"باولا..." لعبد الله الزيود: الحزن هويّة تجمع البشريّة

صورة غلاف "باولا، قصص عن غير الناطقين بها"

لم يعد قتل الأسلاف مجديًا في خلق فعل إبداعيّ جديد؛ على ما يبدو أنّ الجريمة أبشع من أن تلد إبداعًا، وهذا في حدّ ذاته يلسع، يضعنا في مواجهة مع مصير مجهول أو تورّط في الشرّ. الشرّ مادّة خصبة للكتابة، لكن هل يأمن المبدع مكره؟

ربّما لهذا السبب لجأ عبد الله الزيود إلى الفعل المعاكس، عمل على بعث شخوص من شخوص آخرين، موتى بحوادث مفاجئة، أو أناس سيموتون لاحقًا، أو ممّن لن يموتوا أبدًا؛ راح يبعثهم ليرووا قصصهم عليه، وينقلها إلينا عن لغاتهم بلغة عربيّة حلوة وسائغة، على هذا قام كتابه الأخير 'باولا، قصص عن غير الناطقين بها.'

تلاعب بالأدوار

إذا كان عبد الله الزيود يظنّ أنّه قلب شكل القصّة القصيرة وأحدث ثورة في هذا النوع الإبداعيّ، فأراه واهمًا، لكنّه أحدث جمالًا من النوع الحسّيّ. لقد تمكّن هذا الكاتب الذكيّ من أن يحدث تغييرًا في الملتقّي لا في النصّ، تمكّن من ذلك من خلال العبث بدور القارئ، إذ جعله شريكًا في النصّ، وهذه ثورة من نوع أهمّ، فعندما تروي الشخصيّات المستوردة من الخارج قصصها عليك في الكتاب الواقع في 145 صفحة، ستبدأ بالتفكير بحلول: كيف ستحلّ مشكلة جولين، الفتاة السوداء التي تزوّجت جدّتها أبيض، فأصبحت تعامل السود كعبيد لأنّها ارتقت درجة؟ أو كيف ستعيد لميري زوجها المغامر المشهور روبرت غامبل، الذي حاول في عيد ميلادها الأربعين أن يهديها قفزةً بالمظلّة من فوق برج خليفة في دبيّ، إذ كان ينبغي على المظلّة أن تنفتح على عبارة: 'كلّ عام وأنت بخير ميري'، لكنّها بقيت مغلقة حتّى ارتطم بالأرض؟

أناس حقيقيّون

لم يتوقّف التلاعب بالأدوار في 'باولا...' على القارئ، إنّما تعدّى ذلك ليصل إلى دور صاحب القصّة، مالكًا مطلقًا للحقيقة، وأسيرًا لها، وبهذا يصبح أساس بناء، ويصبح الراوي مجرّد مستمع سمّى نفسه في مواضع من الكتاب بـ 'الأزرق'، وكان مستمعًا صامتًا، لا يستطيع تقديم حلول حتّى. لقد ارتكب الكاتب دور القارئ بطريقة هادئة، ودون تصريح بذلك، ودون تعبير عن أيّ إحساس تجاه ما يسمع من قصص؛ لقد تحوّل إلى برّ أمان يتلقّى القصص الحزينة الواردة في الكتاب، وصار متنًا.

أمّا السند، فقد أورده في نهاية كلّ قصّة من هذه القصص التي يصوّر للقارئ أنّها توافدت من أصقاع العالم، فلديه أبطال من الهند، والأرجنتين، وأفريقيا، وكندا، واليابان، وتركيا، وإيرلاندا، وسكوتلاندا، وهونج كونج، وإيران، وأميركا، وزيمبابوي، أناس حقيقيّون، ليسوا غريبي أطوار بالطريقة التي عرفناها في القصّ أو السرد المتخيّل، بل إنّ ما حدث معهم كان غريبًا بما يكفي ليصدم القارئ؛ إنّهم ليسوا منشغلين في السرد، أو في وظائفهم كأبطال قصص، إنّما لديهم مهنهم ووظائفهم الخاصّة التي لا تظهر في متن النصّ ولا تؤثّر فيه، إذ تظهر في هويّاتهم التي وضعها الزيود في الهوامش؛ عمّال نظافة، وشعراء، وعاهرات، وضبّاط، وموظّفات فنادق، ومصوّرون، ومهندسو كمبيوتر، ومدرّسو موسيقى، وموظّفو موارد بشريّة.

كأنّ الزيود يحاول أن يقول إنّ المأساة التي تلمّ بالناس لا تتفقّد وظائفهم أوّلًا، ولا جنسيّاتهم، ولا حتّى أعراقهم، إنّها تعصف بهم دون سبب، حين يكونون وحيدين تمامًا، ومجرّدين من أيّ امتياز، أو إنّها تجرّدهم من هذه الامتيازات، أو على نحو آخر، مثلًا: إنّ العرق أو الدولة أو الوظيفة قد تمنحك امتيازات عديدة، تحميك من الحاجة، أو الجوع، أو أو أو، لكنّها لا تستطيع كلّها مجتمعة أو متفرّقة أن تحميك من الحزن! وبذلك يقترح الزيود 'الحزن' هويّةً تجمع البشر على اختلاف ألوانهم ولغاتهم!

الفصل الأخير من الكتاب، والمعنون بـ ADHD، وهو اصطلاح مختصر لـ 'اضطّراب فرط النشاط الزائد'، اعتمد فيه الكاتب على تشتيت الانتباه والتنقّل من قصّة إلى أخرى، مع الحفاظ على خيط يربط بينها كلّها، في خطوة باتّجاه الهلام السرديّ، أو الكولاج الذي يستقي ملامحه من الشتات السرديّ الممتع، والمقلق في آن.

