عرّابة صارت مدينة: لماذا نكّت النّاس؟

كتب المؤرّخ وعالم العُمران، ابن خلدون، في مقدّمته: ... والمدن والأمصار ذات هياكل وأجرام وبناء كبير، وهي موضوعة للعموم لا للخصوص ... وتشييد المدن إنّما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم ... وأكثر الأمر بالهندام ... اعلم أنّ المدن قرار يتّخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من التّرف ودواعيه، فتُؤْثِر الدّعة والسّكون وتتوجّه إلى اتّخاذ المنازل للقرار. ولمّا كان ذلك القرار والمأوى وجب أن يُراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها ... فإذا كثرت الأعمال كَثُرَت قيمها بينهم (أهل المدن)، فَكَثُرَت مكاسبهم ضرورةً، ودعتهم أحوال الرّفه والغنى إلى التّرف وحاجاته من التّأنّق في المساكن والملابس واستجادة الآنية، والخدم والمراكب ... فيزيد الرّفه لذلك، وتتّسع الأحوال، ويجيء التّرف والغنى، وتكثر الجباية للدّولة بنفاق الأسواق.

وأشدّد بدوري، في سياقنا المحلّيّ، على انعدام جودة الرّفه مقابل كثرة الجباية.

وسط الزّحام والاكتظاظ، وفي خضمّ الصّراعين الأهليّ والوطنيّ على كلّ ذرّة تراب، أعلن وزير داخليّة إسرائيل، آرييه درعي، مطلع هذا العام، عن تحويل قرية عرّابة في الجليل إلى مدينة، ومنذ اللّحظة الأولى لهذا الإعلان، تدفّق في مختلف الشّبكات الاجتماعيّة الإلكترونيّة، وفي الحلقات والجلسات الاجتماعيّة، كمّ كبير من الكتابة السّاخرة من هذا القرار. لقد شكّل قرار الوزير محفّزًا لولادة نوع من الخطاب الآنيّ التّلقائيّ، السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، في أراضي 48، حيث كانت النّكتة التّعبير الأساسيّ عن هذا الخطاب، فخلال السّاعات والأيّام الّتي تلت القرار، انتشرت عشرات، بل حتّى مئات النّكت، تحاول التّعبير عن هذا التّحوّل من نمط معيشة القرية إلى المدينة.

ما هي النّكتة؟

النّكتة نصّ محكيّ أو مكتوب، غالبًا ما يكون قصيرًا ومكوّنًا من جمل محدودة، وقد تكون أحيانًا طويلة، هدفه إثارة الضّحك، أي 'التّضحيك'. وقد يكون الغرض من التّضحيك التّسلية والتّرفيه بالضّحك فقط، وثمّة تضحيك أو تنكيت يأتي ضمن  سياق سياسيّ أو اجتماعيّ أو اقتصاديّ، ويكون هذا السّياق مموضعًا في بيئة اجتماعيّة وثقافيّة حاضنة للقصص والحكايات، والّتي تساهم في تحديد شكل النّكتة وتعابيرها ومدى صراحتها.

النّكتة حالة تعبير عن التّناقضات والعبث في الواقع المعيش، فنمطيّة الأشياء تُوَلِّدها في أفراد مجموعة محدّدة، وقد تأتي من أفراد ينتمون لمجموعات خارج الحالة النّمطيّة الّتي تعيشها المجموعة، وذلك للسّخرية من المجموعة المنمّطة. وتولد النّكتة أيضًا في حالات التّحوّل من النّمطيّة إلى حالات أخرى مفاجئة أو غير مألوفة أو طارئة، كما أنّ التّنكيت يتطلّب معرفة وإلمامًا بالبيئة المحيطة.

في هذه الجمل القصيرة الّتي تتضمّن النّكات والتّعبيرات السّاخرة، لا يُقصد، مسبقًا، حلّ أو معالجة عبثيّة الواقع المعيش وتناقضاته، بل الارتكاز على التّضحيك ونشر جوّ من الدّعابة في الواقع العبثيّ. والنّكات من أكثر أنواع التّراث الشّعبيّ انتشارًا واستعمالًا، وأسرعها استجابة للتّغيّرات الطّارئة على الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

مدينة، ولكن!

