الثّقافة الفلسطينيّة، ما بين الأسرلة والاستبداد

مشهد من مسرحية "الزّمن الموازي"، إخراج بشار مرقس

ليس صدفة أن تتكاثف الهجمات على الثّقافة الفلسطينيّة بالداخل من جميع الجّهات. فالثقافة (بدون الدّخول في تعريفها الشّائك والمتعدد) تشكّل لبنة أساسيّة في شكل المجتمع ومركّب أساس في هُويّته. وبالتالي الصّراع القائم اليوم في المشهد الثّقافيّ الفلسطينيّ، يعني بالضرورة الصّراع على مضمون هويّة هذا الجّزء من الشّعب الفلسطينيّ.

وباعتقادي هناك العديد من اللاعبين الذين يتصارعون في هذا الحلبة محاولين التّأثير عليها وبالتالي المساهمة في رسم شكل وهُويّة المجتمع الفلسطينيّ، نتوقف هنا وبعجالة عند أربعة منهم.

اللاعب الأول: الدّولة اليهوديّة. وقد شهدت السّنوات الأخيرة تسارعًا في محاولات قمع الثّقافة الفلسطينيّة ومحاولة تطويعها للدولة اليهوديّة. نذكر على سبيل المثال، الهجمة العنيفة على المخرجة سهى عرّاف في تعريفها لفيلم 'فيلا توما' كفيلم فلسطينيّ، ومحاولات إخضاعها لتعديل التّعريف من خلال التّهديد (وممارسة) سلاح التّمويل. لاحقًا كان لنا وقفة مع سحب تمويل مسرح الميدان لعرضه مسرحية 'الزّمن الموازي'، من إخراج بشار مرقس، والتي تتناول حياة الأسير الفلسطينيّ وليد دقة. ومحاولات إضافية أخرى وصلت ذروتها في محاولات وزيرة 'الثّقافة' الإسرائيليّة سنّ قانون 'لا تمويل بدون ولاء'.

الهدف من هذه الهجمة واضح جدًا، هناك مساعي جديّة لتطويع المجتمع الفلسطينيّ في الدّاخل من خلال  اشتراط الحقوق المدنيّة بالولاء للدولة اليهوديّة، وتندرج الهجمة على الثّقافة الفلسطينيّة في ضمن هذه المساعي.

اللاعب الثاني: مجموعة من المجتمع الفلسطينيّ، تحاول فرض تحفظها الاجتماعيّ على الّمشهد الفنّيّ والثّقافيّ. من خلال منع عرض أفلام أو عروض فنية لا تتماشى مع قيمها الدّينيّة والاجتماعيّة. فتقوم باستعمال الترّهيب لفرض رؤيتها هي لمضمون الهُويّة التي ترضاه لمجتمعنا. تمنع عرض أفلام وعروض فنّيّة، تتهجم على مثقفين لعدم رضاها عن أدبهم وتعترض للمعلم والشّاعر علي مواسي لعرضه فيلمًا لا يتماشى مع تعاليمهم وأفكارهم.

طبعا الثّقافة والهُويّة ليست حكرًا على فئة من المجتمع دون غيرها، ولكن الخطورة في هذه المجموعة هي استعمالها لوسائل ولغة خطاب، لا تترك مجالًا للتعددية ولا لجدالٍ صحيّ بين الفئات المختلفة، إنما تحاول ممارسة الاستبداد وفرضه عنوة على من يخالفها، ومن هنا خطورتها.

اللاعب الثّالث: يتشكل من مجموعة من الشّباب والشّابات في المجتمع، يقاومون وتقاومن الطرفين من خلال بناء مساحات ثقافيّة بديلة. فمن ناحية، يستغنون عن التمويل الإسرائيليّ المشروط ومن ناحية ثانية يتحدّون الفكر التّقليديّ الاجتماعيّ من خلال إبداعهم، كل في مكانه.

أما اللاعب الرابع وهي، الغالبية في المجتمع، فتتمثل في كونها مجموعة محافظة في باطنها وقناعاتها ومتحررة في ظاهرها.  تهاب الحريّة فتحارب المجموعة الثالثة ومحاولاتها للتغيير الاجتماعيّ. وتنتقد المجموعة الثّانيّة على أسلوبها وليس على مضمونها. وتنتفع من الوضع القائم، وفي معظم الحالات، لا تحارب إسرائيل في محاولاتها فرض الحقوق المدنيّة مقابل التّنازل عن الحقوق القوميّة.

وعلى الرغم من الشّعور الوهميّ أن الفئة الثّالثة بتزايد، من حيث العدد والتّأثير، إلا أننا ما زلنا أمام واقعٍ تلعب فيه علاقات القوة لصالح الفئتين؛ الأولى والثانية. الأولى تستعمل تفوقها المؤسساتيّ والماديّ والثّانية تستعمل تفوقها باحتكار الخطاب الإلهي والعقائديّ.  والمجموعة الرّابعة تستفيد من الوضع، تستعمل صمتها  لتغطي رهابها من الحرية والتّحرر. وتبقى المجموعة الثّالثة مهمشّة وعرضة للتهجمات.

إنها معركة على شكل وهُويّة المجتمع الفلسطينيّ، تلعب فيه علاقات القوة في صالح إما الأسرلة أو فرض استبداديّ رجعيّ. ونهج المجموعة الرابعة هو الأخطر، لأنه يساهم، بشكلٍ فعليّ، في ترجيح كفة الغالب في هذه المعركة.