أشرف فياض والتّناص مع المِصْيَدة

حظيت مجموعة الشّاعر الفلسطينيّ أشرف فيّاض "التّعليمات بالداخل"، على اهتمام كبير لأسباب تتعلق بدورها المؤثر في محاكمته بتهمة "الرّدة" و"إهانة الذّات الإلهية". اشتمل الاهتمام بالكتاب على مناقشات عامّة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، إضافة إلى مراجعات نقديّة بسيطة تتعلق بدلالة العنوان "التّعليمات بالداخل"، أو استنتاجات تقول إن الكتاب لا يتضمن الشّر الذي يكفي للوصول إلى حكم الإعدام (الذي تم تخفيفه إلى السّجن لاحقًا). هنالك أيضا من قال إن الكتاب ركيك ولا يستحق كل ذلك الاهتمام.

لست بصدد مراجعة الكتاب مراجعة نقديّة شاملة، لكنني وجدت أنه من الضروريّ أن نقف على الوزن الجماليّ والدّلاليّ للكتاب، والدّلالات والإشارات الفنّيّة والأسلوبيّة الظّاهرة، قبل أن نضع الكتاب في السّماء من جهة أو نلقيه في القمامة من جهة أخرى. المراجعة النّقديّة التي اقترحها هنا تعني مناقشة النّص كمنتج أدبيّ إبداعيّ، بالإضافة إلى تشريح النّص ذاته من خلال علاقته مع نصوص أخرى.

"كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه … "          

بإمكان القارئ لمجموعة "التّعليمات بالداخل" أن يلاحظ "حضورًا فعليًا" (بتعبير عالمة اللسانيّات جوليا كريستيفا) لنصوص أخرى. النّصوص الأخرى الحاضرة، هي إما إرث شعريّ سابق، مثل القصيدة العربيّة السّياسيّة السّاخرة، ونماذجها في النّصوص الشّعريّة والسّرديّة لمظفر النّواب وأحمد مطر ونجيب سرور ومحمد الماغوط، أو إرث تراثيّ مثل الغناء الفولكلوريّ العراقيّ والفلسطينيّ أو إرث دينيّ قرآنيّ.

فالتناص الحاصل في المجموعة، إذًا، يعتمد على أكثر من نص ومرجع، بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التّناص يستخدم أكثر من وسيلة في اللعب مع النّص الآخر. ومن هذه الوسائل: المحاكاة، مثل تقليد بنية قصيدة مظفر النّواب في نص "عاشق مأجور"، على سبيل المثال لا الحصر؛ ومنها الحضور للحضور، مثل اقتباس مقطع من أغنية المطرب العراقيّ الرّاحل محمد القبانجي في قصيدة "بحة في مجرى النهر":

ما صفالك... خذ من العيش واغنم ما بقالك...

ليالي الدهر مو كلهن سوية

أما الوسيلة الأخيرة فهي النّصيّة المتفرعة Hypertextualité ومن خلالها يقوم الشّاعر بالاشتقاق من نص سابق عليه، بوساطة التّحويل، أو ما بعد المحاكاة. هنا يقوم الشّاعر باستدعاء التّراث الدّينيّ لغرض أكبر من مجرد استدراجه لغرض الحضور الفعليّ فقط، إنما للتفاعل والنّقد والحوار أيضًا. 

في قصيدة "غراب... يطير على عكازين"، يقوم الشّاعر، وكعادته في معظم نصوص المجموعة، باستخدام الضمير الثّاني (المخاطب - أنت) في دأب مباشر على تشخيص أو فضح هيئات وعوالم ومسميّات خارجيّة. الثّنائيات سيّدة المشهد هنا: الكمال/النّقص، النّظام/الفوضى، النّهار/الليل.

الله على العرش

وأنت على عكازين

التّناص مع اللغة القرآنيّة واضح في مفردات أفعال الأمر التّكليفيّة الإلزاميّة "لا تقنطوا..."؛ وهي موجودة، أيضًا، في محاكاة أسلوب قرآنيّ بنائيّ مثل "أبشروا بالغربة التي منها تفرون!":

لا تقنطوا ...

أبشروا بالغربة التي منها تفرون!

تلك تدريبات مكثفة على العيش في جهنم...
 

إشارات الشّاعر: الصّورة والأيديولوجيا  

الصّورة في نصوص المجموعة تتأرجح بين الأصالة والتّقليد. في نص "بحّة في مجرى النهر"، مثلًا، يبدأ الشّاعر بنَفَسٍ فيه أصالة ما وصورة فيها من الدّهشة ما يشجع على متابعة القراءة:

الحلوة لم تشرق هذا اليوم 

الخبز كذلك 

لا بأس فلم تعد الغربان تبيض على سقفي 

ضحكتك البيضاء...

