أمومة فلسطين المفجوعة

للفنّانة البصريّة إديل رودريغيز | The Nation

 

كيف تحمل أمّ ابنها الشابّ الّذي فارق الحياة على كتفها مبتسمة؟ كيف ترثيه للعالم بكلمات غير متقرّحة بسبب الغضب، ولكن مفعمة بالحبّ الممتدّ والأمل؟ كيف تزغرد احتفاءً عند خبر استشهاده؟ وكيف لا تنهار عند تصوّر أيّامها القادمة من غيره؟ اعتاد الشعب الفلسطينيّ على هذه الصور، ومنها صورة تطلّ علينا فيها هدى جرّار، والدة الشهيد إبراهيم النابلسي (2003 - 2022)، مبتسمة وهي تحمل نعشه على كتفها وتزفّ شهادته، وتطمئن شعبها بأنّه "بالعكس، في مئة إبراهيم"!

بالرغم من شجاعة هدى جرّار الاستثنائيّة، والإيثار النادر والحبّ الأسطوريّ للحياة والأرض وشعبها؛ فإنّ ذلك الوقار في التعامل مع استشهاد الابن لا يكون دائمًا هو الردّ على هكذا فاجعة؛ فثمّة أمّهات كثيرات انهرن ونوّحن وبكين وكففن عن الابتسام طيلة حياتهنّ؛ ردَّ فعلٍ مستوعبًا تمامًا أيضًا؛ فالأمّ الفلسطينيّة هي الّتي تكمل الحياة بعد الاستشهاد، وهي الّتي تُغْصَب على مجابهة الوحدة المؤلمة في فقد الابن أو البنت.

 

أمّ سالم التغريبة

في مسلسل «التغريبة الفلسطينيّة» (2004) تظهر لنا ’أمّ سالم‘ بثياب بالية، وشعر أشعث، حافية القدمين، تجلس في التراب. لا تستوعب أمّ سالم ما يدور حولها، وتشرع بإطعام وسادة في حضنها. تُحضر الطعام من الحجر الملقى خارج الخيمة المشؤومة الّتي غُصِب جيرانها على إقامتها عند نزوحهم، ثمّ تحاول أن تطعم المخدّة الأكل الّذي حضّرته، حتّى أنّها تمسح فم المخدّة من الطعام المتخيَّل الزائد.

نكتشف أنّ أمّ سالم، أثناء فاجعة النكبة، كانت قد انتشلت المخدّة عوضًا عن ابنها الرضيع، وعند إدراكها لذلك، دخلت في صدمة وفقدت رشدها.

بذلك تتحوّل هذه الحادثة الفاجعة من مسلسل «التغريبة الفلسطينيّة»، الّتي تُذكّر بحوادث فاجعة حقيقيّة لأمّهات فلسطينيّات فَقَدْنَ أولادهنّ من بين أيديهنّ، وقت النزوح غير القابل للاستيعاب، إلى حادثة عموميّة موجعة تستقرّ في الذاكرة الفلسطينيّة الجمعيّة، حتّى عند الأجيال الّتي لم تختبر رعب النكبة والمجازر الّتي تلتها. تصبح أمّ سالم الأمّ الفلسطينيّة المفجوعة؛ تذكيرًا بويلات النكبة، وذنبًا يحمله الشعب الفلسطينيّ، بالرغم من كونه غير مسؤول عنه، بل هو متلقٍّ له.

 

 

مجنونة الكابري

في رواية «باب الشمس» (1998) لإلياس خوري، الّتي "أصبحت جزءًا لا يتجزّأ من قصّة فلسطين، كما أصبح كاتبها اللبنانيّ فلسطينيًّا في صميمه"[1]، نشهد شخصيّة ’مجنونة الكابري‘ الّتي كانت تطرأ على مخيّلة البطل المغيّب يونس وتُشعره بالذنب. "في البداية بدت له كحيوان يدبّ على أربع. شعرها الطويل يغطّي وجهها، وتمشي على قدميها ويديها، وتصدر أصواتًا وهَمْهَمَة"[2]، وكانت تحمل على كتفها كيسًا من العظام الّتي كانت تلتقطها من الأرض. بعد موتها بجانب كيس العظام الّذي كانت لا تتحرّك من دونه، تبيّن للناس أنّها كانت تبحث عن الهندباء طوال ذلك الوقت. هذه المرأة الّتي كانت تعوّل وتنوّح وتولول "كانت تنتقل ليلًا، تمشي وحيدة، كأنّها شبح الموتى الّذين حملهم في كيسها. وكان الناس يخافونها. لم يرها أحد، والجميع رآها. تلبس ثوبها الأسود الطويل، وتمشي بين بقع الظلام"[3].

