لا أعرف كيف حالي، لكنّي أسألكم: ماذا فعلتم لغزّة؟

عائلة في خان يونس تبكي فقدها شهيدًا في قصف إسرائيليّ، 11/2023 | عبد زقّوت.

 

مؤسف أنّ آلاف الكلمات لا تكفي لترمّم لقطة واحدة من غزّة أو حتّى لحظة واحدة. لذا؛ لا فائدة من كلماتي هذه. لا تضيّعوا وقتكم معها، وافعلوا شيئًا آخر يوقف هذه الإبادة؛ هذه المحرقة، الآن.

أوقفوا هذه النكْأة؛ النكْتة؛ النكْثة؛ النكْجة؛ النكْحة؛ النكْخة؛ النكْدة؛ النكْذة؛ النكْرة؛ النكْزة؛ النكْشة؛ النكْصة؛ النكْضة؛ النكْطة؛ النكْظة؛ النكْعة؛ النكْغة؛ النكْفة؛ النكْقة؛ النكْكة؛ النكْلة؛ النكْمة؛ النكْنة؛ النكْهة؛ النكْوة؛ النكْية... أيٌّ من هذه المفردات اليوم سيسمح لنا لساننا العربيّ السخيّ أن نضيفها إلى معجمنا إلى جانب النكبة والنكسة؟ هل من مفردة عربيّة قادرة على حمل كلّ مَنْ ارتقى، وكلّ ما انهار في غزّة؟

للأسف؛ ليس هناك ما يُطَمْئِن، فليحتفظ كلٌّ منكم بتوقّعاته وتحليلاته لنفسه، فلا شيء يفيد سوى حلّ يحدث فورًا دون مقدّمات. حتّى الهدنة ’الإنسانيّة‘ لم تسكّن أيّ وجع، بل على العكس، فتحت أوجاعًا لا تستطيع الكاميرات التقاطها، الهدنة سكنت على الوجع.

الهرس يشتدّ كلّ يوم أكثر من اليوم الّذي قبله. لم يبتعد الخطر لحظة عن أهلي أو أصدقائي الّذين نزحوا إلى أوّل الجنوب. معجزة أنّهم ما زالوا قادرين على الحديث معي، معجزة أنّ الموجات الكهرومغناطيسيّة لا تخالف طبيعتها ولو ثانية لتوصل رسالة إليهم، حتّى لو كانت دون ردّ، حين تقطّع الشبكات أوصالنا.

لم يبقَ هناك ما يمكن قوله عن الأمل، حتّى لو توقّف الهرس هذه اللحظة، لم يبقَ شيء على حاله في غزّة وشمالها، ولم يبقَ الكثير في الجنوب. لم يبقَ لنا في غزّة بيت ولا شارع ولا نيلة... لم يبقَ هناك ما يمكن قوله عن الحياة...

لم يبقَ هناك ما يمكن قوله عن الأمل، حتّى لو توقّف الهرس هذه اللحظة، لم يبقَ شيء على حاله في غزّة وشمالها، ولم يبقَ الكثير في الجنوب. لم يبقَ لنا في غزّة بيت ولا شارع ولا نيلة... لم يبقَ هناك ما يمكن قوله عن الحياة بالمجمل والمطلق. بقي قهر أحرّ من الجمر، تغذّيه الأشلاء والركام؛ جمر تصلاه القلوب من قيعانها مرورًا من حناجر تيبّست كالأحجار.

حتّى ما كان خبرًا فظيعًا للغاية في بداية الحرب أصبح ما هو مثله خبرًا عابرًا الآن، بعد مرور أكثر من شهرين، إذ هناك ما هو خبر أفظع دائمًا. وما كان يحرّك المتضامنين لم يَعُدْ ذات الشيء يحرّكهم بذات القدر. مئات الآلاف من المتظاهرين تقلّصوا إلى عشرات الآلاف، بينما آلاف الشهداء صاروا عشرات الآلاف.

