الرّواية في فلسطين بين المحليّة وتجاوزاتها

تأخّر ظهور الرّواية الفلسطينية –عالميًّا-. كفنّ متميز له خصوصيّته واتّجاهاته قبل أن تحفر معاول النكبة عميقًا في الجّسد الفلسطينيّ السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ. لكن من خلال الاستقراء للمحصول الروائيّ الفلسطينيّ. الذي يجمع بين التّتبع التّاريخيّ والتّحليل النّقديّ وما ينطويان عليه من مظاهر كثيرة تتصل بالهويّة والوطن والوجود والصّراع على سرديّتين: نلحظ أنها –أي الرواية- سبحت في تقسيمات سياسيّة وأدبيّة ليس أولها رواية "الوارث" (1920) لخليل بيدس. بل سبق ذلك -وفقًا للباحث الدكتور عبد الرحمن ياغي في كتابه "حياة الأدب الفلسطينيّ الحديث من أول النهضة... حتى النكبة" (1963)- مرحلة نشوء فنٍ سرديّ وديع وقاصر على يد مُحاولِين كُثُر أمثال التميمي، صاحب رواية "أم حكيم". والمكتوبة في القرن التّاسع عشر وميخائيل بن جرجي وجميل البحري، حتى أتى بيدس ورشيد الدجاني واسكندر الخوري في مرحلة لاحقة. إلى أن تبعهم الكرمي والجوزي وسيف الدين الإيراني صاحب رواية "الظمأ". وأسماء طوبي واسحق موسى الحسيني صاحب روايته الشهيرة "مذكّرات دجاجة" (1943).

 ويمكن تصنيف مضمون الرّوايات الفلسطينيّة قبل العام 1948 في أربعة اتجاهات: الأول يمثّل التّيار المتأثّر بالأدب الأجنبيّ كما في "الوارث" لبيدس الذي كان اشتراكيًا يساريًا ومتأثرًا بشكل مباشر بالأدب الروسيّ. والثّاني يمثل اتجاهًا ذا ملامح رومانسيّة واقعيّة كما في بعض أعمال اسكندر الخوري. والثّالث يتمثّل في المنحى الرمزيّ التقليديّ كما في "مذكرات دجاجة" للحسيني بوصفه رائدًا للأدب الرمزيّ.

استمرّت رواية النكبة حتى عام 1967. وقد ظهرت أكثر من ستّين رواية: لكنها، ورغم نجاحاتها في تصوير المأساة، لم تكن ناضجة فنيًا. نظرًا لغلبة العاطفة وارتفاع النبرة الخطابيّة والتقريريّة. والانسياق وراء الأحداث السّياسيّة. ويمكننا أن نستثني غسّان كنفاني. الذي قدّم عملين مهمّين في تلك الفترة "رجال في الشمس" و"ما تبقى لكم". أما الأسماء والأعمال الأخرى. فلم تكتسب ديمومتها وأخفقت في التّعبير الفنّيّ والتّقنيّ المتقدّم عن القضية. كما هو الأمر لدى يوسف الخطيب في "عناصر هدّامة" (1954). وسمير القطب في "الفردوس السليب" (1963). وناصر النشاشيبي في "حفنة الرمال" (1964). ثم المحاولة الأولى لتوفيق فياض في "المشوهون" (1963) وغيرهم.

جاءت نكسة 67 بمردودٍ إيجابيّ على الرّواية الفلسطينيّة. حين بدأت تتعامل مع الهزيمة بوعي أكبر. إذ اتخذت منها حافزًا للاستقراء والبحث والنّقد. ولعلّ أبرز من شارك في الإجابة على أسئلة الهزيمة الأديب كنفاني، في روايتيه "عائد إلى حيفا" و"أم سعد".  بالإضافة لجبرا إبراهيم جبرا في "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود". ولا ننسى إيميل حبيبي في "سداسية الأيام الستة". وكوميدياه السّوداء "المتشائل". التي شكّلت إضافة نوعيّة إلى الأدب الروائيّ العربيّ السّاخر. من حيث التّركيز على شخصية سعيد أبي النحس المتشائل. والتي كانت مؤهّلة من الدّاخل لتقديم التّنازلات كي تحقّق تكيّفًا ذكيًا مع متغيّرات المحيط.

