في طويلة البوكر: فصل من "حرب الكلب الثانية"

لوحة الغلاف للفنّان بهرام حاجو

وصلت رواية "حرب الكلب الثانية" للأديب الفلسطينيّ إبراهيم نصر الله، إلى القائمة الطويلة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة "البوكر"، لعام 2018، ضمن 16 رواية ينتمي مؤلّفوها لـ 11 جنسيّة عربيّة، أعلنت عنها إدارة الجائزة أمس الأربعاء.

صدرت الرواية عن الدار العربيّة للعلوم ناشرون، بالاشتراك مع مكتبة كلّ شيء، عام 2016، وهي تقع في 343 صفحة من القطع المتوسّط، ولوحة غلافها للفنّان بهرام حاجو.

تدور أحداث الرواية في المستقبل، في زمن تصبح فيه الفصول فصلًا طويلًا واحدًا، والنهار خمس ساعات، حيث يتراجع دور الحكومات لصالح ما باتت تسمّى القلاع، وبقدر ما تتأمّل الرواية حالًا عربيّة، بقدر ما تتأمّل أحوال البشر في كلّ مكان، في زمن لم يعد فيه الإنسان قادرًا على التمييز ما إذا كان الإنسان الذي يقف مقابله هو شبيهه أم قاتله!

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الرواية بإذن من صاحبها.

....................

اتّصل راشد بسائق إحدى سيارتَي الإسعاف التي يملكهما. بعد أقلّ من عشر دقائق كان أمام باب المستشفى. أخبار فرض حظر التجوال كانت قد وصلته. قرار صارم لا يسمح لأيّ سيّارة بالتحرّك، باستثناء سيّارات الإسعاف والشرطة، وتمّ تفعيل الحواجز الإلكترونيّة وإشارات المرور على الطرق بحيث لا تسمح هذه الحواجز والإشارات إلّا لسيّارات الإسعاف والشرطة بالمرور.

بعد خمس دقائق تأكّد لراشد أنّ ما يراه حقيقة؛ كانت الشوارع خالية تمامًا، وليس هناك سوى سيّارات الإسعاف والشرطة.

الصمت الثقيل أعاد له بعضًا من ذكريات ما بعد أيّام حرب الكلب.

- لقد لاحظتُ اليوم أنّ الناس لم تعد تتعارك وتختلف لتجرح، بل لتقتل، قال السائق.

- تقتل نهائيًّا؟!

- نهائيًّا، كما لو أنّهم متّفقون على قاعدة تقول: من مكان الشجار إلى المقبرة!

- دون المرور بالمستشفى؟!

- دون المرور بالمستشفى.

- هل يحاولون التخّفف من مصاريف العلاج؟

- لا أظنّ المسألة كذلك، لقد قرّروا التخفّف ممّن يشبهونهم إلى الأبد، بعد أن كانوا قد تخفّفوا ممّن يختلفون عنهم.

- ولكن كيف تطوّر الأمر فجأة؟ هذا ما لا أفهمه!

- لا أحد يعرف، منذ الساعة الحادية عشرة نبتَ الشبيهون كالفِطْر بعد المطر. أصبحوا في كلّ مكان.

- منذ الحادية عشرة؟!

- منذ الحادية عشرة.

- وأنت، هل رأيت أحدًا يشبهك؟ سأله راشد.

- حتّى الآن لم أرَ، ولكنّني أخشى منذ العصر أن أنظر في المرآة فأكتشف أنّني بتّ أشبه واحدًا غيري. إنّ أسوأ مكان يمكن أن ينظر فيه الناس اليوم ليروا أنفسهم، هو المرايا!

كان راشد على وشك أن يستدير ليرى وجه السائق، مع أنّ العتمة لم تكن ستسعفه. أحسّ السائق بذلك، فقال:

- أرجوك، لا تنظر نحوي، لا أريد أن أعرف!

احترم راشد رغبة السائق، السائق الذي قال بعد صمت طويل:

- أظنّنا نستحقّ هذا، أو إذا شئت، يمكنني القول: هذا تطوّر طبيعيّ بدأ قبل حرب الكلب وأشعلها، ثمّ تزايد بعد ذلك دون أن نلاحظ، كما لو أنّنا لم نكن نملك عيونًا ولا عقولًا!

كان راشد مفتونًا دائمًا بالحديث مع الطبقة العاملة، وهي عادة من مخلّفات أيّام شبابه. كان يحبّ أن يستمع إليهم، محاذرًا أن يضيِّع الوقت في النقاش معهم، إذ لم يكن يؤمن أنّ ذلك يؤدّي إلى نتائج مهمّة!

- هل تظنّ...؟ سأل راشد.

- تمامًا! قاطعه السائق وأضاف: لا تؤاخذني حضرتك، أنا واحد ممّن أمضوا ثلاثة أرباع أعمارهم في الشوارع، ويمكنني القول لقد رأيت كلّ شيء.

