لي في غزّة أصدقاء... وشعب

مواطن فلسطينيّ بين أنقاض القصف الإسرائيليّ في غزّة | بلال خالد، Getty.

 

لي في غزّة أصدقاء كثر، ولي في غزّة أهل لأصدقاء يقيمون في بيروت، ولي فيها امتداد البلاد، وشاطئ البحر، ولي في غزّة شعب، يمتدّ من أبعد فلسطينيّ إلى أقرب فلسطينيّ على غزّة.

خلال النهار والليل، أُرسل إلى الأصدقاء عبر الخدمات المتوافرة، أعرف أنّي أجرّب الاطمئنان عليهم إن كانوا على قيد الحياة، أم نالت منهم طائرات المجزرة المتنقّلة.

أرسلت إلى بهاء لأسأل عنه، فكان لمّاحًا، وفهم سؤالي، فأجابني: "لا تقلقش... عمر الشقي بقي… مش حاطط في بالي أموت في حرب يا معلّم"، وأخبرته عن تطوّعه لمساعدة الناس في أيّ شيء يحتاجون إليه. اتّصلت بباسل المقوسي لأعزّيه بابن شقيقه الّذي استشهد خلال القصف، فكانت كلماته عزاء وطمأنة لي، وكان في كلماته ما يرفع معنويّات الموت لو أراد الموت أن يحيا، فجعلتني كلماته أشعر بالخجل من خوفي عليهم، لكنّني أخاف عليكم.

عملت لسنوات في إحدى المحطّات الفضائيّة، وكان من بين العاملين فيها حشد من الغزّيّين، أكلنا وشربنا معًا، وعملنا في تغطية أكثر من حرب وعدوان على غزّة والضفّة معًا، سهرنا وصرخنا في وجه بعضنا بعضًا في العمل في لحظات التوتّر، وفي اللحظات الّتي كانت تصلنا فيها فيديوهات للحدث من الأرض قبل المونتاج، وفيها من الدماء الكثير، ما كان يخلق أجواء من التوتّر الشديد.

هؤلاء اليوم، مستمرّون في عملهم ذاته، بقنوات ووسائل إعلام مختلفة. يعملون في تغطية العدوان الجديد على المكان الّذي تربّوا وكبروا فيه، بعضهم يسكن في بيروت، وأهلهم هناك، وسام وباسل يقدّمان الأخبار ويبقون على الهواء لساعات طويلة مع زملاء غيرهما، يقرأ واحدهم الأخبار على المشاهدين، وربّما يذيع عن إحدى الغارات وقد قصفت منطقة سكن عائلته، ومع ذلك يتابع تلاوة الخبر، حابسًا عبراته في عينيه، وملتزمًا بتسليم الأمور لله، وكم من مرّة شاهدتهما حين ينزلان عن الهواء، يمسكان هاتفيهما ليطمئنّا على أهلهما وذويهما! ومثلهما زملاء يعملون في تحرير الأخبار، وزملاء يعملون في الميدان في غزّة، يتدرّعون بدرع الحماية الّذي لا تأبه به إسرائيل، ويرتدون خوذ الرأس، ومع أنّهم من غزّة، يلتزمون بأخلاقيّات المهنة في التغطية الصحافيّة، إلّا أنّهم يُقْصَفون، ويستشهدون، وفي هذا العدوان الأخير، استشهد حتّى الآن 8 صحافيّين على الأقلّ، وثّقتهم جهات عدّة حقوقيّة.

أمّا أشرف زميلي وصديقي، فشابّ ضاحك على الدوام، صاحب نكتة حاضرة على الدوام، حتّى في تغطية الحروب. في هذا العدوان، وبينما كان في الميدان يتابع المجريات، ويخرج بالرسائل الصحافيّة على الهواء مباشرة، تلقّى نبأ استشهاد شقيقه وهو في الميدان أيضًا، يناضل. مع ذلك، ورغم مصابه ومصاب عائلته وشعبنا، عاد أشرف إلى الميدان، ويقوم بواجبه المهنيّ. أيّ طاقة وقدرة لديه ولدى هؤلاء الزملاء والأصدقاء!