طرق القتل ما زالت تتنوّع، ولم نَعُدْ قادرين على عدّها. كلّ رصاصة وكلّ شظيّة وكلّ قذيفة وكلّ صاروخ يحمل فنًّا جديدًا مختلفًا من القتل. القتل وحده لم يَعُدْ كافيًا منذ سنوات عديدة خلت. إن لم يتحرّك العالم من أجل شهيد واحد ضحيّة، ومن أجل بيت واحد مدمَّر، فهل فعلًا نحن بشر في نظر مَنْ سيتحرّك بعد عشرات الآلاف؟

لم يوقف بقيّة الفلسطينيّين - من البحر إلى النهر - حياتهم، ولا العرب - من المحيط إلى الخليج - أيضًا. لم يناموا في الشوارع من أجلنا. خاف الفلسطينيّون والعرب الجوع والبرد والقتل، بينما يعيشه الغزّيّون كلّ يوم من أجلهم، مجبرين لا جبّارين.

الغزِّيّون اليوم يتنصّلون من فلسطينيّتهم ومن عروبتهم. هذه الحقيقة الّتي لا يريد الفلسطينيّون والعرب سماعها، أو ربّما لم يسمعوها حقًّا؛ فحقائق مثل هذه لا ترد في الأخبار العاجلة والتصريحات. هناك كمّ لا يُحْتَمَل من قهر ’غير عاجل‘، ولا يتعامل معه أحد كتصريح.

أتساءل: هل هناك ما هو أكثر فلسطينيّة وأكثر عروبة ممّا يواجهه الغزّيّون ويفعلونه؟ إن كان على أحد أن ينزع فلسطينيّته أو عروبته عن ذاته، فليس الغزّيّون بكلّ تأكيد. لتكن هذه دعوة إلى الفلسطينيّين خارج غزّة، وإلى العرب؛ لمراجعة فلسطينيّتهم وعروبتهم. وليسألوا أنفسهم وهم يحارون فيما يمكنهم تقديمه الآن إلى غزّة المحاصرة والمهروسة، ماذا قدّموا إلى غزّة خلال السنوات السبع عشرة العجاف، حين كانت غزّة تموت على نار ’هادئة‘، ونيران ’صديقة‘ أيضًا؟

أريد أن أوجّه هذا السؤال إلى المثقّفين والأكاديميّين منهم على وجه الخصوص، وإلى المؤلّفين، والفنّانين، والناشرين، والمنتجين، والمشرفين، ذكورًا وإناثًا، الّذين تخاذلت أغلبيّتهم الساحقة عن دعم نظرائهم الغزّيّين حتّى بنصيحة. أخبروا العالَم ماذا قدّمتم إلى غزّة، ماذا تقدّمون الآن؟ ماذا ستقدّمون إن كان لغزّة غد؟ عندي لكم فواتير، وستخرج إلى النور حين أريد. ستخرج فواتير فائضة بالاستهتار والتقصير والتعالي والإقصاء والرفض والتجاهل. هل يجرؤ أحدكم بالاعتراف على نفسه الآن؟

لن تستطيع القنّاصة والدبّابات والطائرات الصهيونيّة أن تخلّصكم منّي؛ من غزّة الّتي تُرِكَتْ تنزف على مدى سبع عشرة سنة، وها هي تحتضر أخيرًا بفضلكم قبل فضل أيّ شيء آخر. لو كنتم قدّمتم لنا شيئًا ذا أثر، ما غدا دم الغزّيّين رخيصًا إلى هذا الحدّ في عيون العالم. فوق ذلك، أنتم تجمعون المال من الدعاية المجّانيّة الّتي نوفّرها لكم لقاء دمنا النازف؛ إذ إنّنا نضحّي أمام العالم باسم فلسطين وباسم العرب. وعدد أقلّ من القليل منكم فكّر في أن يتبرّع ولو بجزء من أرباحه غير المسبوقة الّتي جناها آخر شهرين على حساب دمنا. هنيئًا للعار عليكم! دم الغزّيّين جعل من فنّ بقيّة الفلسطينيّين وآدابهم ترند، وكذلك فنّ العرب والعجم وآدابهم عن فلسطين.