في واقعٍ يحصل فيه التّنكيت بين فئات اجتماعيّة ومناطق جغرافيّة مختلفة، مثل: جليل – مثلّث، فلّاح – مدنيّ، قرية - مدينة، مسيحيّ – مسلم، يأتي الإعلان عن عرّابة مدينةً ليكون سببًا إضافيًّا لإطلاق رزمة من النّكات، تدور مضامينها حول أشكال كثيرة مستوحاة من حياة القرية، ومضامين من نتاج الإعلان الجديد: 'الزّهق المبكر من حياة المدينة'، و'الملاهي اللّيليّة'، و'مطار عرّابة الدّوليّ'.

بما أنّ النّكتة تعبير عن تناقض بين نصّ النّكتة والواقع المعلوم، قدّمت النّكات حول قرار تحويل عرّابة إلى مدينة، تهكّمًا على الواقع المعيش. فنجد أنّ للمدينة الجديدة مطارًا، ومحطّة قطارات، ومراكز سياحيّة، وأنّها تحتلّ مكانًا في النّشرات الجوّيّة، وبالتّالي فإنّ النّكات تصوغ الواقع الحقيقيّ لحالة العدم.

من قرية كبيرة تعاني من الفقر، والبطالة، والعنف، ونقص في المرافق الاقتصاديّة والثّقافيّة والتّرفيهيّة، تنتقل القرية الكبيرة إلى مُسمّى آخر، هو ' المدينة'، والّذي من المفروض أن يحمل معه أشكالًا للحياة المدنيّة، إلّا أنّ هذه المدينة حديثة الولادة، لا تحتوي حاراتها وأزقّتها وشوارعها، أنماطًا جديدة لإحداث تغيير في الحيّز العامّ.

حساسيّات

هذا المزاح السّياسيّ الاجتماعيّ قد يؤدّي للوهلة الأولى، في مجتمعات تقليديّة تتميّز بالمناطقيّة والعائليّة، مركّباتٍ للانتماء، إلى نوع من الحساسيّات والحدّيّة بين أبناء نفس المجتمع، وهذا النّوع من الحساسيّات، ضيّقة الأفق، قد يفوِّت الطّاقة التّوعويّة الكامنة في هذه النّكات، كونها تعبّر عن وعي سياسيّ شعبيّ للواقع في مستويين؛ الميكرو والماكرو سياسيّ، وهو بجوهره ليس نقدًا للبلدة ولا لقيادتها ولا لأحزابها، بل يصبّ في مسار لسع الدّولة ومؤسّساتها بصياغات تهكّميّة. فهذا المزاح السّياسيّ الاجتماعيّ الشّعبيّ، ليس ملزمًا  بتبنّي نهج أكاديميّ أو أيديولوجيّ - حزبيّ من أجل إطلاق تصريح سياسيّ، فتفلت منه تلقائيًّا تعابير ساخرة تعكس التّهميش، والإهمال، والإقصاء، والتّمييز، وسياسات الخنق المختلفة تجاه العرب الفلسطينيّين في إسرائيل. والسّخرية السّياسيّة الشّعبيّة تقدّم رؤى مختلفة للواقع، ومن زوايا مختلفة.

تشكّل قرية عرّابة المدينة، نموذجًا لسياسات التّمييز المتواصلة من الدّولة تجاه مواطنيها العرب. في ظلّ هذه السّياسة تنمو وتتطوّر الاحتكاكات الأهليّة الّتي تُطَوِّر بدورها نصوصًا محكيّة ساخرة عن بلد تجاه بلد آخر، لكن هذه الحساسيّات السّاخرة تعكس عبثيّة الموقف، حين يصير تطوّرنا المعماريّ مشوّهًا وتطوّرنا المدنيّ متّسمًا بالسّطحيّة.

الجارة سخنين

سخنين وعرّابة، قريتان تقاسمتا الهمّ الوطنيّ، تشاركتا الدّم المسفوك دفاعًا عن الأرض، خاضتا معارك الأرض على مدار عشرات السّنين. إلى جانب هذه المشاركة الوطنيّة تطوّرت النّكتة الاجتماعيّة السّياسيّة بين البلدين، دون أن تحدث هذه المواقف السّاخرة شخصنة وتوتيرًا للعلاقات.

