عن نكبتنا: قيام إسرائيل قبل قيامها

افتتاح محطّة شركة "إيجد" الأولى في تل أبيب (1933)

كانت الحركة الصّهيونيّة قد أنهت بناء كافّة المؤسّسات الكافية لبناء دولة قبل سقوط فلسطين بسنين طويلة، بدءًا ببيت الكتاب القوميّ عام 1892 (والّذي صار لاحقًا المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة – مكتبة الدّولة)، مرورًا بالصّندوق القوميّ اليهوديّ عام 1901، ثمّ 'الهاجاناة'، الذّراع الأمنيّ لليشوف والحركة الصّهيونيّة عام 1920، ثمّ شركة الكهرباء عام 1923، فالجامعة العبريّة 1925، فشركة المواصلات 'إيجد' 1933، فشركة المياه 'مكوروت' 1937، وغيرها من المؤسّسات والنّقابات.

لم يكن إعلان دولة إسرائيل عام 1948 سوى خطوة سياسيّة رمزيّة، إذ كانت الحركة الصّهيونيّة قد أتمّت مذ سنين طويلة توطيد الوجود اليهوديّ في البلاد، وخلق إدارة ذاتيّة له، وقد كان عدد المستوطنين اليهود قد ارتفع من 27 ألف عام 1882، إلى 650 ألف عام 1948، يتوزّعون في 300 بؤرة استيطانيّة، بين مدينة وقرية وكيبوتس.

استقلاليّة صهيونيّة

لا شكّ في أنّ الانتداب البريطانيّ ساهم في تعزيز الوجود الصّهيونيّ وبناء مؤسّساته المختلفة، وبعدّة طرق، سواءً من خلال الاعتراف بالمؤسّسات نفسها رسميًّا، كالاعتراف بالوكالة اليهوديّة وفق ما جاء في المادّة الرابعة من صكّ الانتداب، أو عبر تزكية المؤسّسات بجعلها تفوز بالمناقصات المطروحة، كما حدث في حالة مشروع روتنبرغ، إذ منحته السّلطات البريطانيّة امتياز استغلال مياه النّهرين لتوليد الطّاقة الكهربائيّة، أو كمشروع تشارلز تيغارت، الّذي استدعاه الانتداب من البنغال للمساهمة في إخماد الثّورة الفلسطينيّة المشتعلة، حيث وصل في أيلول عام 1937، وأوصى ببناء قلاع ومحطّات شرطيّة جديدة، إضافة إلى بناء الجدار الشّماليّ، لمنع تدفّق المقاتلين العرب ونقل الأسلحة، وهو عبارة عن جدار من الأسلاك الشّائكة بطول 80 كيلومتر على حدود فلسطين مع سوريا ولبنان، و 40 كيلو متر مع الأردنّ، وبعرض ثلاثة أمتار وارتفاع ثلاثة أمتار، مزروع بالألغام، وقد مُنِحَتْ شركة 'سوليل بوني' حينها امتياز بنائه.

شركة الطّاقة الصّهيونيّة تحصل على عطاء تزويد كافّة مناطق فلسطين بالكهرباء
مدّة 70 عامًا، باستثناء منطقتي القدس وطبريّا (1926)

تعزّزت المؤسّسة الصّهيونيّة بالسّياسيات البريطانيّة الدّاعمة لها والمتواطئة معها، إلّا أنّها أجادت بناء وتكوين ذاتها من خلال العمل التّكامليّ المنظّم، إذ سعت لبناء مؤسّسات خاصّة بها، توفّر لها الاستقلاليّة وحرّيّة العمل قدر المستطاع، رافضة الاعتماد على المؤسّسة البريطانيّة بالمطلق؛ إضافة إلى اتّباعها استراتيجيّة التّعزيز الأفقيّ، وذلك بتعزيز المؤسّسات والأذرع الصّهيونيّة لبعضها البعض؛ فالجامعة العبريّة، مثلًا، كانت تستقدم الخبراء وتخرّج أجيالًا من الطّلبة الّذين سيعزّزون المرافق الحياتيّة اليشوف اليهوديّ، وهكذا سيؤسّسون المشافي والمدارس والمسارح، وسيزرعون الأراضي، كما ستخرّج المدارس أفواجًا جديدة، وسترفد المؤسّسات الأمنيّة بجيل جديد أُنْشِئ على عقيدة صهيونيّة. جيل سيستولي على أراضٍ جديدة وسيكمل دورة العمل المؤسّساتي في السّيطرة على البلاد، كلٌّ من موقعه.

هكذا سقطت...

