ضراطستان | قصّة

Getty.

 

(1)

لم يرد السيّد سميد البومغاز أن يعترف كم أَحبّ طبق الفول الّذي كانت تحضّره الجدّة أيّام الطفولة. لقد انقرض طبق الفول الضراطستانيّ بالزيت الحرستانيّ، بعد أن منعت حكومة ضراطستان استيراد الزيوت أو جلبها من سوريا في عام 1967، تضامنًا مع الأصدقاء الإسرائيليّين في مقاومتهم الباسلة ضدّ آسيا المتوحّشة.

نظر سميد في صحن الفول الّذي أعدّته زوجته نيتروجينا البومغاز بالزيت المستورد مِنْ إيطاليا. تمنّى القليل، فقط القليل مِنَ الزيت الحرستانيّ، ولكنّه نظر إلى الصورة المعلّقة على الحائط للضراط الأعظم، كاهن الضراطستانيّين، الّذي حرّم زيوت آسيا ومنتجاتها بعد الصحوة الدينيّة للطريقة الضرطيّة، في الثمانينات مِنَ القرن الماضي، الّتي لم تحلّ بالضبط محلّ القوميّة العلمانيّة الضراطستانيّة، بل أصبحت مكمّلًا لها.

تذكر سميد مقولات الضراط الأعظم بأنّ آسيا هي مسكن الشيطان الأكبر، وكلّ ما يأتي منها يخالف الطريقة الضرطيّة؛ فتلاشى حنينه إلى الفطور القديم. 

بعد أن أنهى سميد وجبة الفطور، وشرب كأسًا من القهوة. أخذ دشًّا باردًا، ولبس بدلته العسكريّة لسلاح المدفعيّة الضراطستانيّ، جلس على الكنبة في غرفة المعيشة حيث عائلته، وهو يشعر بتحوّلات، ويسمع طقطقات في أمعائه.

لقد حان الوقت.

وقف وودّع زوجته وأولاده وأحفاده، قبل أن يقرفص في وسط غرفة الجلوس، وفكّر في مكان معيّن؛

تل أبيب.

مِنْ ثَمّ ضرط واختفى.

 

(2)

في تمام الساعة العاشرة صباحًا، ظهر السيّد سميد البومغاز فجأة أمام «برج الساعة» في بلدة يافا القديمة؛ لأنّه دائمًا ما كان يخلط في مخيّلته بينها وبين تل أبيب. توجّه نحوه عنصران مِنَ الشرطة الإسرائيليّة، وطلبا منه جواز السفر الدبلوماسيّ الضراطستانيّ، ذلك لأنّه لا يحقّ لدخول إسرائيل بطريق القفزة الضرطيّة، إلّا للضراطستانيّين مِنْ الشخصيّات المهمّة.

القفزة الضرطيّة هي مسمّى القدرة الخارقة على الانتقال الآنيّ بين مكانين مختلفين في أنحاء العالم، وهي قدرة طوّرتها القبائل الضراطستانيّة القديمة منذ قرون سحيقة. كلّ ما على أيٍّ منهم فعله هو أن يأكل طبقًا مِنَ الفول الضراطستانيّ؛ أن يقرفص ويفكّر في مكان معيّن، ومن ثَمّ يضرط فيقفز عبر نسيج الزمكان، ويجد نفسه في الوجهة المبتغاة.

