من غزّة... صباح الخير يا رام الله | شهادة

مسمكة في مخيّم الشاطئ، 30/08/2023 | مجدي فتحي

 

عزيزي مهيب، صباح الخير على رام الله، وعلى شبابها وصباياها. أرجو أن يكون صباحك جيّدًا مع فنجان قهوة ونفَس تومباك على أغنيات فيروز، كانت ليلة شديدة المطر هنا، مع ريح باردة، اختلط علينا فيها صوت البرق والرعد مع أصوات القصف هنا وهناك، كان صوت المطر أقوى، إنّه صوت الحياة دائمًا، إنّه خير من السماء، نحسبه كذلك؛ لينظّف الجوّ من الغبار، ورائحة البارود، والدم المحروق بصواريخ العالم المتحضّر؛ العالم البلاستيك كما تحبّ أن تسمّيه أنت.

يا رجل، عليك أن تفهم أنّني لا أغلق الموبايل بمزاجي، شحن بطاريّة الموبايل قصّة شديدة التعقيد، تحتاج إلى جهود وعلاقات، وأنا خجول بطبعي. بطاريّة السيّارة الّتي كنت أشحن منها أحيانًا تعطّلت. و«الهلال الأحمر» المكان الوحيد الّذي فيه مولّد قويّ وكبير في حارتنا، بدأ منذ أسبوعين بترشيد استهلاك الوقود؛ فلا يعمل المولّد إلّا ثلاث ساعات من أجل «مستشفى الأمل» والمرافق. المهمّ أنّنا نجد وسيلة لشحن البطاريّة. هل تتذكّر «فندق الروتس» الّذي نزلت فيه عندما زرتنا في غزّة كانون الأوّل الماضي؟ هل تتذكّر الطريق من الفندق إلى «شارع عمر المختار» و«حديقة الجنديّ المجهول»؟ هل تتذكّر البنايات، الأشجار، المحلّات، بسطات حملة الماجستير والدكتوراة، المولات، المكتبات؟ كلّ هذا صار مرتعًا لدبّابات جيش الاحتلال، لقد انتهكوا كلّ شيء مدنيّ، هؤلاء صنّاع الخراب نجحوا في تدمير العمارة والبنى التحتيّة، ونزع الحياة من كلّ شيء.

يا رجل، عليك أن تفهم أنّني لا أغلق الموبايل بمزاجي، شحن بطاريّة الموبايل قصّة شديدة التعقيد، تحتاج إلى جهود وعلاقات، وأنا خجول بطبعي. بطاريّة السيّارة الّتي كنت أشحن منها أحيانًا تعطّلت.

كانت زيارتك في أيّام منخفض جوّيّ كهذا الّذي نعيشه، كنت محظوظًا أن ترى غزّة في أجمل أيّامها، أنا كذلك أحبّ غزّة تحت المطر، في ليلها المضاء بإضاءة خافتة، وأستطيع أن أسمع تكتكة أسناننا من البرد حين أوصلنا صديقتنا إلى بيتها، في منتصف ليل غزّة البارد الماطر، وفي طريق العودة صرت تبحث عن أرجيلة آخر الليل، ظننت نفسك في القاهرة الّتي لا تنام، ومع ذلك وجدنا مقهًى شعبيًّا مفتوحًا في زاوية من «ساحة السرايا». لو قُدِّر لك زيارة أخرى إلى غزّة، فلن تعرف معالم مركز المدينة، لقد اختلط كلّ شيء في كلّ شيء، من خوفها البنايات مالت على بعضها بعضًا في عناق أبديّ.

صحيح، هل تتذكّر مخيّم الشاطئ، حيث تناولنا فطورًا في بيت صديقنا يسري؟ لقد توحّشوا في المخيّم، من الجوّ والبحر القريب والبرّ، أليس مخيّمًا وديعًا؟ هل تتذكّر صورتك في منتصف الشارع على كرسيّ أخذته من بائع الفلافل؟ لم يعُد الشارع شارعًا، ولم يعُد هناك فلافل، إنّهم محترفون في نزع الحياة وتدمير الذكريات وتخريب الذاكرة! هل تتذكّر قهوة «مزاج»؛ قهوة غزّة الطيّبة، استشهد النادل المبتسم علي، وانقطعت القهوة من مدن القطاع، صارت القهوة أغلى من حياتنا! منذ نهاية الهدنة المؤقّتة، بدا واضحًا أنّ قرارًا اتُّخِذ بشأن مدينة خان يونس، الّتي بطبيعة الحال لم تتوقّف النيران من بحرها وسمائها، منذ بدْء العدوان على قطاع غزّة، ولكنّ القرار يخصّ هجومًا برّيًّا من شرق المدينة عبورًا على جثث البلدات الوديعات الكائنات بمحاذاة الحدود وما بعدهنّ، وصولًا إلى وسط المدينة، الوسط الّذي ظلّ حيويًّا ضاجًّا بالناس، والبيع والشراء، إلى مساء الليلة الّتي تغيّرت فيها ملامح الحياة في المدينة.