عملت المؤسّسات الصّهيونيّة على تعزيز قدراتها ليل نهار، في حين كان الفلسطينيّون يحاولون بناء مشروع متعثّر؛ فبالإضافة للاحتلال البريطانيّ والواقع السّياسيّ المنهك للفلسطينيّين، فقد كانت معيقات عديدة تعرقل دومًا قيام أيّ تنظيم فلسطينيّ مؤسّساتيّ حقيقيّ، على رأسها العائليّة والمناطقيّة والطّبقيّة، وقد أرهق التّناحر الفلسطينيّ الدّاخليّ الجبهة الفلسطينيّة، كما في حالة التّناحر بين زعماء عائلتي الحسيني والنّشاشيبي، أو في حالة العديد من المؤسّسات الأخرى الّتي أنهكها الفساد الدّاخليّ، من توظيف للأقارب، أو تجنّب توظيف الكفاءات خوفًا من تهديد المناصب. هكذا سقطت الجمعيّة الإسلاميّة المسيحيّة، وسقط مشروع بنك الأمّة العربيّة، وسقطت اللّجان القوميّة في ثورة 1936، وعاثت فصائل السّلام خرابًا في البلاد، وصُفّيت نخبة مقاتلي الثّورة الفلسطينيّة الكبرى، وعلى رأسهم القائد العامّ للثّورة الفلسطينيّة، عبد الرّحيم الحاجّ محمّد، الّذي قُتِلَ على يد فلسطينيّ.

شيكّات صادرة عن بنك الأمّة العربيّ المحدود

لم تثمر كافّة الثّورات الفلسطينيّة، رغم بسالة المقاومة الّتي أبداها الفلسطينيّون في كافّة محطّات التّاريخ الفلسطينيّ، سواءً في أحداث يافا وهبّة البراق، أو في الثّورة الفلسطينيّة الكبرى، والّتي استنزفت الاحتلال البريطانيّ وأنهكته، ما اضطّرّه على أثرها إلى استقدام خبرائه  - كما ذكرت أعلاه – وعلى رأسهم تشارلز تيغارت، وطلب مبالغ هائلة في ظلّ الخسارات المتلاحقة الّتي مُنِيَ بها في فلسطين.

غياب المشروع

ليست المواجهات العسكريّة ليست هي القضيّة، إنّما الوعي المشكّل والرّؤية، والمشروع الّذي يخاض القتال من أجله. فرغم جودة الكفاءات الفلسطينيّة الّتي لا يمكن إنكارها على شتّى المستويات الثّقافيّة والمعرفيّة والتّعليميّة، ورغم النّجاحات العسكريّة الّتي حُقِّقَتْ في عدّة مراحل، إلّا أنّ كلّ ذلك لم يُجْدِ نفعًا في بناء مشروع فلسطينيّ حقيقيّ، فقد ظلّت الكفاءات والخبرات فرديّة، ولم تنتظم في إطار مؤسّساتيّ تكامليّ، يكون قادرًا على إدارة الطّاقات وتوجيهها لتجاوز كافّة العقبات. كما لم تستطع التّنظيمات الفلسطينيّة المختلفة جني ثمار الثّورات أو تحويل الإنجازات العسكريّة لمكاسب سياسيّة وتحرّريّة وبنائيّة، وهكذا كانت خسارة ثورة 1936 وتفتيت الجبهة الفلسطينيّة الدّاخليّة، لتصير النّكبة مسألة وقت.

الشّهيد عبد الرّحيم الحاجّ محمّد

كانت المؤسّسات الصّهيونيّة تنظيمات تعرف قيمة المشروع الّذي وُلِدَتْ لأجله، وتملك فلسفة واضحة؛ أنّ الفكرة هي الأهمّ وأنّ المؤسّسة هي الدّائم والفرد هو الزّائل، وأنّ المؤسّسة الحقيقيّة هي الّتي ترفض الفساد وتجيد دراسة طاقات أفرادها وتوظيفهم واستثمارهم في الأماكن الصّحيحة، وتجيد دراسة مواردها وتكييف مساحتها وفق مقدّراتها، وتحارب في الوقت ذاته كلّ ما يعرقلها، ولا يعرقل المؤسّسات سوى الفساد بكافّة أشكاله. أمّا مؤسّساتنا، كانت، ولا زالت حتّى اليوم، مؤسّسات أفراد وأشخاص متنفّذين، تنخر فيها المحسوبيّات والفساد، وتنسحب منها الخبرات والكفاءات الّتي لا تجيد النّفاق.

جلد للذّات؟

بناء المؤسّسة الفلسطينيّة هو المشروع الّذي يستحقّ الدّراسة، عبر إعادة قراءة التّجربة الفلسطينيّة ومراجعتها خلال القرن الأخير، لدراسة مكامن الضّعف واستغلال نقاط القوّة، وإعادة هيكلتها وبنائها، وإلّا فسيظلّ التّاريخ يعيد نفسه؛ وكما سقطت المؤسّسات الفلسطينيّة قبل نكبة 1948، أو كما سقطت مؤسّسات منظّمة التّحرير والكثير من المؤسّسات الفلسطينيّة الوطنيّة بعد النّكبة، ستسقط المؤسّسات الفلسطينيّة الحاليّة، والّتي تنمو في ظلّ أوسلو والدّول المانحة.

البدء في بناء الجامعة العبريّة في القدس [من أرشيف شركة سوليل بونيه]

هل هذا جلد للذّات؟ هذا درس للتّعلّم، ولكي يتعلّم الإنسان من تجربته، وكي لا يتكرّر الخطأ مرّتين، وكي لا تعيد النّكبة نفسها، يجب فتح كافّة الملفّات، على قسوتها، والاعتراف بالماضي وتبنّيه، وليس التّنصّل منه وإنكاره، فالإنكار سيجلب لنا نكبة أخرى فأخرى، وسينكرنا الواقع حينها.