لليوم الأسود!

لكن الشّاعر، في ما بعد، يغرق في الخطابيّة وفي الشكوى، فيتحول النص إلى عريضة أيديولوجية باهتة، تسعى نحو فكرة محددة هي تجريم الآخر. يظهر ذلك في جمل مثل: 

النهر اتسخ كثيرا          

سقط بناء الدومينو 

فعورة ماء السماء قد باتت مألوفة 

وهو بذلك يبدو متأثرًا بأنماط شعريًة قريبة لأنماط مظفر النواب وأحمد مطر؛ وبالإمكان رؤية تأثر الشّاعر الملحوظ بمظفر النواب تحديدًا، في نص "عاشق مأجور"، من بداية النّص إلى نهايته. هناك، يبتعد أشرف فيّاض عن هدوئه الذي بدا جليًا في بداية المجموعة، ويرتدي عباءة الشّاعر الثّائر بمفردات مستنسخة وغارقة في الطلليّة الوطنيّة والقوميّة.    

من معرض "خراب" الفنّيّ لأشرف فيّاض

الدخول في .. والخروج من .. 

الموسيقى: نصوص مجموعة "التّعليمات بالداخل" متنوعة من ناحية الوزن الشعريّ، فهي تارة نثريّة، وتارة أخرى تنهج نهج قصيدة التّفعيلة. ليس هناك ما يدل على قصيدةٍ في ذلك البناء الموسيقيّ، لكن روح الشّاعر الثّائرة تبدو وكأنها تبث أوجاعها بشكل فوضويّ متمرد على الشّكل والإيقاع...

البناء الشّعريّ: هناك تشكيل وتنوع في القصائد، بحيث يوزع الشّاعر الفراغ بطرق مبتكرة، وربما يرجع ذلك إلى كونه فنانًا تشكيليًا. على سبيل المثال: قام الشّاعر بتقطيع نص "بحّة في مجرى النهر" إلى فقرات أو ستانزات، بينما تدفق بنفس شعريّ واحد ودون فراغات في نص "عاشق مأجور"، أما في نص "قوانين الوطن الثلاثة"، فقد قام بتبويب نص نثريّ خالص بثلاثة عناوين. لكن يؤخذ على الشّاعر أنه يبالغ باستخدام علامات التّعجب وعلامات الحذف، مما يضعف المعنى الشّعريّ والحمولة الرّمزيّة للصورة الشّعريّة.    
 

ضمير المخاطب ودلالات الفوضى والنّظام

كما أسلفت، يقوم الشّاعر في معظم نصوص المجموعة باستخدام ضمير المخاطب بشكل حثيث لممارسة لعبة ديالكتيكيّة، تحاول تشخيص أو فضح هيئات وعوالم خارجيّة. الأنا والآخر يدخلان في لعبة مسميات.  في نص "اسم حلم مذكر"، يسبر الشّاعر الجدل العالق بين الهواء والمادة وبمعنى وجوديّ ما الفوضى والنظام، الهواء بمسمياته العديدة: الغيم، الرّيح، أو الرّعد، والمادة بتمثيلاتها في القواعد المروريّة، في اللغة المتفق عليها التي تصف وتعرف وتحدد. هنالك حفر في تفاعل تلك القامة مع إحداثيات الهواء العاصفة بالفيزياء والنّظام الذي تشكله قوانين تلك الفيزياء.  

ثمة رومانسيّة قلقة هنا، رومانسيّة منزعجة من الاحتكاك القائم بين الفوضى والنظام:        

منذ متى كانت تحترم الروح قواعدك المرورية؟

منذ متى؟  

ما موقع اللغة في مجاراة ذلك الجدل؟ يسأل الشاعر:

قامتك تنافي ما اتفق الناس على تعريف الأعضاء 

المغروسة فيها   

هل بإمكان الشّاعر أن يأتي بلغة أخرى غير تلك المتفق عليها والتي تحدد غيمته وريحه ورعده؟  

لا يبدو ذلك قابلًا للتحقق، فالشاعر مصاب بالحنق والقنوط: 

اسمك رقم مفقود...

وزر أنقض ظهرك! 
 

خاتمة

ثمة تفوق جماليّ محدود في هذه المجموعة، وبخاصة في البنية واستخدام الفراغات، والتّنويع في التّناص. إلى جانب ذلك، هنالك "تفوق مضمونيّ للموضوع المأساويّ" بتعبير النّاقد الفرنسيّ جيرار جينيت، تفوق يتعلق أكثر بقيمة المأساة لا بجودة النّص المأساويّ.