ليلة كاملة من الأحزمة الناريّة وقذائف المدافع من الدبّابات والزوارق البحريّة، منذ غروب الشمس حتّى شروقها لم تتوقّف الأصوات المرعبة والهائلة، تستطيع أن تشعر بالأرض تحتك تهتزّ، كذلك البنايات والشبابيك... أنت إن كنت في بيتك مضطرًّا إلى أن تترك الشبابيك مفتوحة بسبب ضغط الهواء الناتج عن الانفجارات، شبابيك مفتوحة في هذا البرد، لا بأس، فلك إخوة تنام في الخيام والشوارع لا يسترهم سوى الشوادر أو القليل من القماش كيفما اتّفق، لا اتّصالات ولا إنترنت، وعتمة كاملة يتخلّلها وميض من هنا وهناك، تستطيع من خلاله تحديد جهة القصف؛ لأنّ الصوت غالبًا خدّاع، خاصّة الصوت الأقوى والأقرب.

في هذا الليل، لا تستطيع أن تفعل شيئًا سوى رسم خريطة ذهنيّة للأماكن المستهدفة من حولك، وأن تتابع وجوه الهاربين من نيران الإبادة، قاصدين الله وما يأملون أنّه مكان أكثر أمنًا في المدينة الّتي لا مكان آمنًا فيها، يحملون ما تيسّر من أغطية وملابس، وعلى وجوههم كلّ علامات التعجّب الّتي لم نصادفها في حياتنا، تبقى متسمّرًا في مكانك الّذي لم تغادره منذ بدء العدوان، تقرأ نفسك في الآخرين، وتقرأ آيات الله المبصرة في كلّ ما هو حولك.

ليلة كاملة من حركة الناس في العتمة، على غير هدًى يسيرون؛ أطفالًا ونساء ورجالًا عجزة، الكلّ يبحث عن وجهة في هذا العمى الكامل. كانت تلك ليلة الدخول البرّيّ الأولى إلى مدينتي المكتظّة بطالبي الأمان.

في أوّل الليل، بعد أن غابت الشمس مباشرة، بدأت الأحزمة الناريّة بكثافة، وفي غير اتّجاه. «شارع الأمل» العامّ كان ضاجًّا بالناس من النازحين في «جمعيّة الهلال الأحمر»، وبعض الباعة، والكثير من الأطفال المشاغبين الّذين يلعبون مع الهواء، فجأة انفضّ هذا الجمع، عمّ الخوف والصمت الشارع، الكلّ في ثوانٍ دخل إلى مباني «الهلال» وكلّيّته ومستشفاه، خلا الشارع تمامًا، وبدأت أجواء الرعب.

ليلة كاملة من حركة الناس في العتمة، على غير هدًى يسيرون؛ أطفالًا ونساء ورجالًا عجزة، الكلّ يبحث عن وجهة في هذا العمى الكامل. كانت تلك ليلة الدخول البرّيّ الأولى إلى مدينتي المكتظّة بطالبي الأمان. الأصوات ذاتها كلّ ليلة، تزداد وتيرتها بعد منتصف الليل، وتظلّ بين قرار وجواب إلى ذروة الحلكة قُبَيل الفجر، تهدأ... كلّ شيء يأخذ نفسًا عميقًا إلى أن تنفجر الأصوات مرّة أخرى من كلّ مكان!

لا أخبرك بكلّ هذا إلّا في محاولة لتثبيت الذاكرة، في وضع لعين ضاغط يدعوك إلى الكفر بكلّ شيء يخصّ الإنسان المتحضّر البلاستيكيّ، لكن كما اتّفقنا، لن يتركنا الله وحدنا، لن يخذلنا الله، المزيد من الصبر حتّى النصر، صلّ لنا يا مهيب، تذكّر أنّنا سنلتقي على أرصفة العالم مرّة أخرى، وسنصرخ في وجه الليل حتّى ينجلي؛ إلى أن يستيقظ العالم وحبّ كبير من رفح حتّى رأس الناقورة.

 


 

يوسف القدرة

 

 

شاعر وباحث من قطاع غزّة. درس اللغة العربيّة والإعلام في «جامعة الأزهر – غزّة»، وحصل على ماجستير النقد الأدبيّ من «معهد البحوث والدراسات العربيّة». صدرت له خمس مجموعات شعريّة، «الذكرى أنا والذكرى منسيّة»، «براءة العتمة»، «لعلّك»، «أغنية مبحوحة»، «دموعها تبكي الخراب»، «توارى في التأويل».