هكذا تقافز الضراطستانيّون، بين جزيرة ضراطستان الكبرى في البحر الأسود وجزيرة ضراطستان الصغرى في البحر الأبيض المتوسّط بين إيطاليا واليونان لقرون، ذلك قبل أن أقنع شيطان آسيا كلًّا مِنَ الأتراك والروس بتقاسم الجزيرة الكبرى؛ ممّا أجبر كلّ الضراطستانيّين على القفز هربًا إلى ضراطستان الصغرى. ومع أنّ كلًّا مِنَ القيصر الروسيّ والخليفة العثمانيّ قد أصدرا ’فرمانات‘ سلطانيّة ومراسيم إمبراطوريّة تحثّ الضراطستانيّين على العودة إلى الجزيرة الكبرى، والعيش بسلامٍ رعايا لإحدى الدولتين؛ فإنّ قادة قبائل الضراطستانيّة اختلفوا في ما بينهم؛ فبعضهم أراد العودة، والآخرون أرادوا تجنّب أن تستغلّ الدول العظمى في آسيا قدرات الفول الضراطستانيّ، الخارقة لمآربها في أوقات السلم وأوقات الحرب. وبقي الخلاف كذلك حتّى أصدر الضراط الأعظم قرارًا يحرّم أن يطأ الضراطستانيّون أيّ شبر مِنْ آسيا قبل أن تحدث حرب القيامة الضرطيّة، الّتي ستؤدّي إلى إبادة جميع الآسيويّين.

عُيِّن ضراط أعظم جديد في بدايات القرن العشرين، حينذاك أصدر تشريعًا جديدًا يتيح للضراطستانيّين القفز إلى آسيا فقط للإغارة على أهلها، وهزيمتهم، وأخذ الغنائم منهم، مِنْ وقت إلى آخر. وهكذا قفز الضراطستانيّون إلى آسيا بعامّة، وإلى بلاد الشام خاصّة؛ مِنْ أجل إحداث المشاكل مع الجميع؛ مع العرب، والترك والفرس، والكرد والأرمن، والشيعة والسنّة، والدروز، والموارنة والأرثوذكس، واليهود والسامريّين. وخلال الحرب العالميّة الأولى، أصدر الضراط الأعظم تشريعًا جديدًا يتيح للرعايا القفز إلى بلاد الشام؛ لمساعدة الفرنسيّين والإنجليز للقضاء على الآسيويّين وإبادتهم. وفي حروب 1948، 1967، 1973، أصدر «الحزب القوميّ الضراطستانيّ» قرارًا بدعم الإسرائيليّين بالجنود والسلاح والمال ضدّ آسيا، وفي الحرب الأهليّة اللبنانيّة في عام 1975، أصدر كلّ الحزب والضراط الأعظم (المعيّن حديثًا) بيانًا مشتركًا أعلنوا فيه أنّ جميع المتحاربين في لبنان آسيويّون، بعكس ما يدّعي بعض أطراف النزاع، وأنّ لعنة جاءت عليهم فقتلوا أنفسهم بأنفسهم. وفي العاشر من أيلول (سبتمبر) من عام 2001، أطلق الضراط الأعظم (الّذي أصبح أيضًا آنذاك منصب رئيس الحزب) ريحه الأخيرة، ومات بعد أن قال كلماته الأخيرة: غدًا ستبدأ حرب القيامة الضرطيّة ضدّ آسيا.

 

(3)

وصل السيّد سميد البومغاز إلى «جمعيّة الصداقة الإسرائيليّة- الضراطستانيّة»، بجانب «القنصليّة الضراطستانيّة» في تل أبيب، الّتي كانت سفارة سابقًا، قبل أن يقرّر الرئيس الضراطستانيّ بشجاعة نقل السفارة الضراطستانيّة إلى عمق آسيا في القدس الشرقيّة؛ تيمّنًا بالقائد محارب آسيا الشجاع دونالد ترامب. حينذاك، أقام كلٌّ مِنَ الرئيس والسفير الضراطستانيّين حفلًا بافتتاح السفارة، تخلّلته فعاليّة أن يقرفص الرئيس والسفير والرعايا الضراطستانيّون أمام مبنى السفارة القديم في تل أبيب و… ظرررررط… يقفزون عبر نسيج الزمكان إلى مبنى السفارة الجديدة في القدس.