وقد عمدت الرّواية الفلسطينيّة حينذاك إلى موازاة حركة الشّكل مع حركة الواقع اجتماعيًّا وسياسيًّا وتشابكت معها. لذلك انتقلت من مستوى الرؤية العامّة الغيبية إلى الرّؤية الواقعيّة النّافِذة، ملبّية حاجةً اجتماعيةً قبل الحاجة الفنّيّة. هنا كان التّحول الأبرز في تحوّل الرّواية من الكلاسيكيّة إلى الواقعية فالرّمزية. وهذا ما ذهب بها إلى الخروج من المحلّيّ النمطيّ إلى العربيّ المختلف في موضوعاتهِ وأساليبه.

ثمّة مرحلةٌ مهمةٌ في تطوّر الرّواية الفلسطينيّة. مرحلة قبيل أوسلو في أراضي 48 تحديدًا. وقد شهدت تطورًا مهمًا في المتن الروائيّ. نتيجة فك الحصار عن فلسطينييّ أراضي 48 وانفتاحهم على تجارب أشقّائهم في الضفة وغزة والوطن العربيّ، وفقًا لدراسة قامت بها الدكتورة جهينة الخطيب بعنوان: "تطور الرّواية العربيّة في فلسطين 48". أما المرحلة الأخيرة الممتدة منذ 1994، فقد شهدت برأي الباحثة تطوّرين في النّاحيتين الكمّية والفنية والمضمونيّة.

تشير الخطيب في دراستها إلى أن التّطور الحقيقيّ للرواية يكمن في بنيتها السّرديّة. إذ كان الأدب في البداية أدبًا مباشرًا يلهث وراء الأفكار وتغيّر تدريجيًا. فتنوّعت الصيغ السّرديّة لتشمل السّرد الذّاتيّ وتعدّد الأصوات والاسترجاع وما إلى ذلك.

وتلفت الخطيب إلى أنّ كتابة السّيرة الذّاتيّة لاقت اهتمامًا عند الأدباء في فلسطين. فكتب أربعة منهم سيرة تتأرجح بين السّيرة الذّاتيّة والرّوائيّة. وتشير إلى أنّ جذور السّيرة الذّاتيّة سبقت النكبة. وكان أحد مؤسسي الصّحافة الفلسطينيّة، نجيب نصّار، من روّادها، في روايته "مفلح الغسّاني". ثم تبعه آخرون بعد النكبة كإميل حبيبي في "سرايا بنت الغول" وحنّا أبو حنّا في "ظل الغيمة" واحسان عبّاس في "غربة الراعي" وغيرهم.

يمكن الإشارة إلى عددٍ غير قليل من الأسماء الرّوائيّة الفلسطينيّة التي نُشرت أعمالها ما قبل وبعد أوسلو. وقد احتلّت موقعها الإبداعيّ عن أعمال عالية القيمة الفنّيّة، مثل: رشاد أبو شاور، ونواف أبو الهيجا، وليانة بدر، ويحيي يخلف، وسحر خليفة، وجمال بنورة، وعزت الغزّاوي، وغريب عسقلاني، ومحمد أيوب، وعلي الخليلي، والقائمة تطول بالكثير ممّن حقّقوا للأدب الرّوائيّ الفلسطينيّ منذ سبعينات القرن الماضي إلى الآن النّجاحات. عبر تقديمهم لتجاربَ إنسانيّةٍ فريدةٍ ومتنوّعةٍ على الصعيدين الفِكريّ والفنّيّ. واطّلاعهم المعمّق على الآداب العالمية والترجمات والنقد.

وهنا أشير إلى وصول روايتين فلسطينيتين للقائمة القصيرة للروايات المرّشحة لنيل الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لسنة 2016. وهما: "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة" لربعي المدهون، و"مديحُ لنساء العائلة" للفلسطينيّ محمود شقير.