قبل سنوات اتّخذ قرار حكوميّ بتحويل سخنين إلى مدينة، ولم تُحدث هذه النّقلة في تغيير المكانة القانونيّة أيّ تغيير جوهريّ في رفاهيّة المدينة الاجتماعيّة والثّقافيّة، وهو المميّز الأساسيّ في حياة المدن، كما لم تحدث تغييرًا في جانب مهمّ ومصيريّ في حياة المدن، ألا وهو العمران، فنمطيّة العمران المحكوم بالتّضييق السّلطويّ بقيت ولم تحدث توسّعًا عمرانيًّا يمنح المدينة الجديدة ميزة المتنفّس التّرفيهيّ، وهي ميزة أساسيّة أخرى في نشوء المدن. وهكذا انتشر 'التّنكيت' على سخنين 'المدينة'، الّتي كانت أهمّ مظاهر مدنيّتها إقامة مجمّع تجاريّ: ' كنيون سخنين مول'.

في هذا الواقع وُلِدَت النّكتة السّاخرة في قرية عرّابة تجاه الجارة، المدينة الجديدة آنذاك، سخنين، فأدّى التّناقض في التّغيير ما بين الواقع الحقيقيّ وتسمية 'مدينة'، إلى تطوّر النّكتة من قبل أهل القرية (عرّابة)، موجّهةً لأهل المدينة ( سخنين). التّناقضات تُوَلِّد التّفكير في عبثيّة الموقف، وتنعكس من خلال جمل وأوصاف تداعب أهل المدن الجدد لتذكّرهم بحالهم الحقيقيّة، بواقعهم الفعليّ. إلّا أنّ عامل العدد السّكانيّ حوّل عرّابة القرية إلى مدينة، فانضمّت إلى جارتها سخنين، لتشكّلا حالة بلدين مهمّشين يتعرّضان لسيل من النّكات الشّعبيّة.

مقاومة الغبن والإحباط

يتناقل النّكات أبناء نفس البلد والقرى والمدن الأخرى، فتكون النّكتة حديثًا جماعيًّا عامًّا يتداوله الجميع، مع إحداث إرباك واحتدام سياسيّين محلّيّين حول ماهيّة التّحوّل، وشكله، وجوهره.

بين 'ضيق الخُلق' الّذي تعبّر عنه القيادة المحلّيّة للبلد، وبين الجوّ الاجتماعيّ العامّ الّذي يمارس السّخرية، تبقى النّكتة شاهدة على حالة سياسيّة، على ظلم تاريخيّ وغبن سلطويّ. والنّكتة والضّحكة، وفق الدّكتور شريف كناعنة، قد يلجأ إليهما النّاس عندما يشعرون بالإحباط ولا يجدون حلولًا عمليّة، وتبادل الضّحك والتّعبير عن السّخط والعدوانيّة تعزّز شعور التّعاضد والوحدة داخل المجتمع، أمام جهات خارجيّة معادية.

إنّ تحليل ودراسة السّخرية والنّكتة الاجتماعيّة والسّياسيّة، يكون من خلال دراسة موجة القصص، والأبعاد، والظّروف الاجتماعيّة، والنّفسيّة، والسّياسيّة، والاقتصاديّة لهذه النّكات السّاخرة.

في الوقت الّذي تشكّل النّكتة شكلًا من أشكال التّعبير السّياسيّ، فهي تشكّل شكلًا من أشكال المقاومة السّياسيّة، فالمقاومة قد تتبلور فكرةً أو خطابًا محكيًّا تتناقله المجموعات وتتوارثه الأجيال، وفيه تذكير بتاريخ البلاد، بقصص القرى والمدن، والعادات والتّقاليد، والمأكولات الشّعبيّة، وهي تنضمّ لعناصر كثيرة أخرى تشكّل معًا رموزًا هويّاتيّة، وعلامات للوجود. والنّكتة السّياسيّة السّاخرة تمتلك خواصّها وعبقريّتها في التّعبير عن مركّبات وتعقيدات الصّراع الطّبقي والقوميّ.

من هنا يجدر أن ينظر إلى هذا النّوع من السّخرية الاجتماعيّة - السّياسيّة، على أنّها رافد مهمّ للتّوثيق وللشّهادة السّياسيّة الشّعبيّة على الإقصاء والاقتلاع، أوّلًا، وكذلك رافد مهمٌّ للفلكلور والأنثروبولوجيا المحكيّة، ثانيًا.  

...........

مراجع:

ابن خلدون، عبد الرّحمن محمّد. مقدّمة ابن خلدون.

كناعنة، شريف؛ وآخرون. ليش الشّتوح طلّق عزيزة: دراسة في النّكت السّياسيّة والأساطير والإشاعات. دار الجنديّ، 2008.

Schmidt, Samuel. Seriously Funny: Mexican Political Jokes as Social Resistance. The University of Arizona Press, 2014