’مجنونة الكابري‘ الّتي نسي أهل قريتها إنقاذها أثناء الرعب الإسرائيليّ في قريتها، تحوّلت، إذن، إلى نموذج الفلسطينيّة المفجوعة، ليس فقط على أحد أولادها ولكن على الشعب الفلسطينيّ كلّه؛ فنحن لا نعرف سبب التقاطها العظام، وتحوُّل العظام الّتي بقيت دليلًا مادّيًّا على المجازر الصهيونيّة، إلى نبتة الهندباء ضمنيًّا في النصّ. تُقدِّم فاجعتها، وهي فاجعة جمعيّة، بضوء جروتسكي قاتم، وتُورِّث مَنْ يراها ومَنْ يعرف قصّتها شعورًا بالذنب تجاه مَنْ استشهدوا، ومَنْ نسيناهم أثناء حلول النكبة حدثًا فاجعًا طارئًا وشاملًا.

تحوُّل ’مجنونة الكابري‘ إلى شبح يلاحق الفلسطينيّين الأحياء يومئ إلى ذلك الألم في الذاكرة الفلسطينيّة، الّذي يحمله الشعب الفلسطينيّ أينما ذهب. لذا؛ تصبح ’مجنونة الكابري‘ تجسيدًا تامًّا لحالة الفجع الفلسطينيّ من غير تجميل أو مواربات.

 

الرعب

يأخذ نموذج الأمّ الفلسطينيّة المفجوعة من أهوال النكبة وما تلاها منحًى أكثر سوداويّة في نفس الرواية، عندما نسمع عن رعب النزوح عن جدّة الراوي، الّتي كانت تروي قصّة امرأة كان يبكي ابنها بسبب الجوع. لم يوقِف بكاءه عندما قدّمت له رغيفًا من الخبز؛ لأنّه لم يكن مكتملًا، فخاطت الرغيف بالإبرة والخيط، وعندما أصرّ على بكائه قتلته أمّه.

"أسمع صوت جدّتي"، يحدّثنا الدكتور خليل الّذي كان يسهر على يونس الّذي دخل في غيبوبة، "يروي عن المرأة الّتي خاطت الرغيف، أستمع إلى حكاية المرأة في حقول بيت جنّ، وأرى جدّتي كممثّلة إيمائيّة، تصغّر عينيها كي تستطيع إدخال الخيط الوهميّ في ثقب الإبرة الوهميّة، ثمّ تمسك رغيفًا وهميًّا في يدها، تقسمه إلى قسمين، وتبدأ بخياطته"[4].

مثال الأمّ الّتي قتلت ابنها أثناء النزوح، الّذي اجتازه معظم الشعب الفلسطينيّ بنوع من انعدام التصديق، والفصل عن الحدث والمحيط، هو مثال مروّع نفضّل دائمًا أن نتناساه لأسباب مفهومة تمامًا. إلّا أنّ هذا المثال المؤلم جدًّا، الّذي يمكن أن يكون حدثًا حقيقيًّا أو متخيّلًا، يسلّط الضوء بسبب السياق الّذي طرأ فيه، ليس على الأمّ وفعلتها، لكن على ذلك الشيء المرعب جدًّا؛ المرعب إلى حدّ انعدام المنطق والتفكير، وهو الاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ الدمويّ، الّذي دفع بأمّ أن تفعل ذلك.

