الكتابة والمحو: بحث في السّيرة الموءودة

ناصر الدّين الأسد (1922 - 2015)

ليس من اليسير على المرء أن يقف على تجربة حافلة بالأحداث والإنجازات لعالم جليل، كان له فضل المساهمة في صوغ مشروع تنويريّ دون أن يستقريَ محطّات تنشئته الأولى، ويقف على ملاعب صباه ومحطّات نشأته وتكوينه الشّامل. ولعّل هذه الغاية تقتضي الإفلات من شروط الخطاب التّأبينيّ والمناقبيّ الّتي تضع أمام الباحث والنّاظر حجابًا من الاستجابات القائمة على التّأثّر والانفعالات.

كنز ضائع

لم يكتب ناصر الدّين الأسد سيرته الذّاتيّة الأدبيّة الّتي تجسّد حضوره النّصيّ في الواقع والوجود؛ إذ حرص الأسد على أن يتولّى الآخرون كتابة هذه السّيرة بما يتوافق مع الهيئات الّتي كانها، والمواقع الّتي تسنّمها، والشّروط الموضوعيّة الّتي شهدتها مراحل حياته المتنوّعة، دون أن يعني ذلك أنّ الأسد جاهل أهمّيّة السّيرة وقيمتها الثّقافيّة، ولا عاجز عن كتابة نصّ سيريّ رفيع لا يقلّ خلودًا عن نصّ 'الأيّام' لأستاذه طه حُسين، سيّما أنّه يملك شذرات سيرة ذاتيّة غنيّة وخصبة. وهذا يعني أنّ الأسد تعمّد وأد سيرته الذّاتيّة وضيّع كنزًا ثقافيًّا كبيرًا كان يمكن أن يمثّل رصيدًا مهمًّا لراهن الثّقافة العربيّة ومستقبلها معًا.

تتولّد السّيرة الذّاتيّة، حسب إحسان عبّاس في 'فنّ السّيرة'، من حسّ تاريخيّ يقوم على تصوّر جوهريّ مُفاده؛ أنّ الإيمان بقدرة الإنسان العظيمة على الممارسة والفعل والإنجاز والإنتاج يشكّل عبقريّة الفرد ودوره الكبير في تكييف الأحداث، وإعداد محطّاتها الأساسيّة. ومتى كان هذا الحسّ غائبًا كان الفرد منفصلًا عن مجتمعه، لرغبته في أن يُنظر إليه نظرة منفصلة بوصفه الحقيقة الكبرى[1].

مخالفة التّقليد

محو السّيرة الّذي أراده الأسد يخالف تقليدًا علميًّا آخر أقرّته فلسفة العلوم الإسلاميّة، يتمثّل في أنّ ترجمة النّفس تؤكّد انتماء المسلم إلى تقاليد الإسلام الّتي تُلزم العلماء بكتابة تراجمهم، تعبيرًا عن فكرة مركزيّة ترتكز على دور الإنسان في خلافة الله في الأرض وعمارتها، فضلًا عن التّحدّث بنعم الله، والتّعبير عن الفضائل والشّمائل الحميدة المنتمية إلى جوهر الإسلام[2].

لقد كتب أعلام القرن العشرين سيرهم الّتي أصبحت تقليدًا أدبيًّا راسخًا، بدءًا بأحمد أمين، ومحمّد عبده، وعبّاس العقّاد، وطه حسين، والشّيخ كشك، وأحمد لطفي السّيّد، وميخائيل نعيمة، وإحسان عبّاس، وحمد الجاسر، وعبد الرّحمن بدوي، ومحمود السّمرة، وعبد الوهّاب المسيري، وغيرهم من هؤلاء الأعلام. 

كان الأسد يمتلك أداة السّيرة الذّاتية وموضوعها، غير أنّه لم يمتلك مفاتيح ذاته الّتي استعصت على فعل 'المباوحة والمصارحة'[3]، فهل كانت ذات الأسد المتماهية مع الذّوات الشّعريّة الجاهليّة، والمعتمدة على خطاب يملك ذاكرة جماعيّة، متعاليةً على شرطها التاريخيّ؟

الصّلة بالشّعر الجاهليّ

شذرات السّيرة الذّاتيّة الأسديّة شديدة التّقشّف، وهي مبثوثة في حوارات ولقاءات متنوّعة، بعضها منشور وآخر خاصّ مودع في صدور صفوة أصحابه وعارفيه. ومن أبرز هذه الشّذرات ما قدّمه الأسد في المجلس التّكريميّ في اثنينيّة الشّيخ عبد المقصود خوجة سنة 2002. وفي هذا المجلس كشف الأسد عن علاقته بالشّعر الجاهليّ الّتي ترجع إلى تنشئته الأولى، وهي تنشئة عاشها في البادية وشرقيّ الأردنّ الّتي كانت كلّها في عهد طفولته الأولى بادية، بما فيها عمّان.

