الجامعات الإسرائيليّة في الدّاخل المحتلّ وصناعة الطّالب الإسرائيليّ

مصطفى، مهند. المؤسسة الأكاديميّة الإسرائيليّة:ا لمعرفة، الاقتصاد، السّياسة. رام الله: مدار، 2014.

صدر عن المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة – مدار كتاب بعنوان 'المؤسّسة الأكاديميّة الإسرائيليّة' للكاتب الفلسطينيّ مهنّد مصطفى. يتناول الكتاب في أقسامه المتعدّدة  مجموعة الممارسات والعلاقات الإنتاجيّة والإخضاعيّة التي تروّض الطالب الإسرائيليّ الجامعيّ في الدّاخل الفلسطيني ّالمحتلّ وتحكمه.

يسجّل مصطفى في ثنايا كتابه المعاني المتناقضة والدلالات المتغيرّة لمفهوم 'الجامعة'، وما اشتمل عليه من تحولات حتى يومنا هذا مدشّنًا شهادة فريدة لرصد العلاقة الجدليّة القائمة بين المشروع القوميّ الصهيونيّ وإنتاج المعرفة داخل إسرائيل، أو بمعنى آخر مدى تماهي الجامعات والمؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة مع رؤية دولة إسرائيل لتصبح كيانًا واحدًا ونموذجًا مصغّرًا عن النّظام السّياسيّ في إسرائيل.

يتحدّث الكتاب وبإلمام عن عملية صناعة المعرفة الإسرائيليّة على المستوى المعرفيّ والمؤسساتيّ في الدّاخل الفلسطينيّ المحتلّ، مقدّمًا قراءة شاملة تاريخيّة وتحليليّة للمؤسسة الأكاديميّة اليهوديّة قبل قيام الدّولة وبعد قيامها أيضًا، والسّجال الحاد الذي قام حول الجامعات على وجه الخصوصية. وقد انطلق مصطفى من قراءة لهذه المؤسّسة الصّهيونيّة من منطلق الإطار الفوكياني- نسبة إلى الفيلسوف ميشيل فوكو- ( السّياسة، المعرفة، الاقتصاد) والذي استخدمه كإطار نظريّ في ثنايا كتابه، مقدّمًا مقارنته بين وضع الجامعة قبل عام 1948 وبعده، حيث أن المؤسّسة الأكاديميّة الإسرائيليّة – ممثلة بنموذج الجامعة العبريّة- قد مرّت بعملية أسرلة واضحة بعد قيام الدّولة بعد أن تمّ نزع الطّابع الرّوحانيّ الثّقافيّ والذي أسسه آحاد هعام، وحلّ محله الطّابع الصّهيونيّ القوميّ بقيادة ديفيد بن غوريون.

انطلاقًا من فهم وتحليل المؤسّسة الأكاديميّة الإسرائيلية في الداخل، يمكن وصفها بأنها صيرورة مركزيّة ومهمّة في تكوين النّظام السّياسيّ الإسرائيليّ بطابعه الهويّاتي (نموذج مصغّر عن النّظام السّياسيّ الإسرائيليّ) بحيث تم صقله وبلورته من خلال عملية سياسيّة هادفة يتم من خلالها بناء الهويّة الإسرائيليّة وصهينتها في الجامعات،  حيث عملت دولة الاحتلال الصّهيونيّة والتي قامت بزعزعة الكيان المعرفيّ الخاص بها ضمن برنامج ممنهج لتحقيق رغبة صهيونيّة في إنشاء أجيال مهندسة وفق إرادتها وبما تراه مناسبًا لسياساتها وهيمنتها على حساب الوجود الفلسطينيّ وعبرنة الفضاء العام المتمثل بالجامعات، المؤسّسات التّعليميّة، والمناهج التّعليميّة التّربويّة، بالإضافة إلى الكتابات التّاريخيّة والثّقافيّة في إسرائيل على نحو يؤكّد مركزيّة الرّواية الصّهيونيّة وينفي بقية الثّقافات، فإحكام الهيمنة الصّهيونيّة المطلقة على جهاز التّعليم العالي يجعل من الجامعات الإسرائيليّة في الدّاخل مصانع للتذويب القوميّ الممنهج. ومن هنا، جاء دور الجامعات وما زال يسير باتجاه تطوير الهويّة القوميّة والمندمجة مع النظام النيو-ليبرالي المعولم، وهذا يبدو واضحًا في توجّه الجامعات إلى الخصخصة تدريجًيا نتيجة لدعم جهات متطرّفة يمينية كثيرة لها (ام ترتسو مثلًا). وقد تشكّل هذه الجامعات دافعًا وطريقًا للطلاب الإسرائيليّين بالانخراط في نشاطات وفعاليات الحركة الصّهيونيّة والدفاع عنها. وفوق هذا كله، تمارس المؤسّسة الأكاديميّة عنصريتها – بطريقة نسبيّة قد تكون مبطّنة- من أجل قمع كل من لا يروق لها في الداخل المحتلّ (العرب وحتى اليهود الشرقيين)، وتحاول الالتفاف وتضييق الخناق على حريات الرأي والتّعبير للأساتذة اليهود النّاقدين لسياسات الحكومة التّعسّفية وتتهمهم بأنهم نشطاء سياسيّين غير مهنيّين وهنا تتداخل الجامعات بالنظام السّياسيّ بوضوح، حيث يغدو 'النّظام السّياسيّ الإسرائيليّ' مصدرًا حيويًا للعبث بالجامعات بتشكيلها وتحديد معالمها مستخدمًا حقّه السّلطويّ في شرعنة ذلك.

إن النّاظر اليوم إلى تاريخ إسرائيل منذ قيامها، يجد أنَّ الخطاب الإسرائيليّ الأكاديميّ زاخرٌ بالتلفيقات التي ورثها عن النّظام السياسي الذي ولّده، فهو عادةً ما يشكل صورةً غير التي هي على الحقيقة، فالذاكرة الإسرائيليّة بالأساس ليست ذاكرة أصيلة بل هي نافعة وموجّهة لخدمة أهداف سياسيّة يصوغها النّظام السّياسيّ الإسرائيليّ ترمي إلى مسح ذاكرة صاحب المكان الأصلي المهجّر وتعميق ذاكرة المحتل الكولونياليّ على أنه صاحب حق.

يمكن التأكيد أخيرًا بأن المؤسّسة الأكاديميّة – ولا سيّما الجامعات- قد ارتبطت بالنظام السياسي في إسرائيل وأصبحت جزءًا داعمًا ومؤسسًا له، تشرعن ما يقوله، فهي تحاول التأقلم واستيعاب ثقافة السّوق وسياقه العام لتكون قادرة على تقليد الغرب ومنافسته، مضفية على نفسها الطّابع الليبراليّ الحداثيّ. ومن هنا ، تدرك الصّهيونيّة أن دولة اسرائيل ستبقى مجرّد حلم في أذهان بعض القادة السّياسيّين ما لم تحقق اعترافًا سريعًا من خلال الحصول على دعم من المؤسّسات المعرفيّة الأكاديميّة أيضًا لانتشالها من الغرق، ونقلها من نطاق الحلم إلى حيّز الواقع.



*طالبة ماجستير في معهد الدوحة للدراسات العليا