًا قارًّا من الشرفة، أوصيهم بها وبالبيت خيًرا كلّما غادرته نحو العمل. قلت لنفسي المغتربة معي "فلنأتِ بياسمينة". هكذا تتجلّى نوتة الهادي الجويني، فنّان تونس الشهير، في أغنيته "تحت الياسمينة في الليل". لا ينتهي الليل في الغربة، بيد أنّني كلّما اشتقت إلى ياسمينة بيتنا الّتي غرستها بيدي صغيرة فصارت الآن أطول منّي كثيرًا، جلست في شرفتي تحت ياسمينتي الباريسيّة، وعزفت لحنًا من دم قلبي عن بيتنا في تونس. البيت النهائيّ إذا سمحت لي الحقيقة الصعبة انتقاء نظير لكلّ المؤقّت الّذي يحفّني هنا في فرنسا.

ربّما من عجائب اللغة العربيّة أنّها بيت لمترادفات كثيرة يطلق عليها البديع لفظ الجناس. كأنّها توائم تصطفّ في رحم واحد، ولا تُولَد طبق الأصل؛ فبين كلمتَي ’شرفة‘ و’غرفة‘ موسيقى تناطح فيها الشين الغين؛ فكيف إذا كانت شرفتي في غرفتي؟ ومن عجائب اللغة أيضًا أنّ الجوار في كلمتَي ’غرفة‘ و’غربة‘ مرعب؛ فماذا أفعل بثلاثة توائم تستقرّ معي في بيتي استقرارها في نصّي هذا: شرفة وغرفة وغربة؟ ويسحبني هذا السؤال إلى آخر - بينما أسدل ستار الشرفة الكبيرة - وما الغربة إذا لم تكن شرفة وغرفة؟

ومن عجائب اللغة العربيّة أيضًا أنّ مفهوم البيت يقوم على محامل دلاليّة كثيرة لا تتنافر كالمغناطيس، لكنّها لا تؤمن بالأخوّة من بيت إلى مسكن إلى منزل إلى دار. جذور لغويّة كثيرة لمغتربة قدماها بعيدتان عن كلّ جذورها اللغويّة والدمويّة.

أقول في سرّي: كيف كان أبو العلاء المعرّيّ يعرّف الشعر لو عرف مدينة فرساي، أو لو عاصر ملكها المكنّى ’ملك الشمس‘ قبل أن تحنّطه على باب قصره أكذوبة الخلود الكبيرة؟

سيضمّد هذا البيت المعلّق في طابق فرساي الثالث جراح بيوت كثيرة زرتها، أو مكثت فيها ردحًا من الزمن، إن زاد أو نقص أبانه الحسّ! أقول في سرّي: كيف كان أبو العلاء المعرّيّ يعرّف الشعر لو عرف مدينة فرساي، أو لو عاصر ملكها المكنّى ’ملك الشمس‘ قبل أن تحنّطه على باب قصره أكذوبة الخلود الكبيرة؟

وتمتدّ بي الذكريات وأنا أحملق في البيت الفارغ من الأثاث بعد: لا نسيب ولا طلل ولا تفجّع، لكنّه ’نموذجيّ‘ لي أنا المتعبة من انتظار البيت. لقد وجدت الكلأ في هذا اليباب، وضربت عروض خيمتي في الأرض المؤقّتة. سأجلس هنا، الآن، دون أن يكنسني غبار الانتظار - انتظار بيت، أيّ بيت - ودون أن تسحلني العيون الّتي ترى في حقيبة على أهبة الاستعداد دائمًا إلى الرحيل ثقلًا عليها.

هكذا أتخيّل مشهد اليوم: يعلو الندى عن جبين الشمس مثل عروس يرفع عنها فارسها طرحة العرس. تختلط في أنفي رائحة الندى الآفل بشرارة أوّل الشمس، مطعّمة بأثر ورق النبات الأخضر الّذي يدثّر أنفي عطرًا عربيًّا فصيحًا. أطيل التأمّل في ياسمينتي الّتي لمّا آتِ بها بعد. غير أنّني أكتب هذا العواء وأتخيّل مكانها في ركن الشرفة. سينبعث صوت عربيّ من المذياع حين تدغدغه رائحة القهوة الفارّة من أسطورة الحطب، رغم أنف لويس الرابع عشر. ساعتي اليدويّة السوداء في معصمي الأيسر. يراقبني الوقت وأتأمّل سيلان عمري من عقاربه الصغيرة الرقطاء. شعري مرفوع مثل ستار بيت جدّتي في تونس إلى فوق، تشنقه عقدة تربطها جدّتي بإحكام في منتصف الستار. أتفقّد نظري إذ أشمّ رحيق الهواء أمامي، وأتلمّس بصيرتي إذ أعدّ أصابع طموحي. أفرح فلمّا تبترها الرتابة بعد. يسحبني إغواء المكتبة نحو الداخل فأعانق جزءًا من لسان العرب. أصبّ في حلق الفراهيديّ بعضًا من الماء لأمتحن اختياره العين بداية الحروف وأوّل المعاجم. أهدي ابن منظور كرسيًّا مقابلًا على الشرفة، وأرحّب به في غربتي أو غرفتي، سيّان! وأنسى أنّ عقارب ساعتي تترصّد ساعتي، وأغرق في جذر مادّة (م، ك، ن). تحكّ نظّارتي حدقتي وهي تقلّب حروف الجذر مثلما يقلّب الفلّاح بفأسه تراب الأرض أوّل الخريف، فينثر أمامي مادّة (ك، م، ن). ينساني الوقت وقتًا طويلًا، ولا يغفل عنّي ابن منظور. أضمّ دفّتَي الكتاب مثلما أضمّ ياسمين بيتنا في تونس، الّذي أجمعه من تحت الشجرة عندما ينهك الماء الوردة منها. كنت أحبّ الاحتفاظ بها مضمومة في يديّ كأنّي أصيّرهما قمقمًا للياسمين؛ لئلّا تأفل الرائحة عنّي أو كأنّي أصنع عطري الخاصّ من شجرة رعيتها صغيرة، فعطّرتني برذاذ وردها كبيرة وارفة.