ملك الأردنّ، الحسين بن طلال، يكرّم الأسد (منتصف السّتّينات)

لا يحتفي الأسد بالذّات لعلمه أنّه مقيم خارج الجماعة، وأنّ وعيه الذّاتيّ مُجَسِّدٌ وحاضر في موقع آخر، لذلك وجد سكينته في الانفتاح على الشّعر الجاهليّ برواته ونصوصه وشخصيّات شعرائه وأبطاله وقصصهم وأخبارهم وغواياتهم. يقول الأسد: 'أحبّ أيضًا أن أشير إلى أنّني لم أوف موضوع علاقتي بالشّعر الجاهليّ حقّه في مقدّمة كتبي، سواء أكانت هذه الكتب في البحث أو في التّحقيق (القيان والغناء في العصر الجاهليّ)، و(مصادر الشّعر الجاهليّ وقيمتها التّاريخيّة)، وديوان قيس بن الخطيم، وديوان الحاجرة الذّبيانيّ، والكتاب الّذي أصدرتُه قبل سنتين عن نشأة الشّعر العربيّ في الجاهليّة، بطبيعة الحال هذا أمر معروف، وعن تطوّره في ذلك العصر، لم أوف موضوع صلتي بهذا الشّعر، ولكنّنا الآن في معرض المباوحة والمصارحة'.

البادية

يبدو الأسد مُعتدًّا بنشأته في البادية، لكنّه لم يعلن أنّه بدويّ، فكلّ ما يهمّه تأسيس حضوره في البادية والتّشبّع بموجوداتها ومكوّناتها. يقول: 'كانت العقبة، وهي حيث ولدت، ثمّ الكرك، والشّوبك، ووادي موسى، ومعان، وأخيرًا عمّان، كلّها بوادي، أرقاها هي قرية حضريّة، وأحبّ أيضًا أن أشير في هذا المجال إلى أنّ البادية قد تختلط أحيانًا بالحضر، أي بالاستقرار بالمعنى اللّغويّ لكلمة الحضر، وأنا أستأذنكم في أن أشير إلى ذلك بعد قليل إذا أسعفتني الذّاكرة، هذه البيئة البادية بما كانت تضمّه، ولا يغرنّكم ما ألبس هذه الأيّام، كانت تضمّ بيوت الشّعر، وكانت تضمّ الثّوب البدويّ العاديّ، وكانت أيضًا من معالمها الخيول، وقد نشأت بينها، وأرجو أن تعذروني إذا قلت إنّه كانت لنا فرس، دخلت فيها وعمري ثماني سنوات في سباق ووقعت من ظهرها وأصبت في ظهري حينما وقعت في ذلك الوقت، وكان لها فِلْو (مهر) طبّعته وروّضته بنفسي، كما نقول طبّعته في بلادنا، روّضته بنفسي، ولم يكن يسمح لأحد بأن يركبه سواي، هذه البيئة البدويّة لازمتني إلى أن بلغت نهاية المرحلة الابتدائيّة وبداية ما يُسمّى بالمرحلة الإعداديّة، وكانت المناهج الدّراسيّة حينئذ مختلفة عن هذه المناهج اليوم، فكنّا نُعَلَّم مختارات من المعلّقات ومن الشّعر الجاهليّ في الصّفّ الخامس الابتدائيّ حينئذ، وحين كان المعلّم يقرؤها وكنت أعود إلى البيت فأستعيدها، كنت أحسّ بأنّها قريبة من نفسي، وأنّها  - أقول مختارات وليست كلّ المعلقات، لأنّها في تلك السّنّ المعلّقة كاملة كانت عسيرة علينا بطبيعة الحال-  فكنت أحسّ بأنّها تصوّر بيئتي، وتصوّر نشأتي، وتصوّر ما في نفسي، فارتبطت بهذا الشّعر الجاهليّ من خلال ما  درسته حينئذ من المعلّقات'.

زيد حمزة وناصر الدّين الأسد في حفل استقبال بالسّفارة المغربيّة (1967)

لا يُقدّم لنا الأسد الحاضنة الاجتماعيّة الّتي نشأ فيها، بل نراه يؤكّد انتماءه إلى الشّعر الجاهليّ، يقول: 'وحين أنهيت المرحلة الإعداديّة وبدأت في المرحلة الثّانويّة، وتلك أيّام تختلف عن هذه الأيّام، قرأت كتاب الدّكتور طه حسين فأصابني بالفجيعة بشيء أعتزّ به، هذا الشّعر الّذي يصوّر نفسي، ويصوّر بيئتي، ويصوّر قيمي، أيضًا بما فيها من نخوة ومروءة وما فيها من فروسيّة، فعزمت على أن أغوص في أعماق هذا الشّعر لأستبين حقيقته، ثمّ كان ما كان. فهذه هي المرحلة الأولى الّتي ربطت ما بيني وبين الشّعر الجاهليّ، ولم أذكر تفصيلاتها ولا بعض تفصيلاتها في الكتب الّتي ذكرتها لكم، ثمّ بعد ذلك تبيّن لي ما في هذا الشّعر الجاهليّ من روائع ظلمها أكثر النّقّاد'.

