وليد الشرفا... كيف لشعب أن ينسى أبطاله؟

رواية «أرجوحة من عظام» (2022) الصادرة عن «دار الأهليّة للنشر والتوزيع»

 

حصار «المهد»

رأيته أوّل الشارع يأتي مسرعًا، يرتدي قميصه وبنطاله الأسودين، وكما يليق بأستاذ جامعيّ وصل مبتهجًا لأنّه لم يتأخّر عن الساعة السابعة، موعد اللقاء في مكتبة البلديّة، وقبل هذا الموعد لم أكن قد قرأت رواية «أرجوحة من عظام» (2022) الصادرة عن «دار الأهليّة للنشر والتوزيع»؛ العمل الأخير في رباعيّة وليد الشرفا: «القادم من القيامة» (2008)، و«وارث الشواهد» (2017)، و«ليتني كنت أعمى» (2019).

تدور أحداث الرواية خلال فترة الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية [اسمها الرسميّ: انتفاضة القدس والأقصى]، وتتناول حكاية الحصار لـ «كنيسة المهد» خلال شهر نيسان (أبريل) عام 2002، حيث حاصرت قوّات الاستعمار الإسرائيليّ الكنيسة في مدينة بيت لحم ضمن حملة «السور الواقي» العسكريّة، الّتي أطلقها رئيس الحكومة الإسرائيليّة آنذاك آرئيل شارون، لحصار المدن الفلسطينية والقضاء على المقاومة الفلسطينيّة. كان في الكنيسة أكثر من مئتي فلسطينيّ ما بين مقاتلين ومواطنين ورهبان، ولم يكن أمامهم غير «كنيسة المهد» للاحتماء بها في ظلّ حصار المحافظة ومنطقة السوق القديم، وصعوبة خروج المقاتلين من المحافظة؛ فحوصر الجميع بلا طعام، أو دواء، أو إسعافات للجرحى.

 

السرد البصريّ 

حين بدأت قراءة الرواية، انتبهت إلى أنّ عوالم السرد البصريّ قد أخذت من اهتمامي خلال تجربتي الأخيرة في كتابة الكوميكس، ووجدت بعض الصعوبة في اجتياز المشاهد الأولى الّتي لم تؤسّس - بالنسبة إليّ - لعلاقة كافية بين القارئ وشخصيّة الرواية وراويها يوسف. لكنّني أعرف وليدًا، وتوقّعت أنّ هذا البناء مقصود بقرار لخدمة مشهديّة عامّة، أو ربّما أساس نظريّ تقوم عليه الرواية.

الرواية عند وليد الشرفا جسد واحد وصلب، فبينما هو يصوّر السراديب في «كنيسة مار سابا»، ويصف الحروف والتواريخ المحفورة على الجدران، وبينما يخبرك بأسباب منع النساء والتفّاح من دخول الكنيسة، يكون ذلك فتحًا لهويّة الموت في تلك المساحة خارج الزمن؛ الهويّة الّتي تتقمّصنا حين تظهر مشاهد الكنيسة الأخرى؛ كنيسة المهد» بالوثيقة الحقيقيّة لمشاهد حصار الأبطال داخلها، لمشاهد صبرهم وجوعهم، وطفولتهم وجروحهم، وصمودهم أمام إصاباتهم القاتلة. التناقض هو الراوي، مع كلّ جملة فكرة، ومع كلّ صورة موقف.

الرواية ليست سردًا لأحداث حصار الكنيسة، لكنّها تصوير لحالة البطولة الّتي حدثت فيها بواسطة إخضاع الشخصيّة الرئيسيّة لتجربتين متناقضتين في مواجهة الموت...

