يقصفونني الآن ولا أموت

زورق محترق في بحر غزّة من قصف إسرائيليّ، 10/10/2023 | محمّد همص، Getty.

 

لا يحدث كثيرًا، أن تظلّ على قيد الحياة؛ لأنّ اليمامة الّتي كانت تسيّج عشّها على سطح بيتك؛ لتحميك مِنَ المتاهة والمجاعة والقصف، طارت وتركتنا نحن أفراخها، نتلوّى مِنَ الموت.

لم يذكروا اسمي في نشرة الأخبار، أو على لسان الأحياء، لم يعرفوا أين أنا مِنْ هذا الاختبار العظيم، فهل نجوتُ حقًّا مِنْ شلّال الموت الّذي لا يهدأ؟ لا أعلم بعد، لمّا أعرف النجاة بعد، ولم يصلح الفلاسفة فلسفاتهم الرزينة والساخرة؛ ليبحثوا عن معنًى آخر للنجاة، أكثر مصداقيّة من التصريحات والتنديدات.

أنا بين جدران الآن، ربّما في لحظة ما قادمة أكون تحتها، أو أعبر مِنْ خلالها شهابًا يزور العوالم، ثمّ يخترق السماء بمعراج معجز. تتبلور فكرة النجاة في حلقي، تقف كشظيّة عبرت مع الماء القليل، مع المعلّبات الكثيرة، والموت الطازج، لا أرقب في هذه الحالة، ولا أعرف أأنا أهلوس بالنجاة، أم أنّ هلوساتي كلّها آتية من الموت!

أستحضر قوافل الأموات والمصابين، أستحضر صوت القصف الداخليّ والخارجيّ، هذا الصليل الّذي يهزّ القبور كسرائر الأطفال، ويفتح لنا قبورًا جديدة؛ لندخلها ناقصين وكاملين، بكلّ ما فينا من رجفة، نحمل بياض الكون، ونترك دمنا للأرض وللقذائف.

قبل هذا الموت، كنت أنجو كلّ يوم من العويل ومن الحياة، لم أكن أعرف أنّني أنجو بمقياس الحياة لا بمقياس الموت؛ لأنّ النجاة سمة العالقين في الحياة، ولم يفزعني في هذا الموت غير ما سبّبه لديّ مِنْ إدراك وتشوّك عصبيّ، حملني للابتهال والتصوّف تارة، للشتم والتذمّر تارة، للصراع والاستسلام تارة.

وأجرّب حظّي، في ركاب الموت والشهداء، أجرّب حظّي في القدر؛ لأنسج صورة للأنقياء، مَنْ رحلوا مع الغيم الأسود، مَنْ زفّتهم أعمارهم وأحلامهم، مَنْ استقاموا وصلّوا صلاة السكوت، مَنْ جعلوا لنا أسماءهم، ولفّونا بشرنقة النجاة مثلهم؛ لنعبر بهم حوافّ العالم، حتّى الخلود.

في الأصنصير، أتحدّث إلى نفسي بالحقيقة:

- شكلها مطوّلة؟

- آه آه، مطوّلة كتير.

يكفيني مِنْ هذه الحياة، ذاكرتها ومذكّراتها المتشظّية في أعضائي، رحل الّذين نحبّهم رحلوا، وبقينا نحن عالقين بين التثاؤب والارتباك.

عندما استيقظت، كنت سأعدّ كوبًا من القهوة الذهبيّة، وأرتدي ملابسي الوظيفيّة، وأرتاد الحياة الرديئة، وأنساب مع الوظيفة والانشطار الثقافيّ والنفسيّ، لم يكن في الحسبان، أنّ الصباح سيفلق رأسي؛ ليُخرج جوزة النجاة مِنْ رأسي، ويقبض قلبي على نفسه، في محاولة لاستيعاب الحقيقة؛ لأدرك بعد سبعة عشر يومًا مِنَ القصف، أنّ المجاز حالة مفرغة، وأنّني كنت أرى الشقاء والتعاسة مِنْ وراء حجاب، لم يَعُدْ للواقع معنًى يوضح لنا تصلّب الأقدام وزلزلة البناية وارتطام الأرض بالأجساد، وهذا الدم، هذا الدم الّذي لا ينتهي.