لقد علّمتني الغربة أن أتحسّس الحنين مثلما يتحسّس رضيع رائحة الحليب المخبّأ في خوخ أمّه. أحنّ إلى بيت والديّ في تونس، وإلى بيت جدّي في جربة، وإلى بيت عمّي والنخلة السامقة في مدخل الدار. علّمتني الغربة أنّ لكلّ بيت رائحة تميّزه عن سواه. تلك هويّته الّتي تحفظه من النسيان ومن التكرار. علّمتني الغربة أنّ هذا الحنين سيستحيل مع الزمن داء لا شفاء منه اسمه "الرغبة في العودة إلى الوطن"، ومع الوقت سيصبح كلّ طموحي أن أعود مشيًا على الأقدام، لا أن تحملني الأقدام إلى البرزخ.

علّمتني الغربة أنّ لكلّ بيت رائحة تميّزه عن سواه. تلك هويّته الّتي تحفظه من النسيان ومن التكرار. علّمتني الغربة أنّ هذا الحنين سيستحيل مع الزمن داء لا شفاء منه اسمه "الرغبة في العودة إلى الوطن"...

ومن بيتي الجديد في فرساي يفتح قلبي حديقة أسراره؛ فأتذكّر طمأنينة كنت أشعر بها في بيت جدّي. أسمعها كلّما نصتّ إلى صوته منبعثًا من سمّاعة الهاتف؛ صوت جثم عليه الزمن غير أنّه بقي شامخًا مثل بارودته المعلّقة على باب غرفته. أهب لنفسي السرديّة التالية لقاء صبري الطويل أمام انتظار بيت لي: ساعة المعصم السوداء لا تغيب عن اليد، إبرة الصوف تمرّغ رأسها في المحبرة، وتصبغ الصوف بين يديّ برتقالًا فارًّا من رائحة قشرته الّتي خجلت تسقط أمامي ففاضت. أقول لها ما قال الشاعر الّذي أحبّ "سقطت قلاع قبل هذا اليوم". والبرتقال في المنفى كما في الأرض دائمًا حزين! وأغمض عينيّ لتنثال السرديّة أمامي مثل رذاذ البرتقال حامضًا ومنعشًا حين يُعَضّ. ينهمر الدمع من الصوف ومن الحبر معًا. غير أنّ الصوف يدفّئ غربة الورق. هنا في غربتي - والآن في غرفتي أعني في شرفتي - أسمع موسيقى جزيرة جربة الّتي لم أشنّف أذنيّ بها يومًا في تونس، وأنبش في دهاليز الموروث المعتمة عن أغانٍ شعبيّة أحفظها، وأحاول فكّ طلاسم كلماتها، كما أحاول معرفة قصّتها. منذ اغتربت أصبحت جزيرة جربة محمولًا مكانيًّا ودلاليًّا لا أكفّ عن توليده في السرد. عرفت في فرنسا مقدار تعلّقي بجزيرتي. وربّما - أقول ربّما - تكاثر الحنين في قلبي حيالها؛ لأنّ تحت ترابها تنام جدّتي الّتي لمّا أودّعها بعد، لكنّني علّقت صورتها في فاتحة البيت بعد أن ختمت ذات الصورة قلبي.

لا ينتبه التدقيق اللغويّ، الّذي يمشي موازيًا لظلّي بالسليقة، إلى أيّ حامل لغويّ وسمت به جدران فرساي: بيت أو منزل أو مسكن أو دار. العاشق المجهول من التراث ما زال يغنّي عن رقيّته الّتي أفلت عند المغيب وأنـا أرمق التناصّ المرتطم مثل أمواج الماء في ذهني، عن أغنية الشيخ إمام، فيها مركب وغربة وحنين وغروب.

يغرورق الحبر في مقلتي حين يبحّ صوت الشيخ إمام "بيني وبينك بحور الغربة يا دار".

 


 

إشراق كرونة

 

 

 

كاتبة تونسيّة، باحثة وطالبة دكتوراة، وأستاذة في «جامعة ليون»، فرنسا، وتكتب في الأدب العربيّ في عدد من المجلّات الثقافيّة.