في «جمعيّة الصداقة الإسرائيليّة- الضراطستانيّة»، ألقى السيّد سميد البومغاز كالعادة محاضرة عن شرور الجحافل الآسيويّة، الّتي تكره العالم المتحضّر وتريد غزوه وتدميره. قضى سميد سنوات تقاعده مِنَ الجيش… ظررررط… يقفز إلى إسرائيل مِنْ ضراطستان مرّات عدّة بالشهر، بل أحيانًا مرّتين باليوم؛ مِنْ أجل تشجيع الشعب الإسرائيليّ ودعمه في حربه المقدّسة ضدّ آسيا. كلّما فرغ عجل سيّارة إسرائيليّة مِنَ الهواء… ظررررط… قفز سميد إلى إسرائيل مِنْ أجل اتّهام آسيا وراء الحادثة وإدانتها، كلّما حردت زوجة إسرائيليّة مِنْ زوجها… ظررررط … قفز سميد إلى إسرائيل مِنْ أجل اتّهام آسيا وراء الخلاف وإدانتها، وكلّما رجع إسرائيليّ إلى عادة شمّ الكوكايين بعد سنة أو اثنتين مِنَ التعافي... ظررررط… قفز سميد إلى إسرائيل مِنْ أجل اتّهام شيطان آسيا وراء العودة إلى الإدمان وإدانته.

وبقي سميد على هذا الحال، يقفز ضارطًا إلى تل أبيب متى حلا له، حتّى كان منعه مِنَ الدخول إلى إسرائيل؛ بناء على قرار مِنَ «المحكمة العليا».

 

(4)

اكتأب السيّد سميد البومغاز أسابيع عديدة امتنع فيها عن تناول الفول الضراطستانيّ، أو السفر قفزًا خارج جمهوريّة ضراطستان، بعد أن أعلنه شخصًا غير مرغوب فيه بإسرائيل، وبعد أن توتّرت العلاقات الدبلوماسيّة الضراطستانيّة- الإسرائيليّة. ذلك بعدما كشف جوليان أسانج عن وثائق سرّيّة للغاية مِنَ الأراشيف الرسميّة الإيطاليّة والألمانيّة، وأرشيف الاستخبارات العسكريّة الأمريكيّة والبريطانيّة، وقت الحرب العالميّة الثانية.

في الحادي والعشرين من حزيران (يونيو) عام 1941، أطلق الضراط الأعظم ريحه الأخيرة، ومات بعد أن قال كلماته الأخيرة: غدًا ستبدأ حرب القيامة الضرطيّة ضدّ آسيا. في اليوم التالي غزا هتلر الاتّحاد السوفييتيّ، وأصدر «الحزب القوميّ الاشتراكيّ الضراطستانيّ» بيانًا أعلن فيه كسر الحياد في الحرب العالميّة الثانية، والانضمام إلى دول المحور؛ "يا أيّها الشعب الضراطستانيّ العظيم، إنّ حملة الزعيم هتلر على إمبراطوريّة الشرّ الآسيويّة السوفييتيّة، تشكّل فرصة تاريخيّة لتحرير البحر الأسود، وتحرير جزيرة ضراطستان الكبرى… إنّنا ندعو الزعيم موسيليني إلى إرسال قوّاته إلى ضراطستان مِنْ أجل حمايتنا مِنْ أساطيل حلفاء آسيا الضالّين في البحر المتوسّط، الإنجليز والأمريكان، ونعلن أيضًا تسخير جزيرتنا مِنْ أجل مساعدة سلاحَي الجوّ والبحر الإيطاليَّين في جهود هذه الحرب المقدّسة".

بعد ذلك بأسابيع، توجّه وفد مِنَ «الحزب القوميّ الاشتراكيّ الضراطستانيّ» إلى برلين، مِنْ بينهم منفوخ البومغاز؛ جدّ سميد؛ مِنْ أجل صياغة اتّفاقيّة مع هتلر؛ تسخّر قدرة الضراطستانيّين على القفز عبر الزمكان؛ مِنْ أجل العثور على الآسيويّين اليهود المختبئين في أوروبّا، وجلبهم إلى معسكرات الاعتقال النازيّة.