الرواية ليست سردًا لأحداث حصار الكنيسة، لكنّها تصوير لحالة البطولة الّتي حدثت فيها بواسطة إخضاع الشخصيّة الرئيسيّة لتجربتين متناقضتين في مواجهة الموت؛ ففي «كنيسة مار سابا» كان هو والمستوطن اليهوديّ يبحثان عند راهب الكنيسة عن الشفاء من المرض خوفًا من الموت، وفي الكنيسة الأخرى كان الموت همًّا صغيرًا بالمقارنة مع الإخلاص للقضيّة والوفاء للأصدقاء ومقاومة الاستعمار، وكيف تجسّدت هذه الكلمات في أحداث حقيقيّة. هكذا يمشي السرد بين الكنيستين، تتطوّر الأحداث في «كنيسة المهد» من جرح ينزف ويتفاقم، إلى صديق يستشهد برصاصة قنّاص، إلى راهبة مصابة بالسرطان ترفض علاجها كي تداوي المصابين، بينما تتطوّر الأحداث في الكنيسة الأخرى من مرض الوعي إلى شفائه بالذاكرة، في مقابل المستوطن الّذي استعصى وعيه على الشفاء لأنّه بلا ذاكرة سليمة.

كنت أسأل نفسي قبل الموعد بيومين عن الحدود الّتي يمكنني أن أصلها مع صاحب «إدوارد سعيد ونقد تناسخ الاستشراق»، و«بواكير السرديّة العربيّة»، و«الجزيرة والإخوان؛ من سلطة الخطاب إلى خطاب السلطة». تُشْعَرُ استضافة شخص مثل وليد الشرفا بالحاجة إلى ثقة أكبر في المعلومات عند إثارة سؤال أو قضيّة، لكنّني فضّلت استضافة الرواية أوّلًا والعبور منها إلى سؤال الهويّة.

شكوت إليه مأزقي الشخصيّ في تجربتي لكتابة رواية، واعترافي بهزيمة الشاعر أمام السارد، ونصحني في مساحة ’انتظار الضيوف‘ ألّا أكتب الرواية شعرًا، ثمّ بدأ حديثنا عن «أرجوحة من عظام».

 

المهد» ومارسابا»... بين الشفاء والموت

يمكن سؤال الضيف عن الدافع الرئيسيّ لكتابة روايته، أو ما الّذي أراد قوله؟ لكنّ الأسئلة جرت مثلما حدثت بالفعل، قال إنّها أكثر الروايات ارتباطًا عضويًّا بالواقع السياسيّ لنهاية مرحلة أوسلو» الحقيقيّة، وكلّ ما كان الفلسطينيّون يحلمون به من واقعيّة الحياة الأقلّ توتّرًا مع الاستعمار. لا يمكن للرواية أن تغفل عن أسطورة حقيقيّة، عن أبطال ظُلِموا كثيرًا لأنّ خصومهم كانوا يعتبرونهم تهديدًا، وكان زعيمهم، ومَنْ يتحمّل مسؤوليّة حمايتهم، كان أجبن من تحمّل مثل هذه المسؤوليّة.

جميع أركان الأسطورة الملحميّة توافرت في هذه البطولة، هي ليست شجاعة فقط، أو قوّة تحمّل وصبر، بل معاني الصداقة والحبّ والحلم الصانعة للشخصيّات الملحميّة، هي المحرّك الرئيسيّ للأحداث، وكان شعوري روائيًّا أنّها يجب أن تعود مرّة أخرى، فهؤلاء في جلّهم شخصيّات حقيقيّة، وأضاف: "مع أنّني لم أعش تفاصيل الحكاية، غير أنّني أجريت مقابلات مع الناجين، ومع المبعَد جهاد جعارة، أعطتني وثيقة روائيّة ثمينة".

جميع أركان الأسطورة الملحميّة توافرت في هذه البطولة، هي ليست شجاعة فقط (...) بل معاني الصداقة والحبّ والحلم الصانعة للشخصيّات الملحميّة هي المحرّك الرئيسيّ للأحداث...

وعن اختيار الكنيستين في الرواية، قال إنّ كلتيهما تأسره منذ زمن؛ ففي «كنيسة المهد» تستحوذ عليه فكرة المهد والجماجم، وأنّ المسيح كان هناك يرضع، وتكرار مأساة المسيح مع فدائيّين آخرين تعرّضوا للخيانة من الجميع، كان العالم يكذب في تقديسه لكنيستهم، ويبيعهم في هذه المواجهة، وقد جاءت الرواية رثاء لفكرة العدالة. "لا أنسى فكرة خيط الدم للمبعد جهاد جعارة، الّذي كان يجرّ قدمه شبه المبتورة، وهذا المشهد تحديدًا هو الّذي ولّد لديّ السؤال: كيف لشعب أن ينسى أبطاله؟".

