"اعتدت ألّا يراني أحد": ألم ينتصر الشرّ مرارًا؟!

الشرّ | Eila Mahima

سلطان القيسي

يحقّ للقارئ أن يحتفي بشاعرة تكتب ما يدور في رأسه من منظور إنسانيّ عامّ، مبتعدة عن التقوقع في قضايا اعتدنا قراءتها في شعر النساء العربيّات. يحقّ لمن يقع في يده كتاب الشاعرة جمانة مصطفى 'اعتدتُ ألّا يراني أحد'، أن يفعل ذلك كخطوة على سلّم الوعي الجمعيّ، الذي تصبح قضايا المرأة بمقتضاه جزءًا من قضايا الإنسان الأكثر تعقيدًا؛ فالمرأة بوصفها ولّادة الإنسان، هي مصنع مشكلاته ومخزن حلولها، فإن كان الأسد أو 'الذكر العظيم'، كما يردُ في مطلع الكتاب، سيّد الغابة التي أصبح عليها العالم، فإنّ 'النّمِرَة' التي انتخبتها جمانة مصطفى لتصوّر المشهد، كانت سيّدة الموقف، وسيّدة المشاهد كلّها.

على هذا النحو قالت جمانة بهدوء مدروس إنّ دور المرأة لا يمكن وضعه في إطار إذا كانت اللوحة كلّها قد سقطت أرضًا وهشّم الزجاج ملامح العائلة البشريّة، ليصبح أفرادها وحوشًا كاسرين، أو وحوشًا لا يجيدون 'شرب الأرواح من الأعناق'، كما ينبغي لأيّ وحش عاديّ.

إعادة تعريف الغابة

الكتاب يقع في 92 صفحة، وقد جاء على هيئة 'قطيع شعريّ'؛ قصيدة واحدة مقسّمة إلى شهقات شعريّة في اتّجاهات عدّة، عنونتها الشاعرة بعناوين دقيقة لكنّها مفتوحة، افتتحتها بـ 'الغابة/ بضعة قَتَلة':

ما الغابة؟

خطّ طويل وأخضر

خوف يهادن ساكنيه

وبضعة قتلة

إنّه تعريف عاديّ، ومتوقّع، ولن يقبل القارئ بغيره حتّى على سبيل النزوة الفنّيّة، فالغابة ارتبطت ذهنيًّا بسقوط القانون الذي يولّد 'الخوفوتفشّي الجريمة التي يقودها 'بضعة قتلة.'

لكنّ الشاعرة تصعد درج المعنى بشراسة تليق بالغابة، لتقول إنّ النمر الزَّؤورَ يبقى نمرًا، أمّا النمر الذي يولَدُ في القفص فليس نمرًا، فيما الضباع تظلّ وضيعة مهما جرى.

لم يجرؤ أحد من قبل – بحسب مطالعتي- على نقل المشهد من وجهة نظر الغاب نفسه، لم يحمل الشعر خطاب القاتل لحظة انكساره، حين يعزّ القتل، وحين يعجز عن اختيار طرائده، كنّا دائمًا نرى في القصيدة أنين الضحيّة، ولم نرَ قبل هذا النصّ دمعة القاتل!

ما الغابة؟

كسل المفترسين ظهرًا

خطوة النمر المتربّص

رائحة الأسد المتهيّج

عواء ذئاب الشمال كي لا ينام الحذر

بضعة قتلة

كنت منهم

يكفي أن تصطاد لمرّة

لتخرج من شرف المفترس

إنّ صوت 'القاتل المظلوم' يجرح الإنسانيّة أكثر بكثير من صوت الضحيّة، وقد أفلحت الشاعرة في تسليم الخطاب للنمرة، لتفصح عن الدوافع الكثيرة والرغبات المحتقنة وراء القتل الممنهج، الذي هو بطبيعة الحال، نهج الغاب الذي صرنا عليه: النمر المتربّص، الأسد المتهيّج، عواء الذئاب، وشرف المفترس!

المدينة تنام في المقبرة

المدينة ليست أوفر حظًّا من الغابة، لكنّها تتجمّل، تضع الـ Foundation على وجهها لتخفي الجروح التي أصابتها جرّاء مقاومة الطريدة لأنيابها الدامية، وتلبس فستانًا قصيرًا وتسهر إلى أن يسقط أولادها واحدًا تلو الآخر، فتنام في المقبرة.

يبدو أنّ نزول قصيدة 'المدينة/ جيش الممسوسين' هذا المنزل الملاصق لقصيدة 'الغابة'، كان مدروسًا، لتقول الشاعرة إنّ المدينة جارة الغابة، وصديقتها الذكيّة. تحمل جمانة الكاميرا وتصوّر أفق المدينة:

جمالك الشبحيّ يخرج ليلًا

القسوة وهي تجوب شوارعك

ككلبة عرجاء

صراخ جارتنا فجرًا

وشحوب أطفالها في الصباح

مجانينك

عاهراتك

أيتامك

وهم يتساقطون منك

الجرائم التي تقلّمين بها أظافرك

سيّارات القمامة

وهي تلمّ وجودنا

 وتلقيه بعيدًا

وأجمل ما فيك

المقبرة العظيمة

وأنت منذ أربعين عامًا

تنامين فيها

اختلاط الذاتيّ بالشعريّ

في مجمل الفصول اللاحقة، يشعّ الذاتيّ في الشعريّ، ويبدو التماعه واضحًا وجاذبًا وداعيًا للتحليل، إلّا أنّ براعة الشاعرة في تضليل القارئ ضلالًا جميلًا، تجعله يلهو بالشعريّ في الفصل المعنون بـ 'لهو'، ويفكّر جدّيًّا بأناقة الفوضى وجدواها. إنّه الإيمان بالهدم كخطوة أولى في البناء، فيبدو أنّ الشاعرة توافق على أنّ بناء مستقبل واعد لا يصحّ أن يكون على أساسٍ متداعٍ، لذا تهدم المفاهيم الراسخة والقناعات الأثيرة، ثمّ تضحك.

وفي 'جمانات'، لا يبدو تشظّي الشاعرة كأيّ تشظٍّ، ذلك أنّها بعد أن وزّعت الأدوار على أنفسها المتعدّدة، ومنحت كلّ 'جمانة' منها حوارًا خاصًّا، تركتهنّ يعبّرن عن رغباتهنّ، وانتصرت للعقل الذي أسمته 'جمانة اللئيمة'، بعد أن ألقتْ بـ 'جمانة الحزينة' في البئر كي لا تعود.

في السخرية الشعريّة في 'اعتدت ألّا يراني أحد' تفوّق فنّيّ، يظهر في غير محلّ، ويتجلّى في القطع الأخير، الذي يؤكّد على السخرية من القوانين الأثيرة، والنهايات الكلاسيكيّة.

لا ينتهي الكتاب كأيّ فيلم سينما عربيّ، إنّما ينتهي بعبارات على شاكلة 'انتصر الشرّ'. وإذا أنعمنا التأمّل لوجدنا أنّ في ذلك انحيازًا للواقعيّة، وبعدًا عن الفانتازيا، ألم ينتصر الشرّ مرارًا؟!