الموتى لا ينتحرون: تلصّص على أحاديث مكبوتة في خفايا الحياة

في قراءة للفضاء الثّقافيّ لرواية سامح خضر الجديدة، 'الموتى لا ينتحرون'، نجد الكاتب يقفز إلى مساحة أخرى من السّرد بعد روايته الأولى، 'يعدو بساق واحدة'، والّتي استند فيها إلى تحوّلات الهويّة الوطنيّة بعد تأسيس السّلطة الفلسطينيّة في منتصف التّسعينات.

يتّخذ خضر هنا مسارًا جديدًا، مسلّطًا الضّوء على قضيّة أخلاقيّة تعدّ من القضايا الاجتماعيّة المعقّدة والإشكاليّة، وهي قضيّة 'سفاح القربى'، بانعكساتها النّفسيّة والمجتمعيّة.

'الموتى لا ينتحرون' اشتباك أدبيّ مع حالة من حالات المجتمع المتعدّدة، يحاول فيها الكاتب القفز فوق أسوار المثاليّة والتّلصّص على أحاديث مكبوتة في خفايا الحياة اليوميّة بصبر وشغف.

انكسارات فرديّة

ربّما يستدعي الاقتراب من مثل هذه القضايا جرأة في الطّرح، وتمكنًا أدبيًّا يتيح مساحة للنّقاش من خلال أدوات اللّغة والرّؤية وطبيعة السّرد، والّتي تساهم جميعًا في تعزيز طرح الكاتب للقضيّة في سياق روائيّ؛ لهذا تمثّل 'الموتى لا ينتحرون' تجربة أدبيّة تستحقّ التّأمل والمتابعة.

يظهر سامح خضر في هذا العمل مشغولًا بتتبّع مسار التّحوّلات الاجتماعيّة والسّياسيّة، والضّغوطات المختلفة الّتي تجعل من قضايا المجتمع مادّة خصبة للأعمال السّرديّة والرّوائيّة، فيذهب في بناء السّرد من انكسارات فرديّة بدا واضحًا اهتمامه بجمعها وتدوينها قبل أن يطلقها مرّة أخرى في عمل أدبيّ؛ هذا ما جعله يضع انكسار إياد القادم من حروب لبنان أمام انكسار حياة القادمة من إحدى القرى الفلسطينيّة وجهًا لوجه في ألمانيا، ليعيد من خلالهما بناء صورة لحياتهما السّابقة، سياسيًّا واجتماعيًّا، معتمدًا على من فعل الماضي وشظايا الجروح فيه، لخلق مساحات من الحوار السّياسيّ والاجتماعيّ.

لوحة بصريّة

ولكي يحرّر الكاتب نفسه من تداعيات الحوارات السّرديّة، وما قد تحمله من تأويلات متعدّدة في سياق البناء الرّوائيّ، حرص على الاعتماد على الجمل القصيرة والمشهد البصريّ أكثر من اعتماده على لغة السّرد، بمعنى أنّه انحاز إلى سرعة حركة شخصيّاته الرّوائيّة وتفاعلاتها الشّخصيّة، في مشهديّة تقترب كثيرًا من المشاهد السّينمائيّة، ما جعل ربط الفصول الرّوائيّة يعتمد على استمرار الحركة، وهو ما عزّز من عنصر الفضول والتّشويق لدى القارئ لمعرفة المزيد من التّفاصيل المستجدّة على حياة الشّخصيّات الرّوائيّة.

هذا يعني أنّ الكاتب كان أكثر اهتمامًا بالقضيّة نفسها، ما جعله يبتعد عن ممارسة أيّ استعراض لغويّ أو ثقافيّ في عمله، بقدر ما قدّم 'لوحة بصريّة شائقة'، معتمدًا فيها على لغة سلسة تقدّم العمل بانسياب، استعرض من خلالها سامح خضر قضيّة اجتماعيّة، مضيفًا إليها بعدًا سياسيًّا تمثّل في شخصيّة إياد الفلسطينيّ، ابن مخيّم تل الزّعتر، والّذي هاجر إلى ألمانيا بعد خروج المقاومة الفلسطينيّة من لبنان عام 1982.

حركة مستمرّة ومتوتّرة

بدت حركة الشّخصيّات عفويّة غير متكلّفة، طبيعيّة في سباق تجارب المنفى المتعدّدة، وهو ما يفسّر، ربّما، اهتمام الكاتب بالحركة المستمرّة المتوتّرة والغاضبة والقلقة، الباحثة عن مخارج محتملة للضّغوط النّفسيّة المتعدّدة، ما جعل العمل الأدبيّ مساحة بصريّة موازية للواقع المتخيّل روائيًّا، والمعتمد أساسًا على قضايا ذات بعد سياسيّ واجتماعيّ.

لقد بدا البحث الرّوائيّ، والمتمثّل في توظيف الحكايات الشّخصيّة المتنوّعة، واستخدام الأصوات السّرديّة المتعدّدة، والمتمثّلة في شخصيّات إياد وحياة وشروق والأمّ والجدّ والدّكتورة كلوديا، مزيجًا ضروريًّا لمحاولة تفكيك العقدة الرّوائيّة، ولخلق مساحة موازية من أجل إظهار الأبعاد الفنّيّة للعمل الرّوائيّ.

هنا يمكن القول إنّ سامح خضر تجاوز عمله الرّوائيّ الأوّل، 'يعدو بساق واحدة'، بإصرار وجرأة جعلت من روايته الجديدة، 'الموتى لا ينتحرون'، مساحة لنقاش أكثر ثراءً حول هويّات النّصّ المتعدّدة، وطبقات السّرد، والفضاء الاجتماعيّ والسّياسيّ للعمل الرّوائيّ.