مساحات جديدة

يحسب أيضًا لعبد الله الزيود أنّه أخذ الكتاب إلى مساحات جديدة لم نعهدها من قبل، فيجدر ذكر أنّه دعّم القصص برسومات من إبداع الفنّانة جنان صالح، التي تمكّنت من تجسيد شخصيّات الكتاب على اختلاف ألوانهم وأصواتهم، وهذا أيضًا جعل من الكتاب مساحة لالتقاء الفنون؛ فنّ الكتابة، وفنّ الرسم، وفنّ الإخراج على نحو ما أيضًا، كما أنّه عمل على إطلاق بعض النصوص بصيغة صوتيّة نُشِرَتْ على تطبيق ساوند كلاود، أدّتها كلّ من لمى رأفت وآلاء أبو عرقوب، كما أنّها متاحة أيضًا عن طريق qr code، وهذا تجديد من نوع خاصّ، أعدّه أهمّ من أيّ تجديد آخر، إذ بإمكانه أن يضع الكتاب في أيدي القرّاء بالطريقة التي يفضّلون. أمّا الغلاف، فصمّمه الروائيّ والفنّان نذير الزعبي.

الكتاب الصادر عن الدار العربيّة للعلوم - ناشرون، هو الكتاب الثاني لعبد الله الزيود، فقد أصدر قبله 'ولم نلتقِ بعد'، عن دار كاف.

 ولكي أخضع نصًّا للمعاينة، اخترت نصًّا قصيرًا من الكتاب:

 

هيناتا

لديّ أملٌ عالٍ، أكاد أسمعه، في يديه خيوطٌ ملوّنةٌ

وبالوناتٌ، يشجّعني بحرارةٍ، وله ابتسامةٌ تُزعزع الحزن

العميق، أملٌ يكفي ليوقف شاحنةً فقدت السيطرة في شارعٍ

سريعٍ وتتّجه نحوي، وأنا ككلّ النساء في اليابان صغيرة

الحجم وأبحث عن حضنٍ دافئٍ يتّسع لأوجاعي، وقد

وجدتُ ذلك فيك، سئمتُ التعلّق بقشّةٍ في نهر الحياة

الدفّاق، أريد أن أتعلّق بك، أريد أن أخسر الرهان على

العائلة وأصير لك.

حبيبي، كنتُ أبحث عن ال (إيكيغاي)* خاصّتي،

فوجدتك فجري، أصحو من أجلك كلّ يومٍ، لا أفكّر

بتسويد أسناني، ولا أعبأ بالضغوط، بتُّ جميلة المآل،

ولم أعهد قبل ذلك إيمانًا أكبر من هذا، متيقّنةً أنّ أحد

الآلهة الطيّبين سيأخذني على متن طائرةٍ إليك في وارسو.

ملاحظة: يقال إنّ ثمّة نساءٌ جميلاتٌ هناك، سأقتلهنّ

جميعًا حين أراك.

36

) * هيناتا ساتو عاملة في خدمة الغرف/ اليابان).

) * رسالة إلى حبيبها ريكاردو العامل في مقرّ الأمم المتحدة في

وارسو، جاء إلى اليابان في زيارةٍ للعمل ونزل مصادفةً في

الفندق الذي كانت تعمل فيه).

) * إيكيغاي: مصطلح يابانيّ يعني الهدف الذي تصحو من أجله

كلّ يوم).

.....

في هذا النصّ كغيره من النصوص، جهد واضح منحه الكاتب للبحث، لقد بحث في الثقافة اليابانيّة، واستطاع أن يتقمّص بذلك مشاعر فتاة يابانيّة، لقد تنقّل جندريًّا، ولغويًّا، وثقافيًّا، ليقول لنا إنّ اليابانيّات يحزنّ أيضًا، يحزنّ على الرغم من التطوّر التنكنولوجيّ، وعلى الرغم من قدرة المباني في بلادهنّ على مقاومة الزلازل، إلّا أنّهنّ لا يستطعن صمودًا أمام الحبّ، فكلّ البشر سواسية أمام مآسيهم، عاجزون، ودامعون.

لقد شعرت كقارئ بالعجز، لم أستطع أن أقدّم لأبطال عبد الله الزيود أيّ مساعدة، فكّرت أن أراسل هيئات الدفاع عن حقوق الإنسان لينقذوا عائلة جولين من جدّتها التي تزوّجت أبيض، لكنّني خشيت أن أتسبّب بتفكّك أسريّ، وحاولت أن أتّصل بميري لأعزّيها في زوجها، لكنّني خشيت أن أفتح جرحًا اندمل، فكّرت في أن أسافر إلى نيو كاسل لآخذ سارة في جولة تمشية على كرسيّها، لكنّني خشيت ألّا تشمّ فيّ رائحة زوجها المتوفّى فتبكي، وتنزل خلسة إلى المشرب...

أغلقت الكتاب على أناس كثيرين يأنّون، ولم أُشْفَ من أنين أناس آخرين حولي!

 

سلطان القيسي

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ من قضاء يافا، من مواليد الثمانينات، يحمل الجنسيّة الأردنيّة ويقيم في عمّان، يكتب في الصحافة العربيّة. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ "بائع النبيّ" عن دار موزاييك - عمّان، و'أؤجّل موتي' عن دار فضاءات - عمّان، وترجمة 'الوطن - سيرة آل أوباما' لجورج أوباما، الأخ غير الشقيق للرئيس الأمريكيّ باراك أوباما، عن مؤسّسة العبيكان، الرياض.