- تعني...؟

- تمامًا... لقد جرّح الناس بعضهم كثيرًا، ولأتفه الأسباب. مرّة قرأت رواية تنبّأ فيها كاتبها بحرب الكلب، كان يتحدّث فيها عن الصرع العامّ الذي أصاب الجميع، بحيث تحوّل الناس إلى وحوش فجأة، بأنياب ومخالب، ينقضّ الواحد منهم على الآخر لأتفه الأسباب.

- أظنّ أنّ الأمر...

- تمامًا... حتّى الاختلاف في الرأي حول أيّ مسألة! كان الواحد منهم يريد أن يكون الناس كلّهم مثله، مثله تمامًا، أو كما قيل: على شاكلته! يفكّرون كما يفكّر، ويعملون ما يعمل، والآن، تفضّل وانظر لما يحدث، لقد أصبحوا يشبهونه، فماذا فعل، هل احتضنهم؟ لا، بل قتلهم!

- وهل هناك...؟ قال راشد ولم يكمل متوقّعًا أن يقاطعه السائق.

- لا تؤاخذني، كأنّني لم أسمع بقيّة سؤالك؟

- صحيح، كنتُ أريد أن أقول وهل هناك...؟

- أكيد، هناك حلّ: أن يُمنع الناس من الخروج في ساعات النهار القليلة الباقية، وأن تمنع الدولة استخدام أيّ شكل من أشكال الإضاءة ليلًا.

- ولكن ذلك...

- لا، ليس كما تظنّ حضرتك، يمكن أن يتواصل العمل، ويتواصل عملنا أيضًا، فبدل أنوار السيّارات نستخدم مناظير ليلية من الطراز القديم، أي تلك التي تسمح لنا بمشاهدة ما أمامنا، لكنّها ليست كافية لمشاهدة الملامح بدقّة؛ أما القلعة، وأنا أثق بك لأقول ما سأقوله، فلا تعاني من أيّ مشكلة، ما دام جيشها ورجال أمنها واستخباراتها يتمتّعون بقوّة إبصار، كما يُقال، لا يتمتّع بها سوى طائر البوم.

- إنّه تفكير...

- جيّد؟ أشكرك، وهناك شيء آخر لا بدّ منه، وهو أن تتمّ مصادرة المرايا ويغدو استخدامها تحت طائلة العقاب، قانونيًّا. هل خطر ببالك أنّنا مجرّد مرايا للمرايا التي نحدّق فيها؟

هزّ راشد رأسه بإعجاب، ثمّ رفعه ليرى المرآة الداخليّة للسيّارة، وجد أنّها موجّهة للأعلى، نظر إلى المرآة التي بجانبه، وجدها مقلوبة للأسفل، وكان الحال نفسه مع المرآة الجانبيّة المحاذية للسائق.

- ماذا قلت؟

- أنا؟! أنا لم أقل شيئًا. ردّ السائق.

- دعنا إذن نتجوّل في بعض الأحياء الأخرى للمدينة. هي فرصة ليحظى المرء بهدوء كهذا.

- تعرف حضرتك، هذا الهدوء هو الابتسامة الوحيدة في هذه المأساة.

- ولكن...؟ قالها راشد وصمت، بعد أن فهم أنّ صمته هو ما يجعل السائق يعطيه الحقّ في الكلام.

- كأنّك لم تسأل سؤالك!

- صحيح. وصمت راشد.

- ما هو الصحيح؟

- مِنْ...؟

- أرجوك أكمل؟

- من أين تجيئك هذه الأفكار العميقة؟

- أظنّك مندهش بما سمعته منّي، ولكنّني مندهش مثلك أيضًا، لقد حاولتُ التفكير في أفكاري التي أحسّ بأنّها نضجت فجأة، فوجدت أنّ السبب يعود ربّما لحديثي المستمرّ مع السيارة، فما الذي يمكن أن أفعله في الظلام غير الحديث معها؟ سأعترف لك أستاذ راشد بأنّني سعيد لأنّني عشت الزمن الذي رأيت فيه السيّارات تتكلّم وتناقش وتطرح عليك الأسئلة كما تطرحها عليها.

وصمت السائق قليلًا قبل أن يضيف:

- هناك شائعة، وأنا لا أصدّق مثل هذه الخرافات، وإن كان علينا أن نتوقّع كلّ شيء، تقول الشائعة: إذا بقي الإنسان محدّقًا في المرآة، فإنّه سيحتفظ بصورته، ولذا فإنّ بعض العائلات أمضت الأسبوع الماضي محاطة بالمرايا؛ وحينما ينامون، يحرصون على أن تكون وجوههم مقابل المرايا، فيها.

- لقد سمعتُ الأولاد يعيدون كلامًا كهذا، سمعوه في المدرسة، وقد طلبوا منّي أن أشتري لهم مرايا صغيرة، فرفضتُ بالطبع، لكنّهم كسروا مرآة، وادّعوا أنّ ذلك حدث مصادفة، فحين حاولتُ جمع أجزائها من جديد، اكتشفتُ أنّ هناك قطعًا ناقصة.

