"حين اختفى الطّائر"، غسّان زقطان ورحلة الحفر الفلسطينيّة

يتحرك المكان كأنه زمن، تمشي لحظاته وأشخاصه كأنها حفلة اختفى فيها الطّائر وبقيت هناك صيحته.

في كتابه الأخير، يأخذنا الشّاعر غسّان زقطان نحو الذّاكرة، في رحلة متواصلة وعميقة، يتداخل فيها الماضي بالحاضر، فتصبح رؤية ما للهويّة، هناك، تحضر أسماء النّبوة: زكريا، يحيى، سارة، ياسين ويعقوب ، أسماء حضرت مثل أمكنة وروايات عن المكان، ليجعلوا القصّة مأسورة بهم، لكنها، قد تنفلت منهم، أيضًا، لتمتد إلى حكاية تيه تخصنا جميعًا، تبدأ من كهوف البلد والمقابر القديمة المدفونة في السّفوح، ومن ساحة جعلها يحيى ملاذه الخاص وبيتًا لعزلته، حيث كان يسمع صدى صوت زكريا يقول له: 'أنت أفضل مني يا يحيى'، ثم صوت يحيى الذي يقول له: 'أنت أفضل مني يا زكريا.'

يرافق الشّعر الأنبياء حتى وهم يختلفون حول تفسير الأشياء، في أكثر من رواية، مثل الخلاف على مقام ستنا السّايحة الذي هو الأعمق بين ياسين ويونس. السّرد الشّعريّ جعل تلك الأسماء تائهة تذهب بعيدًا عن المكان، لكنها تحمله في أرواحها وتبحث عن الطّائر الذي يدخل في صيحته موسى، يحيى وزكريا.

 زكريا، تصبح، في ما بعد، القرية التي سيغادرها هؤلاء، أي أنها ستكون اسمًا ومكانًا ونبوءة، يقول الكاتب والشاعر وهو يتأمل في الاسم: 'كان الاسم الذي حمله، هو الملكية الوحيدة التي بقيت معه، ملكية متسلطة وعنيدة... زكريا بمراياه الثّلاث: النّبي والمكان وجسده الذي تراكم فوق القرية، القرية المحبوسة في سياج الاسم وحروفه السّتة.'

ذاك الاسم ربما هو المنتظر للمعجزات عند ذلك المفترق السّماويّ، الاسم الذي تلامسه المعجزات إذ تحدث للآخرين. فالمكان والاسم هو فلسطين، والمكان، أيضًا، هو ذاك المفترق بين روايتين، وتلك الطّريق إلى تتفرع في التّاريخ الطويل، حيث يونس وزكريا وهاجر ويحيى، الذي يخبر زكريا في بداية الرحلة وفي نهايتها أنه أفضل منه.

رحلة التّيه الفلسطينيّ، تلك، تتابع أنفاسها وتترك القرية التي اسمها زكريا لتصل إلى المخيم (حيث وصل يعقوب وأبناؤه الثلاثة). وجسد سارة كان أحد هذه الأماكن والإشارات، التي ظل يحتفظ بها. لأنه كان يشعر، ربّما، أنه يمشي داخل الكتاب، لأنه كما يقول في الفصل الخامس عشر، كان لديه الإحساس بأنه يجب أن يذهب أبعد خارج القرية وخارج الفلاحة.

غلاف رواية 'حين اختفى الطّائر' لغسّان زقطان 

في النّهاية، أو في الفصول التي تقترب من النهاية، يذكر الشّاعر أن هناك الكثير من الأشياء، التي لا تمتلك القوة للحصول على نهاية، بل لا تمتلك الحق، أيضًا. ويذكرنا أنه لم يعد ممكنّا الحصول على نهاية. وكأن نهاية تلك الحكاية يحتاج إلى قوة كما أنه مرتبط بالحق طبعًا، في أن تنتزع نهايتها بنفسها، ويعود بنا إلى مواصلة تلك الرحلة مجددًا.

الأشياء تلد نفسها، الجسد يصبح مكانًا، والاسم يصبح جسدًا ووطنًا، أما الحفر، فهو الرّؤية التي يريدنا صاحب وصف الماضي، أن نولي لها اهتماما خاصًا، كأنه يريد النّظر إلى كل تلك الحكايات بشكل عاموديّ أيضًا، الحفر بالمعنى الجماليّ والرّؤيويّ والفكريّ لما راكمناه من معرفة وتاريخ وجمال، فتلك أماكن أيضًا.

يقول: 'احفر أعمق... وأنا أواصل الحفر وأعثر في كل مرة على عظام ومقتنيات وفخار، أسمعه يتكسر تحت المجرفة، ولا أتوقف كأني أحفر في مقبرة هائلة، كأن الأرض بأكملها مدفونة في تلك البلاد. كان ذلك عملًا طويلًا وبلا نهاية. لقد حفرت قبورًا كثيرة في هذه البلاد، هكذا حصلت على مهنتي بعد الحرب.'

الرّواية التي يختفي فيها الطّائر ويحضر فيها المكان الذي يذوب فيه الزمن تبدأ بـ'أنت أفضل مني يا زكريا' وتنتهي بـ'بل أنت أفضل مني يا يحيى' في 26 فصلًا صادرة عن دار الأهلية 2015.