حضّرت الزوجة نيتروجينا طبقًا مِنَ الفول الضراطستانيّ بزيت الزيتون المزروع في ولاية كاليفورنيا، وذلك بعد أن حظرت الحكومة الضراطستانيّة استيراد زيت الزيتون الإيطاليّ والسماد الألمانيّ، مبادرات لإعادة بناء الثقة بالحكومة الإسرائيليّة. إلّا أنّ سميد الكئيب لم يرغب في أيّ شيء إلّا الفول بالزيت الحرستانيّ، الّذي كانت تحضّره الجدّة. فكّر في مدينة حرستا في ريف دمشق، وفكّر في القفز عبر الزمكان إلى هناك. راودته أفكار هرطقيّة مخالفة للعقيدة الضراطستانيّة، ماذا لو كنّا جميعًا كجدّتي الّتي لم تكره الآسيويّين؟ ماذا لو كنّا نقدر على التعايش معهم؟ ألم يُعْتَبَر كلٌّ مِنْ هتلر وجدّي المحروس اليهود كآسيويّين؟ مَنْ الآسيويّ؟ مَنْ غير الآسيويّ؟ هل هنالك شيطان أعظم في آسيا بالفعل؟

رنّ هاتف غرفة المعيشة، رفع سميد السمّاعة، ووجد المحامي الإسرائيليّ عوز أولمان على الطرف الآخر مِنَ المحادثة.

"مبروك يا سميد، قدّمنا طلب لدى المخكمة العليا، مذكور فيه أنّو المسامخ كريم، وقبلوا فيه".

أنهى سميد المكالمة، وابتسم في وجه نيتروجينا، وقال لها:

"أين طبق الفول الّذي حضّرتِه؟".

 

(5)

خلال محاضرة السيّد سميد البومغاز في «جمعيّة الصداقة الإسرائيليّة - الضراطستانيّة» في تل أبيب، انطلقت سفّارات الإنذار. آنذاك شعر سميد بخليط مِنَ الخوف والنشوة؛ هذا الخليط الّذي راوده زاد أضعافًا بعدما اكتشف أنّ الآسيويّين الفلسطينيّين قد غزوا إسرائيل، ومنذ ذاك الوقت وسميد لم يغمض جفنًا يقفز بين ضراطستان وإسرائيل، يأكل الفول في بيته و… ظررررط… يقفز عبر الزمكان، ظررررط… إلى تل أبيب… ظررررط… إلى عسقلان… ظررررط … إلى مستوطنات الغلاف… ظررررط… إلى مستوطنات الجليل والجولان، يأكل ويضرط ويقفز ويخطب ويضرط ويقفز ويأكل؛ يخطب في جموع الجنود والمستوطنين والناشطين، عن الهجمة الآسيويّة الشرسة وضرورة إدانتها، يخطب عن هذه المرحلة المفصليّة مِنَ الحرب العظمى ضدّ آسيا.

شعرت نيتروجينا بالقلق الشديد على زوجها؛ بسبب كثافة الهجوم الآسيويّ المتوحّش على إسرائيل، وقد دفعه إلى القفز هناك إلى ثلاثين مرّة في اليوم. استمرّ الوضع هكذا حتّى تقرّر أن يرافق سميد الرئيس الضراطستانيّ إلى الكنيست؛ مِنْ أجل إلقاء كلمة تؤكّد دعم جمهوريّة ضراطستان لإسرائيل في حربها ضدّ آسيا. في منتصف بيان الرئيس في الكنيست، شعر سميد بوجع شديد في معدته، ثمّ بدأ جسده ينتفخ حتّى أصبح بالونًا كبيرًا، ما لبث أعضاء الكنيست والوفد الضراطستانيّ يهربون، حتّى… ظررررط… انفجر سميد، وملأ الكنيست بالضراط.

بعد ساعة أو ساعتين، خرج سميد - سحابة الضراط - مِنْ شبابيك الكنيست وأبوابه، وارتقى إلى السماء. كانت سحابة الضراط، الطافية في أجواء إسرائيل، سعيدة بعض الشيء وهي متوجّهة إلى ساحل المتوسّط، ذلك لأنّ الرياح لم تنفكّ تدفعها إلى المثوى الّذي تحبّ، باتّجاه الغرب.  

 


 

فخري الصرداوي

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.