- قطعًا ناقصة، أعتقد أنّ الأمر خطير فعلًا، علّق السائق.

- أتعني كسرهم للمرآة؟ سأله راشد.

- بل تصديقهم للخرافة، وإن كنت أفكّر أحيانًا، أعني أحيانًا فعلًا، إذ تبيّن لي ألّا ضرورة لأن يفكّر المرء دائمًا، وحين أفكّر أحيانًا، أقول: لو قيل لي إنّ خرافة مثل خرافة تشابه الناس ستنتشر لما صدّقت هذا. هل كنت ستصدّق، حضرتك؟

- في الحقيقة...

- هذا ما أريد قوله تمامًا، ولكن ما يقلقني ليس هذا التشابه، تقلقني أمور أخطر، ولا أريد أن أواصل التفكير فيها حتّى تغدو حقيقة، منذ المساء اتّصلتُ بزوجتي وطلبتُ منها أن لا تفتح الباب لأيّ أحد يشبهني، فماذا حدث برأيك؟

تذكّر راشد الراصد الجوّيّ الذي بات يشبهه ، وفوجئ بنفسه يصرخ بصوت مرتفع:

- سأقتله.

- هذا ما فكّرتُ فيه أيضًا، سأقتله، قال السائق.

- أظنّ أنّ أفضل ما نفعله هو أن يعود كلّ منّا إلى بيته، ليس ثمّة ضرورة لتواصل دورانك بعد أن توصلني، اذهب واسترح.

- أنت إنسان طيّب يا أستاذ راشد، ولذلك سأعترف لك بأنّني انتهزتُ فترة الهدوء؛ أي انسللتُ من العمل، ومررتُ بالمنزل، وكانت المفاجأة قاتلة!

- هل وجدتَ، لا سمح الله...

- لا، لم يحدث ذلك، فقد كنتُ أوصيتُها، زوجتي، كما أخبرتك، بألّا تفتح الباب لأيّ شبيه لي.

- لا تقل لي إنّها...

- تمامًا! لم تفتح الباب لي، مع أنّني حاولت أن أثبت لها أنّني أنا. قالت لي إنّ هناك إشاعات قويّة تقول إنّ التشابه ليس خارجيًّا فقط، إنّ هناك شبهًا في كلّ شيء، في الذكريات والعادات والأفكار، إضافة إلى بصمات الأصابع والصوت والعينين. كنت على وشك أن أحطّم الباب، فقالت لي، هل رأيت؟ إنّ شبيهك يتصرّف مثلك تمامًا!

- قالت ذلك؟!

- وقالت، إذا كان لي أن أختار فسأختار واحدًا مثلكَ، لأنّني أحبّ وسامتك، على أن يكون مديرًا لشركة ما، فنانًا، كاتبًا رقيقًا، أو رائد فضاء يأخذني والأولاد إلى كوكب آخر ويريحنا ممّا نحن فيه. ثمّ قالت لي وكأنّها متأكّدة ممّا يحدث: هل تعرف أنّ حرب الكلب الثانية على وشك الوقوع؟ ورفضتْ أن توضّح لي مصادر هذا الخبر! هل تعرف أستاذ راشد: لا يستطيع أحد أن يتخيّل حجم معرفة ربّات البيوت بما يدور خارجها!

وصمت السائق قليلًا قبل أن يضيف: هل تعتقد أنّ تلك الحرب ستتكرّر؟

- لا، لا أظنّ.

- أنت غير متأكّد إذًا؟

- بل لا أظنّ! ولكن قل لي: هل رأيت زوجتك اليوم؟ أعني رأيت وجهها.

- قلتُ لحضرتك، حدّثتْني من وراء الباب.

- هل خطر ببالك أنّها قد أصبحتْ تشبه امرأة سواها؟ والأولاد يشبهون أولادًا سواهم؟ إذ ليس بالضرورة أن يشبهنا الناس؛ يمكن أن نصبح نحن الشبيهين بهم.

استدار السائق عندها ونظر إلى راشد، واستدار راشد ونظر نحوه في اللحظة ذاتها، فانطلقت صرخة عالية من راشد: لا، لا يمكن لهذا أن يحدث.

- ماذا حدث يا أستاذ راشد؟

- أنزلْني هنا.

 

إبراهيم نصر الله

 

أديب فلسطينيّ من مواليد عمّان. يُعَدّ واحدًا من أكثر الكتّاب العرب المعاصرين تأثيرًا وانتشارًا، طباعة لمؤلّفاته، ونقدًا، ودراسة. عمل في التربية والتعليم، والصحافة، والاستشارة والتنظيم الثقافيّين، وهو متفرّغ للكتابة منذ عام 2006. صدرت له عشرات المؤلّفات الشعريّة، والروائيّة، والبحثيّة، تُرجم كثير منها لمختلف لغات العالم.