مؤسف أنّني لا أستطيع الكتابة دائمًا. ما زلت عالقًا في أمريكا منذ بداية الحرب. هذه البلد، كما العالم كلّه الآن، يعيش أغلبهم في عالم موازٍ، ويمعنون في الخراب كلّما ظنّوا أنّهم يعمّرون شيئًا. غزّة لا تستحقّ جزاءً تكون فيه أقلّ من جنّة، وأن يكون العالم كلّه جهنّم. لا شيء يمكن أن يقنعني بأنّ هذا العالم ليس جهنّم فعلًا.

لا أعرف كيف حالي، ولا أفكّر كثيرًا فيه. أتفنّن بالهروب من حالي ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، إذ لم يَعُدْ يحضرني إلّا مكعّبًا هكذا. هي معجزة أيضًا أنّ الحياة ما زالت تقيّدني حتّى الآن، حتّى وأنا أبعد ما يكون عن الموت، لكنّي أراه متربّصًا ينتظرني على مدى العشب أحيانًا، وعلى مدى الثلج أحيانًا أخرى.

لم يوقف بقيّة الفلسطينيّين - من البحر إلى النهر - حياتهم، ولا العرب - من المحيط إلى الخليج - أيضًا. لم يناموا في الشوارع من أجلنا. خاف الفلسطينيّون والعرب الجوع والبرد والقتل، بينما يعيشه الغزّيّون كلّ يوم من أجلهم، مجبرين لا جبّارين.

 

ما زالت الأيّام كريمة، وخبيثة بما يكفي لتجرّ جثّتي من نوم إلى آخر، وتشتّت انتباهي قليلًا عن تفاهة العشب، وتفاهة الثلج الّذي يغطّيه، وتفاهة الليل الّذي يغطّي كليهما، وتفاهة النوافذ والأبواب أيضًا؛ تفاهة المأكل والمشرب والملبس والمأوى؛ تفاهة الاحتفاظ بالكتب والتذكارات.

لم أَعُدْ أعرف كيف ما زال بوسعي أن ألتقط الأنفاس، وكيف ينبض قلبي حتّى الآن. تبدو هذه الأنفاس وهذه النبضات غريبة عنّي. مع كلّ نَفَس أتساءل: كيف لم تنتصر أفكاري الانتحاريّة عليّ حتّى الآن؟ ومع كلّ نبضة أتساءل: كيف لمّا أحظَ بعد بسكتة قلبيّة؟

قلبي وعقلي عادا منذ زمن إلى القطاع، يتفقّدان الأهل والأصدقاء، ويتركان قطعة واحدة - على الأقلّ - منهما عند كلّ واحد منهما، علّها تصدّ قليلًا من الخوف والبرد والجوع؛ علّها تشغل جزءًا ممّا فقدوه من قلوبهم وعقولهم وما سيفقدونه، علّها تكون عناقًا أبديًّا... أو علّها على الأقلّ تشعرهم وتشعرني بوجودي بينهم، نواجه المصير ذاته معًا، لا يعوز أحدنا أحدًا من هذا العالم التافه.

لا نعوز أحدًا من قادة العالم الحرّ، هؤلاء القادة، بلا استثناء، قطع كبيرة من الخراء متحرّكة تمشي على قدمين، تتعدّد الأشكال والألوان والروائح، لكنّ الخراء واحد. ومصير الخراء مهما تراكَم وترسّب أن يزيحه الطوفان - من تحت الأرض - إلى تحت الأرض، يومًا ما بعيدًا...

ويومًا ما

ستصير أشلاؤنا شظايا!

 


 

يحيى عاشور

 

 

شاعر فلسطينيّ من غزّة. حصل على الزمالة الفخريّة في الكتابة من «جامعة آيوا» (2022). صدر له «لهذا ريان يمشي هكذا» (قصّة أطفال، 2021)، الفائزة بـ «جائزة الملتقى العربيّ لكتب الأطفال» (2022)، و«أنتَ نافذة هم غيوم» (2018)، بالإضافة إلى إصدارات مشتركة. تُرْجِمَت قصائده إلى لغات عدّة.