لم أكتب منذ ليال، لم أستطع شبك الحروف بهذا الموت المخيّم معنا، الّذي يوقد لنا النار، ويبني لنا الغيم الأسود؛ ليُظِلَّنا بالبارود والشهداء. أحاول السير في الممرّات وأنا أرتّل مِنَ القرآن، لا أجد شهقة حجازيّة لأكمل الآيات، ها أنا أجمع مفرداتي مِنَ الشظايا، ومِنَ النزف الطويل، وأنثره... لأنّ الشِّعْرَ لا يسعني الآن، ربّما غدًا أو بعد غد، أو في يوم تطلّ النجاة فيه عليّ، وترفع عنّي هذا الزلزال الزخم.

أسمع درويش؛ لأكسر حاجز الحديث وأسمع، أسمع المديح والهجاء، أسمع للتاريخ المعاصر على لسان الماضي، فأصير عنقاء أنجبها المجاز، وتركها للقصف. كيف سأنام إذا لم أَصْحُ مِنَ الحلم، ومِنَ الرغيف الهارب مِنَ العقل؟ أشتاق إلى البحر والموج الصاخب، فهل سأنام إلى الأبد؟ وهل سأستيقظ مِنْ بعد هذا الركام؛ لأجدّد خطوي إلى البحر؟

- مَنْ سيحمل خطوي إلى البحر حين يحملني القصف؟

- سأحاول العثور عليك.

- ومَنْ أنت؟ مِنْ أين خرجت؟

- نعشك، خرجتُ مِنْ تأمّلاتك الفزعة. ألم ترني؟

- لستُ نبيًّا لأراك، ولا يوحى إليّ، ولم يُتْلَ عليّ، فكيف أقرأ؟

- أغمض روحك ودعها للتيّار الّذي يمرّ الآن مِنْ خلالك.

لا تيه بين الخوف والموت السخيف

فجنازتي تُطْوى على العشب الكفيف

قمر الغروب

شمس الصباح

وقصيدةٌ سقطت بدفءٍ مالحٍ

فوق الرصيف

وأنا بقلب فراشةٍ، لوزيّةٍ

قُتِلْتْ بلا سببٍ

أموت على رغيف.

يقصفونني الآن ولا أموت، تهتزّ البناية لهول الموت، ويفجع فيّ العصب، الله أكبر...

أنتظر الموتى، مَنْ فقدونا وفقدناهم؛ كي يعودوا؛ كي يجيبوا على رسائل الأحياء؛ كي يحاولوا النجاة مجازًا مرّة أخرى أمام هذا الموت، أنتظر انبعاثاتهم وروائحهم، أنتظر الصباح فيهم، وأرجف الليل فيهم، خسرنا وفازوا بالنجاة الحقيقيّة، وبَنَوْا لنا سلّم الذكريات الطويلة، ونحن على العتبات ننزع أكفاننا ونغطّيهم، يا بردنا، هات بُرْدَةَ النبيّ لنأمن الفزع الأخير، ولنغطّي تفحّم أجسادنا، ونخرج إلى الحياة الأخيرة.

ما زلتُ حيًّا، حين أخطأتني الشظيّة، حين انهار المبنى المجاور لي، حين قصف الوقت مِنْ خلفي، وحين انتهى فيّ المجاز مجازي. سقطتْ سماء القصف، وفُتِحَتْ سماء الله، فالتقطتّ المجرّة بالكفّ الخفيفة، والعاجزة عن امتصاص دم الشهداء، هل متّم حقًّا؟ هل نجوتم حقًّا؟

لا أحد يخاطبني مِنَ البنفسج؛ لأعرف تفسير الحكاية وراويها، قسمتْ ظهورنا بعد هذا القصف، لا نهرب مِنْ غرق الركام؛ لنعرف سرّ الحكاية، لننزل في البئر، ونجاور الوحي؛ لنتأكّد في الفرصة المقبلة، أن نعدو بالقلاع وبالسلاح؛ لننجو من القذيفة الحمراء.

رغيفي الآن عارٍ، أنشره على جبهة الأسماء، أسماءً وأسماء، تحلّق في ومضة الفكر الناعسة؛ لأرخي زهوري فوق نعوشهم، وأرخي يديّ مِنْ جثامينهم الباردة.

يا دمنا السائل بين الحضارات: سيضرب برقهم نخلنا، فهل ستنجو مِنَ النزف؟ هل سأغسل يداي مِنْ دم الشهداء؟

 


 

تامر كحيل

 

 

 

كاتب وفنّان من غزّة، عضو هيئة تحرير سابق لملحق يراعات الصادر عن جريدة الأيّام. مقدّم برنامج حواريّ وعازف عود، وفاعل ثقافيّ واجتماعيّ.