إنّه أمر لا أقدر على تفسيره لديهم، فلا أعلم كيف أوجّه التحيّة لهم، وأنا منهم، يعنيني ما يعنيهم، ويؤلمني ما يؤلمهم، ويقتلني ما يقتلهم؛ فلا أعرف إن كانت التحيّة تجعل بيني وبينهم مسافة ليست حقيقيّة، ولا أعلم بالضبط كيف أشعر معهم، لكن ثمّة ما يسهّل عليّ وعليهم، بأنّنا جميعًا من فلسطين، وبأنّنا جسد واحد، يتداعى لبعضه بعضًا بالسهر والحمّى، وبالموت والانتصار.

مثل هؤلاء، أصدقاء من غزّة، يقيمون في أوروبّا، يكاد واحدهم لا ينام حتّى يستيقظ؛ ليطمئنّ على أهله، وعلى ما يقدر من الأصدقاء، منهم مصعب، الّذي يتّصل بي غير مرّة في النهار والليل؛ ليزوّدني بأخبار جديدة التقطها من صفحات الاحتلال باعتباره يتقن اللغة العبريّة. مصعب لا يكفّ عن متابعة الأهل والأخبار؛ فهو يخوض معركة مع ’الهاسباراه‘ الصهيونيّة على أكثر منصّات التواصل وصفحاته تأثيرًا، يعمل على تغيير الرأي العامّ، يكلّم الإسبان بلغتهم، والفرنسيّين بلغتهم، وباقي الناس بالإنجليزيّة، قد يسمّي مصعب هذا العمل "أضعف الإيمان"، وأنا أسمّيه، أحد أساسيّات النضال. مصعب ليس وحده في هذه المعركة، هناك زوجته أيضًا، الأكاديميّة اليساريّة الإسبانيّة الّتي تفعّل جنسيّتها لتقول ما تريد في وجه مَنْ يريدون تضليل الرأي العامّ الغربيّ، فتخوض صراعات في القنوات التلفزيونيّة والإذاعات واللقاءات العامّة؛ لإيصال الحقيقة إلى من تمكّنت منهم الدعاية الصهيونيّة في العالم.

وهناك وسام أيضًا، الّذي صادف وجوده هذه الأيّام في بيروت، بينما هو مقيم مع أسرته في فرنسا، فبينما كان يقضي يومه في العمل على فيلم سينمائيّ، عن أحداث معيّنة في الانتفاضة الأولى في غزّة تحديدًا، أجده اليوم في المقهى ذاته الّذي يجلس فيه يوميًّا في بيروت، إمّا يتّصل بأفراد عائلته الكبيرة، وإمّا بأصدقائه ورفاقه في غزّة؛ يسمع من هذا وهذه وذاك وتلك، عمّا يمكن أن يُؤَمَّن من مساعدات ومتطلّبات، فيحاول تأمين ما أمكن لغزّة عبر أصدقائه الأوروبّيّين المتضامنين مع فلسطين، فضلًا على اجتماعاته مع اليساريّين في فرنسا، عبر وسائل التواصل؛ لتقديم الصورة الدقيقة لما يجري؛ من أجل التأثير في الرأي العامّ في بلادهم.

هؤلاء عيّنة بسيطة، وهؤلاء مثلهم آلاف في غزّة وحول العالم، لا ينتظرون من العالم أيّ شيء، لكنّنا جميعًا نريد حرّيّة لا قبلها ولا بعدها، حرّيّة أرضنا وشعبنا، وحتّى نيلنا حرّيّتنا، سنبقى نناضل في كلّ العالم من أجل هدف واحد، وطننا بكامل ترابه، من بحره إلى نهره، ومن زيتونه إلى تراب صحرائه، ومن عينَي جدّتي إلى عيون أحفادي.

 


 

أيهم السهلي

 

 

 

مساعد باحث في مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، حيث يكتب المقالات والتحقيقات لمجلّتها وموقعها، ويساهم في إعداد موادّ عن مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين للموسوعة التفاعليّة للقضيّة الفلسطينيّة.