 

«محبوبة» الّتي قتلتها أمّها

في رواية «محبوبة» (1987)[5] للراوئيّة العبقريّة الأفروأمريكيّة، توني موريسون (1931 - 2019)، الّتي احتفلت صحف صهيونيّة بوفاتها؛ بسبب دعمها للقضيّة الفلسطينيّة، نسمع عن قصّة مشابهة؛ فالرواية الّتي تجري أحداثها في القرن التاسع عشر، والّتي تحكي قصّة عائلة من الأفراد السود الّذين كانوا عبيدًا عند البيض سابقًا، تتوسّع في ذات الألم الّذي دفع بالأمّ إلى تلك الفعلة المروّعة. تحكي «محبوبة» قصّة سيث الّتي يلاحقها شبح امرأة يافعة خرج من الماء. نكتشف في الرواية أنّ الشبح لابنتها الرضيعة الّتي كانت قد قتلتها خوفًا من أن يجدها أسيادها البيض، واتّقاءً للرعب الّذي كانوا سيُلحقونه برضيعها. إلّا أنّ الطفلة الّتي قتلتها أمّها تكبر على هيئة شبح، وتعود لتلاحق أمّها وتذكّرها بفعلتها.

لم تكتب موريسون «محبوبة» لأجل التوغّل في فكرة سوداويّة تنضوي تحت قصص الرعب؛ بل كتبتها لأجل توصيف المآسي غير المحتملة الّتي ألحقها البيض بالسود...

لم تكتب موريسون «محبوبة» لأجل التوغّل في فكرة سوداويّة تنضوي تحت قصص الرعب؛ بل كتبتها لأجل توصيف المآسي غير المحتملة الّتي ألحقها البيض بالسود بشكل غير مباشر، إلى جانب المباشر الدمويّ. سيث لم تقتل طفلتها لأنّها مجرمة، أو لأنّها فقدت مشاعر الحبّ لها؛ بل قتلتها لأنّها تحبّها، ولأنّها ارتعبت ممّا كان سيفعله البيض بها. في مقال مهمّ للباحثة كورتني بيكير عن روايات موريسون، الّذي تركّز فيه على علاقات الأمّهات السود المستعبدات ببناتهنّ، تشرح عن انسلاخ معيّن يطرأ عند انعدام الحرّيّة لدى شعب معيّن، وهو انسلاخ يحدّده ألم وتوق إلى اكتمال تامّ لن يطرأ أبدًا[6]. تخلص بيكير إلى أنّ "الاستعمار الاستيطانيّ؛ هيمنة الشعب الأبيض؛ الذكوريّة؛ الرأسماليّة؛ العبوديّة، هي الّتي تحدّد فعلة الأمّ عملًا مغصوبًا عليها، عوضًا عن كونه عملًا اختياريًّا أو حتّى إراديًّا"[7].

بذلك، يظهر المجرم الحقيقيّ وراء موت ’محبوبة‘، والطفل الفلسطينيّ الّذي لم يرضَ برغيف خبز خاطته له أمّه، عندما كان العالم كلّه يتفرّج على نكبتيهما، وهو الرجل الأبيض الّذي يقف وراء موت هؤلاء الأطفال وملايين غيرهم حتّى يومنا هذا؛ فالأطفال الشقر الزرق العيون، الّذين قتل واغتصب وهجّر وعذّب وجرح آباؤهم وأجدادهم شعوب غير بيضاء حتّى يَهنؤوا بعيش لا يشوبه الفزع والتحقير والانعدام التامّ للطفولة، لن يعرفوا أنواع الموت الشتّى الّتي يتعرّض لها الطفل الأسود، أو الفلسطينيّ، أو العربيّ بعامّة، أو الأصلانيّ، أو الأمريكيّ-اللاتينيّ، وغيرهم.

 


إحالات

[1] بشير أبو منّة، الرواية الفلسطينيّة: من سنة 1948 حتّى الحاضر (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2020)، 279.

[2] إلياس خوري، باب الشمس (بيروت: دار الآداب، 1998)، 64.

[3] مرجع سابق، 67.

[4] مرجع سابق، 210.

[5] Toni Morrison, Beloved (New York: Alfred A. Knopf Inc., 1987)

[6]  Courtney R. Baker, “Mothers, Daughters and the Lash: Mourning the Mother Tongue in Toni Morrison’s Mercy”, Meridians: Feminism, Race, Transnationalism 21 no. 2 (2022) 2022: 339.

[7] “R. Baker, “Mothers, Daughters and the Lash”: 342.

 


 

سنابل عبد الرحمن

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة تهتمّ بالأدب والفنّ المعاصر، مرشّحة دكتوراه في الأدب الفلسطينيّ، بالتركيز على الواقعيّة السحريّة في «جامعة ماربورغ».