أسرار لم تصلنا

أمّا المدينة الأولى الّتي عرفها الأسد، فلم يبح بتفاصيل تجربته فيها، وإنّما يمضي على ذكرها مرورًا عابرًا، يقول: 'وأنا لم أعرف المدينة إلّا حينما أوفدتني وزارة المعارف الأردنيّة - كما كانت تسمّى حينئذ - إلى القدس، فكانت القدس هي أوّل مدينة أراها'.

كان بمقدور الأسد أن يسترسل في الحديث عن علاقته بالملك عبد الله الأوّل بن الحسين ورعايته له. كان على الأسد الّذي عمّر ما يقارب قرنًا من الزّمان أن يسرد عن افتتاح الجامعة العبريّة في القدس سنة 1925، وعن حضور بلفور حفل الافتتاح، ومشاركة أبي اللّيبرالية المصريّة أحمد لطفي السّيّد الحفل، ممثّلًا عن الحكومة المصريّة. كان على الأسد أن يروي بعض تفاصيل إقامته في القدس، وأن يتحدّث عن زملائه في الكلّيّة العربيّة في القدس؛ إسحاق الحسينيّ، ونيقولا زيادة، وأحمد سامح الخالدي، وعلاقته بالملك حسين، وعن دوره في كتابة خطبه، وبيان إذا ما كان كاتبًا شبحًا من مطلع السّتّينات إلى أواخر الثّمانينات. غير أنّ الأسد لم يباوح قرّاءه، بل كتم علمًا وأسرارًا كبيرة وكثيرة، ومارس حجبًا لكلّ هذه العلاقات المهمّة الّتي ساهمت في تكوين خبراته المعرفيّة الخلاّقة.

الانفتاح على الاستشراق الغربيّ

من الممكن العثور على شذرات سيرة الأسد من خطاباته المناسباتيّة، إذ يبيّن لنا خطابه بمناسبة تكريم المؤرّخ عبد العزيز الدّوريّ أنّ ناصر الدّين الأسد، أستاذ اللّغة والأدب العربيّين وأوّل رئيس للجامعة الأردنيّة، مثّل صوت الانفتاح المعرفيّ على مؤسّسة الاستشراق الغربيّ.

ناصر الدّين الأسد ومحمود شاكر

يقول الأسد في الكتاب الّذي أصدرته مؤسّسة عبد الحميد شومان بمناسبة تكريم الدّوري: 'وكانت الجامعة الأردنيّة حريصة على استقدام عدد من المستشرقين، فاستقدمت ’امبرتو ريدستانو‘ و’شارل بيلا‘. و’امبرتو ريدستانو‘ الّذي كان رئيسًا لقسم اللّغة العربيّة وآدابها في جامعة صقلّية، ألقى محاضرات مدّة شهر عن العرب في صقلّية. وأمّا ’شارل بيلا‘ الّذي كان متخصّصًا في الجاحظ، فألقى محاضرات عنه، وكان إلقاؤهما باللّغة العربيّة، وكانت المحاضرات مطبوعة، وأقول هذا اليوم لأؤكّد أنّ مجيئ هؤلاء الأساتذة لم يكن دائمًا من أجل نقص في عدد الأردنيّين في الجامعة الأردنيّة، وإنّما من أجل تطعيم الأفكار وتبادل المناهج، لإيجاد مجتمع علميّ عربيّ وعالميّ ’استشراقيّ‘ في الجامعة الأردنيّة'.

غير أنّ السّؤال الّذي يحضر في هذا السّياق، وفي الذّكرى الأولى لرحيل الأسد: لماذا لم يكتب ناصر الدّين الأسد سيرته؟ يمكن العثور على إجابة هذا السّؤال في كتاب 'الذّات تصف نفسها' لجوديث بتلر، الّتي ترى أنّ تحقّق الذّات لا يتكوّن إلّا عند أفول الرّوح الجماعيّة، ما يعني أنّ الأسد الممتلئ بكلّ أسباب الحضور، المسكون بذاكرة الجماعة في الشّعر الجاهليّ، ظلّ رازحًا تحت تأثير الوعي الجمعيّ وسيرورته الّتي تأبى تحويل الذّات إلى كينونة غريبة. لذلك محا الأسد سيرته وعطّل فعل الذّاكرة، ليس لأنّه يملك ذاكرة معوّقة، حسب بول ريكور، بل لأنّ ذاته مقيمة في ذات مجموعة تأبى الاختزال وتستعصي على الانفلات من رحم الجماعة.


[1] . إحسان عبّاس، فنّ السّيرة، ط1، دار صادر ودار الشّروق، بيروت – عمّان، 1996، ص 10 – 12.

[2] . تأليف مجموعة من الكتّاب، تحرير: دوايت راينولدز، ترجمة: سعيد الغانمي، ط1، أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثّقافة والتّراث، كلمة، 2009، ص 21- 23.

[3] . الكلمتان من معجم ناصر الدّين الأسد نفسه في حفل تكريمه في اثنينيّة الشّيخ عبد المقصود خوجة سنة 2002.
 

* أستاذ الأدب والنّقد المشارك في قسم اللّغة العربيّة - جامعة قطر.