سلمان ناطور: همومٌ ذاتيّةٌ وهمومٌ قوميّةٌ

أول كتاب قرأته لسلمان ناطور هو روايته "أنت القاتل يا شيخ". وكان ذلك في سبعينات القرن العشرين، قبل أن أتعرّف على سلمان شخصيًا. كنت بدأت أتابع أدب المقاومة في فلسطين، وأقرأ ما تيّسر لي من نصوصه، واستعرت الرّواية التي لا أملك نسخة منها. كتب فيها سلمان عن مشكلة تجنيد الشّباب الدّروز في الجيش الإسرائيليّ، وحمّل المسؤولية للشيوخ الذين وافقوا، مع قيام دولة إسرائيل، على أن يخدم أبناؤهم في الجيش. وسيجد بعض الشّباب الدّروز أنفسهم على بعض الجبهات يقاتلون، وقد يقاتلون أقارب دروزًا لهم على الجانب الآخر. هل كان سلمان يومها منضويًا تحت لواء الحزب الشّيوعيّ؟

لو كان حقًا منضويًا تحت لواء الحزب لربما اتخذت الرّواية مسارًا آخر، وهو ما ستكون عليه كتابته منذ مجموعته القصصيّة الأولى "الشّجرة التي تمتد جذورها إلى صدري" (1979)، وقد قدّم لها الرّاحل إميل توما. اتخذت كتابة سلمان في هذه المجموعة مسارًا آخر، وأخذت تقوم على ثنائيّة جديدة هي الفلسطينيّ المحتل/ الصّهيونيّ، وتجاوزت الكتابة عن هموم الطّائفة، وكانت همومًا مشروعة، لتعبّر عن هموم وطنيّة وقوميّة، إذا جاز التّعبير، من منطلق يساريّ، وغدا سلمان مثل أدباء المقاومة الآخرين الذين جايلهم؛ سميح القاسم ومحمّد نفّاع وحنّا إبراهيم وإميل حبيبي، ولا أنسى سالم جبران ليكتبوا جميعًا أدبًا ملتزمًا.

الأدب الملتزم بالهمّ الوطنيّ

ظل سلمان يكتب الأدب الملتزم لفترة طويلة، وفي سنوات نهاية السّبعينات وعقد الثّمانينات من القرن العشرين، حتى ترك الحزب الشّيوعيّ، ظهر اسمه – سلمان- على صفحات "الاتحاد" والجديد" والغد"، وغدا قلمه قلم كاتب يساريّ ملتزم بحزبٍ يساريّ، وغدت حياته الشّخصيّة منسجمة كليًا مع أفكاره، فلم يسع إلى طمع فردي إطلاقًا، وظل أديبًا جوالًا يلتقي بالناس وينقل همومهم إلى الصّحافة، ومن هنا بدأ يكتب قصص مجموعته الثّانيّة "خمارة البلد" (1987).

ثمّة في "خمارة البلد"، وللاسم دلالته وأهميته في الأدب الفلسطينيّ، ما يدل دلالة واضحة على التزام سلمان بالهمّ الوطنيّ بالدرجة الأولى؛ ثمة شعب فلسطينيّ يعاني من الاحتلال، ويُعامل معاملة فيها قدر كبير من العنصريّة، ولهذا الشّعب امتداد في الخارج، حيث يقيم ملايين في المنافي في أوضاع قاسيّة وصعبة؛ لجوء وملاحقات وحنين إلى الوطن ليس يزول، واضطهاد، من هذا النّظام العربيّ أو ذاك. هل كان اتصال سلمان بفنان الكاريكاتور ناجي العلي ليرسم لكل قصّة يكتبها سلمان رسمًا، هل كان اتصاله بناجي عبثًا؟

أراد سلمان أن يعبّر عن فكرٍ يشغله، وهو وحدة هذا الشّعب في الدّاخل والخارج، ولكي يغوص في الموضوع عميقًا، فقد تنقل في القرى ليلتقي بجيل الثّلاثينات والأربعينات، الجيل الّذي عاش النّكبة ووعاها، وسجّل من أفواهه ذكرياته ليواجه المقولة الصّهيونيّة: الكبار يموتون والصّغار ينسون. وكتب سلمان ذكريات الكبار لينقلها للجيل النّاشئ الّذي وُلد قبل قيام دولة إسرائيل بقليل، أو بعد قيامها، وكتابة "وما نسينا"، كتاب مهم، وعنوانه عنوان دال.

ما بين طفولة الآباء والأبناء

مع انهيار الاتحاد السّوفيتيّ سيترك شيوعيون كثر الحزب الشّيوعيّ، وسيتركه أدباء صالوا وجالوا على صفحات جرائد الحزب ومجلاته: إميل حبيبي وسميح القاسم وسالم جبران وسالم ناطور وحنّا إبراهيم. ومع بداية التّسعينات سينشأ جيلٌ جديدٌ لم يتربَ على ما تربى عليه سلمان وحبيبي وسميح وجبران وحنّا. وسيجد سلمان نفسه في دالية الكرمل بعيدًا عن حيفا، ولم يكن حقق أي شيء على مستوى شخصيّ، فلا خيل ولا مال ولا شركة وسيكبر أبناؤه وسيسخرون من أبيهم.

في كتابه "هل قتلتم أحدًا هناك؟" (1999) يأتي سلمان على الفارق بين جيله وجيل أبنائه، وعلى ما جره عليه التزامه بالحزب، وموقف أبنائه من ماضي أبيهم. يكتب سلمان: "عندما حدثتُ أولادي عن فلسفتي قال أحدهم دون أين يفكر: أما أهبل! ورأيت إخوته الآخرين يؤيدونه بصمتهم، ولما حققت معهم لفهم سرّ هذا الهجوم الأرعن على والدهم، تبيّن في أنهم عانوا حياتهم من نظريتي التّربويّة المسكنة للأوجاع، والقلة التي أزعم فيها كذبًا وبهتانا أنهم يجب أن يكونوا سعداء، ويشكروا ربّهم على النّعمة التي يتمتعون بها لأن هناك ملايين الأطفال في العالم ممن لا يجدون ما يأكلونه، وكان أصغرهم يباغتني بسؤالٍ بريء: شو يعني النّعمة بابا؟".

عاش سلمان في خمسينات القرن العشرين، وكانت الحياة في فلسطين تحت الدّولة النّاشئة قاسيّة على العرب الباقين، فعاش طفولة فقيرة، وحين قارن بين طفولته وطفولة أبنائه لاحظ فارقًا لصالح طفولة أبنائه، وقع ذلك..إلخ.

ولم تقتصر كتابة سلمان على هذا الجانب، فقد راجع في كتابه فترة التزامه واكتشف أنه انتمى في سنوات السّبعين والثّمانين من القرن العشرين لجيل اعتز بجبروته وآبائه ونفسه في دجل نكران الذّات دون خوف أو وجل، ومع أنّ سلمان لم يتخلص كليًا من أفكاره السّابقة، ومن سلوكه الذي فرضته تلك الأفكار، إلا أن روايته: "هي، أنا والخريف" (2012) جاءت تتويجًا لتخلي سلمان عن فكرة الالتزام الحزبيّ لا الوطنيّ.