وعن الكنيسة الأخرى يقول الشرفا: "على المستوى الشخصيّ يسحرني التقاء الوادي والجبل، هذه الجغرافيا الّتي تغويني للتأمّل الإبداعيّ، وقد حملت ذلك من قريتي ’بيتا‘؛ فهي التقاء بين الوادي والجبل أيضًا".

أمّا عن الكنيسة: "في الوعي الإنسانيّ لا يمكنك حتّى اليوم فصل السحر عن الأسطورة والعقل"؛ بمعنى أنّ الأساس الروائيّ لحضور الشفاء داخل كنيسة مارسابا هو أنّ المرض البشريّ ناجم عن مرض ثقافيّ؛ فكلّ واحد منّا يُلَقَّح بروايات مختلفة؛ فالرواية التاريخيّة عمليّة تلقيح، والعلاج في الكنيسة كان محاولة لمعالجة الشيفرة الروحيّة والحكائيّة عند المريض الهارب من عائلته؛ ليحميهم من فجيعة موته، وهكذا تخلّق الحوار من خلال التعمّق في المكان عند زيارته".

 

سؤال الجدوى

هذا التناقض بين مشاعر الراوي في الكنيستين جعلته يصف الدم الكثير؛ الأطراف المبتورة؛ الجروح النازفة؛ العظام البارزة، بمشاهد تحمل جماليّة عالية لأنّها اقترنت بالوفاء والتضحية، كأنّ الجميع يتسابقون لأجل موت أجمل.

يقول الشرفا: "سؤال الجدوى من الفداء، سؤال سياسيّ كبير، فهناك فرق بين مَنْ يتخيّل ومَنْ يدرك، في الحالة الفلسطينيّة تحوّل الواقع إلى سخرية، وانتصار على مستوى الحلم، أمام هزيمة مرعبة في الواقع السياسيّ، فمشروع الانتصار الفلسطينيّ مشروع على مستوى الذاكرة لا على مستوى الميدان؛ فما هو النصر الذي كان ينتظر إبراهيم النابلسي -على سبيل المثال- إلّا في حضوره داخل السردية الوطنية؟

يركّز وليد الشرفا على عجز الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ عن مواكبة الفعل الوطنيّ الشعبيّ نتيجة انحساره خلف مصالحه المادّيّة...

يركّز وليد الشرفا على عجز الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ عن مواكبة الفعل الوطنيّ الشعبيّ نتيجة انحساره خلف مصالحه المادّيّة، ويقول إن الخطاب الحزبيّ والفصائليّ والإعلاميّ يصوّرنا شعبًا يكره نفسه، ولهذا الخطاب انعكاسه على هزيمة الوعي الفرديّ والجمعيّ، ممّا يجعل النصر مستحيلًا في هذا الواقع.

المعجزة الوحيدة المثيرة للسخرية تتمثّل في العبارة المركزيّة لمبنى الرواية، وهي أنّه لا يعطّل القدرة على القتل إلّا الرغبة في الموت؛ لأنّ هذه الرغبة تتمثّل الآن في فعل المقاومة الفرديّة؛ فالفعل الجماعيّ يتطلّب وعيًا طبقيًّا بين مستغِلّ ومستغَلّ، فماذا بقي من هذا الوعي ومن صراعات الطبقات؟ في رأيي أنّه لم يبقَ شيء؛ الطبقات الموجودة خطابيًّا طبقات لغويّة، فلا الإسلاميّون، ولا الماركسيّون أو الثوريّون يمثّلون جوهر أفكارهم.

 


 

فارس سباعنة

 

 

 

شاعر وإعلاميّ، صدر له مجموعتين شعريّتين «يصدّقني الكمان» (2016)، و«كأنّها سحابة» (2012). مختصّ في الإعلام الثقافيّ والقانونيّ، وساهم في تنظيم فعاليّات ومهرجانات وبرامج ثقافيّة وأدبيّة.